هل حقاً أن المساواة بين الصحابة فضيلة؟
هل حقاً أن الموقف الشيعي المغاير يدينهم؟
***
قضية أخرى تثار في وجه الشيعة دائماً، نجحت المؤسسة الحاكمة منذ
القرن الأول الهجري في جعلها إدانة حاسمة ضد الشيعة:
أن موقف السنة يدين الشيعة، لأن السنة يحبون علياً (ع) والآخرين بينما الشيعة يحبون علياً (ع) ويبغضون
الآخرين.
هذه أجدها كثيراً، وهي تبدو منطقية، ولكنها ليست كذلك، لأن ...
الموقف الشيعي مبني على أدلة لا يمكن التجاوز عليها،
بينما الموقف السني مبني على
قرار حكومي قديم ثم رسخه اصطفاف بعض العلماء معه.
***
القرآن يقول أن الصحابة طوائف:
مؤمنون ، منافقون ، في قلوبهم مرض ، في قلوبهم زيغ ، الذين كفروا
بعد إيمانهم - فكيف يمكن توليهم جميعاً؟
يأتي النبي (ص) في روايات "الحوض"،
التي أخرجها "البخاري"، وبالتالي تلزم أهل السنة،
فيخبرنا (ص) أن الكثير من أصحابه سيدخلون النار،
وهؤلاء لم يكن يعلم بحالهم، لأنه عندما يسأل سيقال له ((إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك))، ما يعني بكل وضوح ما جرى منهم بعد النبي
(ص) من مخالفة له واختلافات وصلت إلى القتال وسفك الدماء المحترمة.
ولكن أهل السنة وجدوا كلاماً غير ناهض، أن المنافقين ليسوا من الصحابة،
وهو ما نجيبهم عليه دوماً:
كيف تمكنتم من معرفة ما في قلوبهم؟ فكيف نعرف منافق أم مؤمن؟
أضف إلى هذا أن أحاديث الحوض تقول في بعضها أن أكثرهم سيكونون من
الخاسرين.
أضف إليه أن مواقفهم اختلفت، بعضها وصلت إلى فشل عظيم، كما في
خروجهم كلهم إلا 12 رجلاً
كما في نص رواية "البخاري" من المسجد تاركين النبي (ص) على المنبر يخطب يوم الجمعة، زاهدين في مواعظه، إلى التجارة واللهو
كما نصت عليه سورة الجمعة –
فهل تساوي بين هؤلاء وعلي (ع) وأبي ذر وعمار وحذيفة والمقداد وأبي أيوب وبلال مثلاً؟
فإذا جئت إلى التاريخ الصحيح
المتفق عليه دون شك، هل أن علياً (ع) في بدر وأحد والأحزاب وحنين يساويه
الآخرون ذوو المواقف التي تعلمها من هروب وقعود وصلت إلى الشك في النبوة ((ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً)) التي لم يقلها المنافقون وحسب، ولكن معهم "الذين في قلوبهم مرض" بنص القرآن؟
فكيف يريدون من الشيعة أن يساووا بين الجميع؟
الشيعة "يفخرون" أنهم لا يساوون بين الجميع - ليس فقط علي (ع) وحده،
ولكن من ثبت في المواقف ولم يخالف النبي (ص) في
حياته وبعد مماته، وهم صحابة كثر رضوان الله عليهم.
***
دليل
معاوية يؤيد هذا المبدأ الباطل غير المنطقي
إنه من أوضح الأدلة على أن الخلاف حول الصحابة لا يتعلق
بالصحابة الثلاثة:
أبي بكر + عمر + السيدة عائشة
فإن هؤلاء الثلاثة، صحيح قد وضعوا في موضوع لا يُنال –
وكيف لا والأحكام الشرعية في صريح القرآن تضرب لأجلهم، وأوامر النبي (ص) أيضاً،
والغيرة عليهم أشد من الغيرة على النبي (ص) (وكما بينا مراراً)؛
فإن الموقف من "معاوية بن أبي سفيان" يكشف أن
المسألة تتعلق بجميع الصحابة الذين كانوا سادة السلطات الحاكمة عبر القرون.
فمعاوية هذا عدد الناس له المخالفات الشرعية، فكانت
هائلة، ولكن بخصوص الصحابة أنفسهم، فإن ذلك المنافق الكبير قام بما يلي:
1- حارب سيد الصحابة علي (ع)، ومع ولديه الحسن والحسين (ع).
2- في تلك الحرب كان "غالبية" الصحابة في جيش علي
(ع)، وعليه فإن معاوية حارب أغلبية الصحابة.
3- إستشهد مع علي (ع) في تلك الحرب 80 بدرياً، فلم يبق
بعدها بدري واحد، واستشهد أكثر من 700 رضواني، فلم يبق بعدها سوى أقل من 20
صحابياً حضروا بيعة الرضوان/الشجرة مع النبي (ص).
4- شتت الأمة الإسلامية في حربه.
5- ثم شتتها في سلمه بعد أن جعلها ملكية (أو هرقلية كسروية
على حد تعبير "عبد الرحمن بن أبي بكر" – صحابي كبير إبن أكبر الصحابة
عند أهل السنة) وفي ولده الفاسق بأنواع الفسق، المجاهر به.
6- أمر بـ "سب" علي (ع) من على المنابر + كان
يسبه هو طبعاً + كان يتحرّى السب من الصحابة أنفسهم (كما روى مسلم في صحيحه كيف
أنه سأل سعد بن أبي وقاص لماذا لا يسب علياً (ع)).
7- تآمر على قتل علي (ع) – وهذا حسب اعتقادي الشخصي (أولاً
لأنه من النكات السائدة أن 3 من الخوارج يجلسون ويبحثون ثم يقررون قتل علي (ع)
ومعاوية وعمرو، وأسخف ما فيها أنهم ينجحون مع علي (ع) وحده! ثانياً لأن أبا الأسود
الدؤلي (رض) اتهم معاوية بوضوح عندما خاطبه بالقول:
ألا
ابْلِغْ معاويةَ بْنَ حربٍ ** فلا قرّتْ عيونُ الشامتينا
أفي
شهر الصيامِ فجعتمونا ** بخيرِ الناسِ طُرّاً أجمعينا
في
اتهام واضح)، وهذا يكفي في رميه بالنفاق دون شك.
8- لأنه قتل الصحابي "حجر بن عدي" وسبعة من
الأبرار معه (رضوان الله عليهم)) لأنهم رفضوا أن يعلنوا البراءة من علي (ع).
فاجمعوا هذه الكوارث تجدوها بالألوف المؤلفة من الجرائم.
تأتي أصوات قليلة من أهل السنة – علماء (كالشيخ أحمد
الكبيسي) أو باحثين (كعدنان ابراهيم) – تدين ذلك المجرم المنافق الكبير، فتنقلب
الدنيا على رؤوسهم كما يعلم الجميع.
فإذا كانت إدانة هذا المنحرف المنافق صاحب الجرائم
الكبرى لا تجوز في عرف الآخر، فأي بحث منطقي أو شرعي يمكن إقامته بحق من هم أفضل
منه بالسابقة والقرب من النبي (ص) الخ؟
***
في المنشورين القادمين سآتي بمثالين يفرّقان بين مواقف
الصحابة، وعلى عهد النبي (ص)، ومما لا علاقة له بعلي (ع) وأهل البيت (ع) – فالقضية
ليست شيعية كي يتم التغاضي عنها من المعقدين من الشيعة...
هل المساواة بين الصحابة فضيلة أم خطأ؟
مثال
رقم 1
من
"يشجّع" ومن "يثبّط" – هل يستوون؟
***
بعد أن
علمت قريش باستهداف المسلمين لقافلة التجارة التي على رأسها أبو سفيان بن حرب قررت
الخروج لقتال المسلمين. وصلت الأخبار إلى النبي (ص)، فاستشار أصحابه في الأمر،
ليعلم مدى استعدادهم للقتال.
فماذا
قالوا؟
موقفان
متناقضان:
الأول
وقفه صحابيان كبيران – أبو بكر وعمر –
الثاني
وقفه صحابيان كبيران أقل منزلة عند معظم المسلمين – المقداد بن الأسود وسعد بن
معاذ –.
***
روى
الرواة:
"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أشيروا علينا)).
فقال أبو بكر: أنا أعلم بمسافة الأرض، أخبرنا عدي بن أبي الزغباء أن
العير كانت بوادي كذا .
وقال عمر: يا رسول الله
، إنها قريش وعزها، والله ما ذلّت منذ عزّت ولا آمنت منذ كفرت، والله
لتقاتلنّك، فتأهّب لذلك.
فقال (ص) : ((أشيروا علي)).
قال المقداد بن عمرو: " إنا لا
نقول لك كما قال أصحاب موسى (( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون))، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون ".
فقال (ص): ((أشيروا علي)).
فلما رأى سعد بن معاذ كثرة استشارته
ظن سعد أنه يستنطق الأنصار شفقاً أن لا يستحوذوا معه، أو قال:
أن لا يستجلبوا معه على ما يريد، فقال: لعلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم تخشى
أن لا تكون الأنصار يريدون مواساتك، ولا يرونها حقاً عليهم، إلا بأن
يروا عدواً في بيوتهم وأولادهم ونسائهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب
عنهم:
فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا
ما شئت، وما أخذته منا أحب إلينا مما تركته علينا، فوالله لو سرت حتى
تبلغ البرك من غمد ذي يمن لسرنا معك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيروا
على اسم الله عز وجل فإني قد رأيت مصارع القوم)). فعمد لبدر".
دعونا نفهم من النص ما يفهمه أي عربي عاقل ثم نأتي بنصوص كاشفة
بشكل أوضح:
1-
النبي (ص) يريد القتال لأنه أخبرهم آخر
المشاورة أنه كان قد رأى مصارع القوم.
2-
لم يقل أبو بكر شيئاً سلبياً أو إيجابياً
بخصوص المشاورة.
3-
وقف عمر بن الخطاب موقفاً
"مثبّطاً"، يخوف النبي (ص) بعزّة قريش وأنها ستقاتله (ص) مع التوكيد
بنون التوكيد الثقيلة.
4-
تعالوا إلى المقداد – إقلب تُصب – وقف (رض)
موقف "المشجّع" مبيناً الاستعداد للقتال، مشيراً إلى موقف اليهود من
موسى (ع) (ولا أدري لعله كان غمزاً في قناة عمر أيضاً).
5-
ثم سعد بن معاذ، سيد الأوس، ذلك الموقف الذي
عندما أقرأه تغرورق عيني بدموعها لهذا الإيمان والحب الطاغي في قلب ذلك المؤمن
الصادق، والذي لا يسمح لقومه الأنصار أن يتخذوا أي موقف غير ما يحبه الله ورسوله
(ص).
***
صحيح مسلم يكشف الحقيقة أكثر
أخرج مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر:
"حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي
سفيان، قال:
فتكلم أبو
بكر "فأعرض عنه" عنه،
ثم
تكلم عمر "فأعرض عنه"،
فقام سعد
بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن
نخيضها البحر لخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا".
إذاً،
ما قاله أبو بكر وما قاله عمر كان مما لم يحب النبي (ص) سماعه،
بينما
ما قاله سعد – وهنا سعد بن عبادة الخزرجي وليس سعد بن معاذ – كان مشجعاً مبيناً
استعداد الأنصار لخوض البحر والقتال حتى أماكن بعيدة حسبما يأمر النبي (ص).
Bottom of Form
وروى البخاري
قول المقداد:
"يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
((فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ))، ولكن إمض
ونحن معك! فكأنه سُرِّيَ عن رسول الله)).
أي أنه (ص) كان مكتئباً مما سمعه من الشيخين ثم جاء قول المقداد
فأدخل السرور عليه (ص).
***
ولكن
تعال إلى "أحبار الكتمان والكذب الصريح"!
المثال
الأول / موقع "قصة الإسلام" – د. راغب السرجاني
(وهو
من أعداء الشيعة في زماننا)
قال:
"قام
المستشار الأول لرسول الله أبو بكر الصديق وأيد الحرب ضد الكافرين، وكذلك قام المستشار الثاني
عُمَر بن الخطاب فقال نفس الكلام،
ثم قام المقداد بن عمرو وقال كلامًا رائعًا، هذا الكلام الذي قاله المقداد
علَّق عليه عبد الله بن مسعود بعد ذلك وقال: "شهدت من المقداد بن الأسود
مشهدًا، لأن أكون صاحبه أحبُّ إليَّ مما عدل به". أي أنه ليس هناك موقف أحسن
من ذلك الموقف".
فأين
– يا ناس – "أيّد أبو بكر الحرب ضد الكافرين"؟!
وأين
أيدها عمر أيضاً؟!
وأضاف
الكذاب، بعد أن أورد قول المقداد (رض):
"رسول
الله سُرَّ كثيرًا بكلام المقداد، ومن قبله بكلام أبي بكر وعمر، لكنه ما زال يطلب
الاستشارة".
بالله
عليكم – هل أن رسول الله (ص) سُرّ بكلام أبي بكر وعمر؟ لماذا إذاً "أعرض
عنه" كما روى مسلم في صحيحه؟! هل يعقل أنه يعرض عن كلام لو لم يكن كلاماً
مزعجاً؟!
ولا
يكتفي بالكذب، ولكن يلتقطها فرصة لتجميل صورة الشيخين:
"وقد
كان رسول الله في مواقف كثيرة يكتفي باستشارة أبي بكر وعمر، ويقول: "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما".
ولكنه هنا ما زال ينتظر استشارة، وحتى بعد كلام المقداد، فلماذا؟"
فانظر
إلى جعله الاستشارة في الأصل تكفي في الشيخين، فكأن هذا كان ديدن النبي (ص)، يسمع
لهما ويطيع ولكن بشرط اجتماعهما على الرأي!
فيتساءل
عن السبب وراء استمراره (ص) في طلب المشورة، مع إضافة "وحتى بعد كلام
المقداد" – أي أن كلام "المقداد" نافلة ليس إلا، لأن الأصل في
الفريضة الاستشارية هي للشيخين!
(طبعاً،
هو يعلم أن المقداد هو أشد الصحابة تشيعاً لعلي (ع) – وقد ورد فيه من الباقر (ع)
قولاً يرفعه على سائر شيعة علي (ع) من الصحابة؛ فلعل هذا سبباً آخر يدفعه إلى
الكذب.)
***
"فقال
وأحسن"!
في
بعض المصادر التاريخية القديمة ككتاب المغازي للواقدي والأحدث ككتاب إمتاع الأسماع
للمقريزي الكذب بمفردات أخرى:
"فاستشار الناس، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن،
ثم قام عمر فقال فأحسن ..." ثم ذكروا قول عمر.
فهل
لو كان قول عمر حسناً كان النبي (ص) أعرض عنه؟!
وهل
لو كان قول أبي بكر حسناً – وهو ما لم يذكروه – كان النبي (ص) أعرض عنه؟!
واللطيف
أنني وجدت البعض من نابتة دهرنا ممن هيأت لهم شبكة الانترنت أن يكذبوا كما يشاؤون،
وأن يضيفوا إلى الكذب الوقوع في المفارقات المذهلة، وجدتهم يكذّبون الواقدي
والمقريزي – لماذا؟
لأن
"الواقدي" كان شيعياً متخفّياً، و "المقريزي" كان حسيني
النسب؟!
فهل
أن الشيعي المتخفي يغطي على الموقف البائس لأبي بكر وعمر أم ينشره؟!!!!
وهل
أن حسيني النسب صار متهماً لأجل نسبه؟! ما هذا النصب إذاً؟!
***
أسأل
كل من يقرأ التاريخ، ومن يقيم وزناً للتاريخ، ومن يقيم وزناً لمنهاج القرآن في قصص
الأمم الماضية، ومن يقيم وزناً لما يحبه الله ورسوله (ص):
هل
يمكن وضع موقف أبي بكر و عمر على قدم المساواة مع موقف المقداد وسعد بن معاذ (أو
سعد بن عبادة حسب اختلاف الروايات)؟
هل
المساواة بينهما تكون حباً بالصحابة أم تكون ظلماً لهم بالإطار العام، وظلماً
للمقداد وسعد في هذه الواقعة بالخصوص؟
قال تعالى في سورة البقرة:
((فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ)).
(يتبع
مثال رقم 2 في المنشور القادم)
***
مثال 2
/ عمار في القرآن وطلحة في القرآن
المثال الثاني مما أثبته القرآن لموقفين في قضيتين
مختلفتين، نستفيد منهما ما نفهمه من حكم القرآن من كل من الصحابيين الكبيرين –
عمار بن ياسر وطلحة بن عبيد الله.
***
عمار: الإخبار بالإيمان العظيم مع التلفظ بالكفر!
يعرف المسلمون جميعاً قصة عمار (رض) مع قريش في بداية
الدعوة وقد صارت تعذب المسلمين الأوائل، وكيف أن الكفار صاروا يعذبون ياسراً وسمية
والدي عمار أشد العذاب إلى أن استشهدا رضوان الله عليهما كأول شهيدين في الإسلام،
وكيف أن عماراً كان تحت التعذيب الشديد، فوافق على طلب
قريش أن يتبرأ من النبي (ص) ويتلفظ بكلمة الكفر في إعلاء شأن صنمهم الأكبر هُبَل.
فعل عمار ذلك، وجاء النبي (ص) يبكي ويخبره بسبب ذلك.
وإذا بالنبي (ص) يمسح دموعه ويأمره أن يعود إلى
الاستجابة إلى طلبهم إذا ما عاودوا!
أكثر من ذلك، فقد أعلن
النبي (ص) ((مُلئَ عمار إيماناً إلى مشاشه)) كما روى النسائي في سننه.
قال المناوي في فيض القدير مفسراً هذه
الكلمة:
"يعني اختلط الإيمان بلحمه ودمه وعظمه،
وامتزج بسائر أجزائه امتزاجاً لا يقبل التفرقة، فلا يضره الكفر حين أكرهه عليه
كفار مكة بضروب العذاب، قال في الفتح: وهذه الصفة لا تقع إلا ممن أجاره الله من
الشيطان الرجيم ."
يشير إلى قول مفسر صحيح البخاري لما رواه البخاري
في صحيحه عن علقمة:
" قَدِمْتُ الشَّأْمَ ، فَقُلْتُ: مَنْ هَا
هُنَا؟ قَالُوا أَبُو الدَّرْدَاءِ، قَالَ: أَفِيكُمُ الَّذِي أَجَارَهُ اللَّهُ
مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ -
يَعْنِي عَمَّارًا" .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:
"واتفقوا على أنه نزل فيه: (( إِلَّا مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ))".
فهذا "عمار بن ياسر" يتلفظ بكلمة الكفر
فيأتي القرآن ليخبرنا أن قلب عمار "مطمئن بالإيمان".
أتعلمون ماذا يعني هذا؟
أن عماراً وصل الغاية في الإيمان، لأن القرآن
نفسه أخبرنا عن طلب إبراهيم (ع) عندما طلب رؤية إحياء الموتى وسأله الله تعالى
((أَوَلَم تؤمن؟))
أجاب عن الذي يريده: ((بلى، ولكن ليطمئن قلبي)).
هذه هي الشهادة القرآنية بحق "عمار بن
ياسر".
***
فما هي شهادة القرآن بحق "طلحة بن عبيد
الله"؟
عند غالبية المسلمين "طلحة بن عبيد
الله" أفضل من عمار، لأنه "من العشرة المبشرين بالجنة".
فإذا كان أعلى من عمار الذي هو "مملوء
إيماناً بكله" وأن قلبه ((مطمئن بالإيمان)) حسب شهادة الله ورسوله (ص)، فإن
طلحة سيكون بمستوى المعصومين أو أقل قليلاً.
ولكن لننظر في الذي قاله القرآن بحق طلحة في قضية
محددة:
"حجاب نساء النبي (ص) + حرمة الزواج منهن
بعد وفاته (ص)".
رووا روايات متعددة خلاصتها:
طلحة بن عبيد الله انزعج من نزول آية حجاب نساء
النبي (ص) ((وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب))،
فقال بما رواء السيوطي:
"عن ابن
عباس، أن رجلاً أتى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فكلمها وهو ابن
عمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا. فقال: يا
رسول الله إنها ابنة عمي، والله ما قلت لها منكراً، ولا قالت لي . قال النبي صلى
الله عليه وسلم: قد عرفت ذلك؛ إنه ليس أحد أغير من الله، وإنه ليس أحد أغير مني.
فمضى ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمي! لأتزوجنها من بعده. فأنزل الله هذه الآية،
فأعتق ذلك الرجل رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله، وحج ماشيا توبة من
كلمته".
وبما أنه كانت السيدة عائشة فقط
من لها ابن عم من الصحابة المعروفين، علمنا أنه "طلحة بن عبيد الله
التيمي".
على أن روايات أخرى صرحت:
"عن ابن عباس ... قال : نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم
بعده. قال سفيان: ذكروا إنها عائشة".
وأخرى " قال رجل : لئن
مات محمد لأتزوجن عائشة فنزلت" الآية.
هذا الكلام "آذى رسول الله
(ص)":
"بلغ النبي صلى
الله عليه وسلم أن رجلاً يقول: لو توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت فلانة
من بعده. فكان ذلك يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآن ((وماكان لكم أن
تؤذوا رسول الله)) الآية.
ثم رووا قول "طلحة" نفسه:
"أيحجبنا محمد عن
بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده! فنزلت
هذه الآية".
وصرح أكثر:
"لو قبض النبي صلى الله
عليه وسلم تزوجت عائشة، فنزلت" الآية.
والروايات متظافرة في سنن
البيهقي وطبقات ابن سعد وتفسير الدر المنثور وغيرهم.
فكيف دافعوا عن طلحة؟
جاءوا بشخص آخر اسمه "طلحة"!
"قد قال ابن حجر رحمه الله
في (الإصابة) عند ترجمة: (طلحة بن عبيد الله بن مسافع بن عياض بن صخر بن عامر بن
كعب بن سعد بن تميم التيمي):
"يقال هو
الذي نزل فيه ((وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله..)) الآية، وذكره أبو موسى في
الذيل عن ابن شاهين بغير إسناد؛ وقال: إن جماعة من المفسرين غلطوا فظنوا أنه طلحة
أحد العشرة."
فانظر إلى "يُقال"
وأنه "في الذيل" و إلى اتهام المفسرين أنهم "غلطوا"، ومحاولة
التعكز على عدم تسمية ابن عباس للقائل الخ.
ولكن هذا الدفاع ساقط بما رده
علماء معاصرون أورد بعض الوهابية منهم:
"لكن الذي يشكل هنا أن
طلحة هذا متأخر الولادة، فجده (مسافع بن عياض) له صحبة؛ وهو الذي هجاه حسان بن
ثابت رضي الله عنه. فسقط كونه هو"!!!!!!!!
يعني جاءوا بشخص اسمه
"طلحة" وهو من عشيرة أبي بكر "تيم" ليوهموا الناس أنه هو
المقصود كونه ابن عم عائشة، ولكن مع الأسف ذلك الرجل كانت "صحبته للنبي (ص)
من خلال صحبة جده قبله بعقود"!
هكذا هي الأمانة العلمية، وهكذا
التعامل مع الله في كتابه ورسوله (ص) في شؤونه الخاصة جداً.
النتيجة = طلحة بن عبيد الله
"آذى النبي (ص)"
ودليله أن الرجل نفسه قام بالحج
وبالذبائح للتخلص من تبعة ذلك.
فلماذا قام بذلك؟
لأن "إيذاء النبي
(ص)" = العذاب في الآخرة ((وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))
براءة:61
ولا نحكم على طلحة بخصوص هذه
القضية، لأن ما عندنا في المقام لا يصل إلى نتيجة:
إبن عباس / قال أن طلحة قام
بالأعمال العبادية من أجل التكفير عن إيذاء النبي (ص)
عمر بن الخطاب / قال يوم الشورى
بعد أن عين طلحة ضمن الستة، قال له:
"ولقد مات رسول الله
ساخطاً عليكم بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب".
فعمر يقول أن النبي (ص) بقي
ساخطاً على طلحة.
***
بالجملة:
القرآن يعلن: "عمار بن
ياسر وصل القمة في الإيمان" وأن النبي (ص) أكد أنه مملوء إيماناً من رأسه إلى
قدمه، وأنه قد منعه الله تعالى من الشيطان الرجيم؛
والقرآن يعلن: "طلحة بن
عبيد الله آذى النبي (ص)"، دون أن يخبرنا القرآن أن الله تاب عليه (بل أخبرنا
عمر أن النبي (ص) بقي ساخطاً عليه حتى وفاته (ص)).
فهل من الإنصاف المساواة بين
الرجلين؟
فكيف نزيدها أن نقدم طلحة – فهو
من العشرة المبشرين بالجنة – على عمار؟