· المقال موضوع البحث بعد الرد هذا.
في صفحة "من روائع الماضي" بمجلة الأزهر أعادت مجلة الأزهر المصرية الصادرة عن الجامع الأزهر نشر مقال "طوائف: بهائية بكتاشية ثم جماعة التقريب" للشيخ عبد اللطيف محمد السبكي ومن إعداد عبد الفتاح حسين الزيات، إن صاحب المقال الشيخ السبكي قد توفّاه الله تعالى منذ زمن ولم يعد هناك مجال للتباحث معه بشأن ما جاء في مقاله، ولا ندري إن كان قد رجع عن آرائه التي في المقال. إلا أن الغاية من نشر المقال في هذه الأيام، وإثارة الضغائن التي يسببها، أسوة بما يشبهه من مقالات وفتاوى تصدر يومياً ضد شيعة أهل البيت(ع)، الذين يبدو أن بعض الدوائر الدينية قد تفرغت للهجوم عليهم ونسيت أن هناك يهوداً ونصارى وصليبيين وهندوساً وصربيين ومشركين وملاحدة من مختلف الألوان يعملون ضد الإسلام ليل نهار، دفعنا للرد عليه.
لا شك أن هذا المقال لن يقوم إلا بالعمل على تمزيق الصف الإسلامي وخلخلة أسسه "الذي كان ولا يزال مطلباً عزيزاً عند الأعداء ومن لفّ لفّهم" وهي العبارة الأولى من المقال ذاته!
أول ما يدعو للعجب هو عنوان المقال حيث جاء بالبهائية وألصقها بالبكتاشية الذين هم شيعة أتراك، وبجماعة التقريب الذين هم مجموعة من العلماء السنة والشيعة اجتمعوا بقصد تقليص الفجوة بين الطائفتين، فالبهائية دين ليس له علاقة بالإسلام وبالتالي فليس له علاقة بالتشيع. فحال البهائية (الذين كان علماء الشيعة أول من حاربهم) كحال الهندوس والسيخ، بل وبعض أهل الكتاب الذين ألّهوا أحد عباد الله وجعلوه لهم ربّاً أو شريكاً له، وهم الذين دعا الشيخ في آخر فقرة من مقاله إلى "احترام عقائدهم وذلك بالالتزام بالدستور الذي يصون حرية العقيدة المعترف بها في الديار لأهل الكتاب"!!
وأكّد الشيخ على هذا المعنى بقوله: "حتى ليرغّب الإسلام إلى أهله في التكتل والتضامن مع أهل الكتاب، والتعاون معهم في الشؤون المدنية والارتباط بهم في المعاهدات، والأنساب، متى ما كان ذلك التآخي الإنساني في غير مساس بالتقاليد الإسلامية".
إذاً، لماذا يرغّب الإسلام إلى أهل السنة (وهم المعنيون بقول الشيخ "أهله") أن يتضامنوا مع اليهود والنصارى ويتعاونوا معهم ويرتبطوا بمعاهدات ويتناكحوا، ولا يرغب إلى أهل السنّة أن يفعلوا المثل مع المسلمين الشيعة؟
لا ريب في أن إعادة نشر المقال الآن يهدف إلى تأكيد الموقف الحكومي من التصالح مع اليهود (وهو المقصود بكلمة "الارتباط بهم في المعاهدات"). وهذا لن نضيع الوقت في مناقشته، إذ تكفّل القرآن بذلك وبما لا يدعُ مجالاً للفّ والدوران لأي مسلم حتى وإن كان يتزيّى بزيّ علماء المسلمين ويحمل ما شاء الله من شهادات أزهرية وغيرها. لكننا سنحاول معرفة السبب الذي دفع الشيخ السبكي إلى وضع شيعة آل محمد(ص) في منزلة أوطأ من اليهود والنصارى بحيث لا يمكن معاملتهم معاملة هؤلاء، فهل أتى الشيخ بما يثبت دعواه؟
1. قال: "وقد كان تحزبهم –يعني تحزب الفاطميين لعلي بن أبي طالب- ثغرة نفذ منها خصوم الإسلام الذين غاظهم أن تكون له تلك الوحدة المتماسكة، ولم يجدوا وسيلة إلى النيل من قوته أقرب إليهم من التظاهر بالتفاني في الحب، وفي التشيع لآل البيت من ذرية علي خاصة".
"وسواء أكان التشيع في أصله غيرة صادقة على بيت النبوة، أم كان حقاً أريد به باطل، فقد استتر به من يعنيهم اقتلاع شجرة النبوة من أصلها، واستطاعوا أن يفتحوا على الإسلام أبواب الفتنة، وأن يشقّوا وحدة المسلمين..".
نقول: نسأل لماذا يكون تحزب الشيعة (لأن الشيعة ليسوا الفاطميين فحسب، فهؤلاء جماعة من الشيعة أسسوا الدولة المعروفة باسمهم في مصر والمغرب العربي، وأسسوا الجامع الأزهر الذي درس فيه الشيخ وتعلّم) لعلي بن أبي طالب وأهل البيت(ع) ثغرة نفذ منها خصوم الإسلام، ولم يكن تحزب أهل السنة لمعاوية وبني أمية وغيرهم كذلك؟
هل لأن تعاليم علي وأهل البيت(ع) كانت تعاليم منحرفة وتعاليم معاوية وأتباعه تعاليم إلهية صحيحة؟ أم أن علياً وأولاده كانوا غير متصلبين في الدين بحيث تيسّر لخصوم الإسلام أن يتسلّلوا عن طريقهم، لا عن طريق ابن أبي سفيان الذي كان وأتباعه لا يرضون المساومة على المبادئ الإسلامية بدليل قتالهم للإمام المبايع، وقتلهم العابدين الزاهدين صبراً، ومخالفتهم الصريحة لأوامر رسول الله(ص)، وتصييرهم خلافته(ص) ملكاً كسروياً هرقلياً لا تزال الأمة تئنّ من جراحه إلى يومنا هذا؟!
لماذا يستعمل أعداء الإسلام التشيع لأهل البيت(ع) الذين لم يساوموا على المبادئ ولا للحظة واحدة من حياتهم الزكية، وتعرّضوا وشيعتهم إلى ما سطّرته كتب التاريخ التي لا بد وأنّ الشيخ قد قرأها أو بعضها؟
إن المنطقي والمعروف من سيرة البشر أن الانحراف يبدأ من الابتعاد عن المبادئ ومن المساومة عليها، ومن ثم يمكن للأعداء الخارجيين أن يتسللوا عبر هذه المساومات وأصحابها. أما أن يتسللوا عن طريق أصحاب المبادئ أنفسهم فهذا غير ممكن.
2. قال: "ومن ذلك.. يتبين أن كل شاذ عن الجماعة وكل داع إلى نحلة تباين الأصل ولو قليلاً وتشق المسلمين أو نفراً منهم يعتبر منتقضاً على الدين في أساسه، ونابذاً لتوجيهاته.."
نقول: إن الشيعة، أسوة بالسنّة، يعتقدون أن ما هم عليه هو النظام الإسلامي الصحيح، وهو الأصل، وأن الآخرين ما عندهم سوى بعضه. والسبب في ذلك هو ترك الآخرين لأئمة أهل البيت(ع) الذين أمر الرسول(ص) باتّباعهم وطاعتهم لأن عندهم الأصلين الأساسيين: الكتاب والسنّة، أي التفسير الصحيح لآيات الكتاب، والتفاصيل الكاملة لسنن جدهم رسول الله(ص) والتي لا يعرف الكثير منها غيرهم لأنها كانت قد لقّنها النبي(ص) علياً(ع) بالخصوص معرفة منه وممن أرسله سبحانه بأن الأمة تحتاج إلى رعاية لفترة أطول كثيراً من حياته(ص) ولأنها ستحتاج إلى حل المعضلات المستجدة في الزمان الآتي بعد وفاته(ص).
ولهذا السبب لم يحتج الأئمة(ع) إلى غير هذين الأصلين، في حين أن غيرهم كان محتاجاً إلى القياس والاستحسان والمصالح المرسلة والرأي لأنهم كانوا يجدون أنفسهم في مواجهة مشاكل يعوزهم لمواجهتها وحلّها العلم الموجود عند الأئمة(ع)، فكانوا يلجأون إلى مثل هذه الطرق التي لم يأمر الله بها رسوله(ص).
نعم، يعتقد الشيعة أن ما هم عليه هو الصحيح، ولكنهم لا يعتقدون بأهل السنة ما يعتقده الشيخ بهم – أي الشيعة - من أنهم نحلة تباين الأصل وتشق المسلمين، وإنما يعتبرونهم إخواناً لم يوفّقوا بسبب التجهيل عبر القرون إلى اتّباع مَن أمر الله باتّباعهم، وبشكل لا يدعُ مجالاً للشك فيه بلحاظ الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة الكثيرة التي منها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ، وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ والتي أجمع المفسرون على نزولها في علي(ع) عندما تبرع بالخاتم للسائل وهو راكع في المسجد.
ومنها قول رسول الله(ص): ‹‹تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي›› وهذا أمر صريح بالتمسك بأهل البيت كما يُتمسّك بالقرآن وإلا تعرّضت الأمة للضلال، وهو ما حصل مع الأسف.
3. قال: "ومع أن للإسلام خصوماً سافرين يقاومونه، ظلّ الإسلام يحتمل التخاذل من المحسوبين عليه.. ولأن في أمته والحمد لله جمهرة عظمى تعتز بصلابتها في الحق وتنحّيها عن التشقق، ورجوعها إلى صراطه المستقيم ووقوفها عند المورد العذب: من الكتاب والسنّة والمأثور عن السلف من أصحاب محمد، الناهجين منهجهم من الأئمة المعتدلين، وذلك سبيل المؤمنين".
نقول: نوافق الشيخ بأنه في أمة الإسلام جمهرة عظمى تعتزّ بصلابتها في الحق، ولكننا لا نوافقه أن هؤلاء هم من أهل السنّة خاصة، لأن القرآن والسنّة والتاريخ يحدثوننا أن الشيعة يمثلون قسماً من هذه الجمهرة، بل إنهم المصداق الحقيقي لها.
فالقرآن ينعت الشيعة بأنهم حزب الله الغالب، كما في آية الولاية التي مرّت أعلاه ﴿فإن حزب الله هم الغالبون﴾ لأنهم تولّوا علياً(ع). ولا يهم أن يكون الشيعة هم الأقلية والسنّة هم الأكثرية، فإن السبب في ذلك كان الاضطهاد والقتل والسبي والإرهاب بل وتبديل المذهب عنوة كما حدث في مصر التي لو لم يكن قد جرى على أهلها سيف الأيوبيين لكانت مصر اليوم كلّها أو أكثرها شيعية، وكان يمكن للشيخ أن يكتب مقالاً مناقضاً لهذا المقال!
ويقول الرسول(ص) عن الطائفة المنصورة من أمته ‹‹لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرّهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله – أو حتى تقوم الساعة›› وهي تشير إلى أن أهل الحق هم طائفة صغيرة نسبة إلى المخالفين وهو واضح خصوصاً لعالم أزهري.
ولا نوافق الشيخ في أن الأمة نجت باتّباع "المأثور عن السلف من أصحاب محمد"، بل لا نوافقه على القول ذاته لأنه يجعل من فعل الصحابة أصلاً يرجع إليه حتى وإن خالف الكتاب والسنة، وهو الذي حصل مع الأسف الشديد من قبل علماء أهل السنة، بدليل إصرارهم على الصيام في السفر في حين أن الرسول(ص) وصف الذين أصرّوا على ذلك بقول ‹‹أولئك العصاة أولئك العصاة››، وبدليل قيامهم الجماعي في صلوات التراويح في شهر رمضان والتي وصفها من وضعها من عنده بأنها بدعة بقوله ‹‹نعمت البدعة هذه››، وبدليل متابعتهم وموالاتهم لأهل الزيغ والأهواء من الذين حاربوا علياً طمعاً بالملك، خصوصاً معاوية بن أبي سفيان (الذي دعا له الشيخ في مقاله بالرضوان) الذي خالف أمر النبي(ص) علناً بإلحاقه زياداً بأبيه أبي سفيان مع أن الرسول(ص) قال: ‹‹الولد – هنا زياد للفراش- هنا لعبيد- وللعاهر- هنا سمية الفاجرة- الحجر››. وأخذ الخلافة لابنه السكّير العربيد المتهتك الذي تربّى في أحضان النصارى (الذين يدعو الشيخ إلى صيانة عقائدهم عملاً بالدستور). وهذه، أي استخلاف يزيد بعدما تعهد بالامتناع عن ذلك في صلحه مع الحسن(ع) تعدّ أكبر خيانة لله ورسوله والمسلمين، لأنه كتب في أسفل صحيفة الصلح التي أرسلها بيضاء مختومة بخاتمه ليمليها الحسن كما يريد، كتب "وعلى معاوية بذلك عهد الله وميثاقه وما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء بما أعطى الله من نفسه".
ومن ثم آخرين كعمرو بن العاص الذي "لا زالت سوءته – التي كشفها يوم صفين – تقبّح وجه التاريخ" كما قال الشاعر، وأبو هريرة الدوسي الذي خدم معاوية بما يستطيع من إمرة ومن وضع أحاديث كاذبة، والذي كفانا مؤونة فضحه زميل للشيخ السبكي هو المرحوم الشيخ محمود أبو ريه في كتابه "شيخ المضيرة".
لم يأمر الرسول(ص) باتّباع أحد سوى علي وأولاده من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، كما في قوله(ص› ‹‹تركت فيكم.. ›› المار أعلاه، وكما في قوله: ‹‹النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتهم قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس››، وقوله: ‹‹والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلا بمعرفة حقنا››، وقوله: ‹‹لا تزولا قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله فيما أنفقه ومن أين اكتسبه، وعن محبتنا أهل البيت››، وقوله: ‹‹لا يبغضنا أحد، ولا يحسدنا أحد، إلا ذيد يوم القيامة بسياط من نار››، والتي يبدو أن الشيخ لا يعتقد بجريانه على معاوية غير المبغض بل المحب جداً لأهل البيت بلحاظ حربه لهم ولمواليهم حرباً لا هوادة فيها.
والسبب في هذه الأوامر هو أن الأئمة(ع) عبيد مؤهلون لحمل مسؤولية قيادة الأمة وتعليمها بعد النبي(ص) القائل: ‹‹في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله فانظروا من توفدون››. وهو قول ينسف ما قاله الشيخ نسفاً لأن الشيعة الذين اتّهمهم بالانحراف هم في الواقع من يتبع أهل البيت الذين ينفون عن الإسلام التحريف والانتحال والتأويل الفاسد. وإلا ليخبرنا الشيخ ومن على رأيه عن كيفية معرفتهم بأنهم على الهدى وهم يخالفون الأئمة المنصوبين أعلاماً للهدى.
4. قال: "ولا نرضى بالتشاغل عن المصدر الأول في التشريع الإسلامي، التفرغ للأشخاص ممن ننصبهم أئمة، ونخلع عليهم من المدائح كل باطل، حتى ندعم تلك الدعاوى المكذوبة بما ليس يثبت من الطرق الصحيحة".
نقول: بأن الطريق الصحيح للوصول إلى المصدر الأول للتشريع الإسلامي: أي القرآن والسنة، هم الأئمة(ع)، فكما أن للشيخ السبكي وأبناء مذهبه أئمة يرجعون إليهم لأخذ أحكام الدين وفق مذاهبهم، فإن للشيعة أئمة، ولكن هناك فرقاً واحداً وهو أن أئمة الشيعة منصوبون من الله (راجع الأحاديث والآيات أعلاه والتي جئنا بها من كتب أهل السنة حصراً، والتي توجد أضعافها في كتبهم أيضاً) في حين أن أئمة أهل السنة منصوبون من قبل الناس، وفرق كبير بين من ينصبه الله ومن ينصبه العباد.
وإلا: فمن أين يا ترى سيجد الشيخ دليلاً واحداً على رجحان، فضلاً عن وجوب، اتّباع أبي حنيفة أو الشافعي أو أحمد أو مالك أو غيرهم؟ بل من أين سيجد الدليل على رجحان علم وفضل الأئمة الأربعة على سواهم من علماء السنة أنفسهم سواءً الأقدمين كأبي يوسف وحمّاد والأوزاعي والعز بن عبد السلام، أو المتأخرين؟
أما قوله: "ونخلع عليه من المدائح كل باطل" فقد جئنا أعلاه بنقطة من بحر الفضل الذي أعطاه الله هؤلاء الأئمة والتي صدع بها رسول الله(ص)، وكلها من كتب السنة. ولولا السياسة قديمها وحديثها لكانت الأمة قاطبة تلهج الآن بذكرهم(ع) وفضلهم.
أما أن الشيخ لم يجد ما يثبت هذه المدائح من الطرق الصحيحة، فدعوى باطلة: أما أولاً فلأن الكثير من أحاديث فضل أهل البيت موجودة في كتب الصحاح ومنها البخاري ومسلم اللذان يعتقد أهل السنة بصحة كل ما جاء فيهما، وأما ثانياً فلأن ما صيّر بعض الكتب صحاحاً وصيّر غيرها ضعافاً ليس حقيقة ما موجود فيها ودرجة صحته أو ضعفه، وإنما السياسة هي التي جعلت كتاب البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله مع أنه يصرّح بأن القرآن الذي بين أيدينا ناقص وأن بعض آياته محرّفة، وأن الرسول(ص) أثّر فيه السحر حتى لا يدري إن فعل الشيء أو أتى النساء، وأنه(ص) صلّى دون وضوء بعد نومه العميق!!
والسياسة هي التي صيّرت كتاب مسلم كله صحيحاً وعلى حد كتاب البخاري مع أنه يحوي مثل ما حوى البخاري وزيادة من قبيل حلّ الإشكال الذي وضعته عائشة أم المؤمنين (أو وضع على لسانها في الواقع) للمرأة التي تحرجت من دخول الشاب عليها وقد أنبت الشعر في لحيته، فقالت لها: أرضعيه!!!
إن السياسة هل التي جعلت ما وصل إلينا من فضائل الأئمة(ع) أقل من حقيقتها، وفضائل غيرهم أكثر من حقيقتها، والتاريخ يكتبه الحكام والذين بيدهم الأمر والنهي. ونحن نشاهد الكذب والدجل اليوم في عصر الراديو والتلفزيون والقمر الصناعي ووسائل الاتصالات التي لا تبقي شيئاً خافياً، فكيف في العصر الأول خصوصاً وقد منع الصحابة الكبار كتابة حديث رسول الله(ص) لهذه الغاية ذاتها، ولكن بزعم خوفهم على القرآن أن يختلط بالحديث في حين أنهم يعرفون قبل غيرهم أن هذا ممتنع لسببين: أولاً لأن الله قد تعهد بحفظه، وثانياً لأن بلاغته وإعجازه يفضحان اختلاط أي شيء فيه، خصوصاً عند أهل اللسان العربي المبين من هؤلاء الصحابة أنفسهم.
5. قال: "وكان بودّنا أن تصدق النية، وتسلم الوسائل من الريبة حتى يكون تقريب (تقريباً) بالمعنى الذي هرعنا إلى العمل على تحقيقه، ولكن تبين من إمارات عدة أننا مسوقون إلى تأييد النجف في مواسمها، وفي الجنوح إلى مذهبها، دون أن يتقدموا إلينا – ولو قليلاً - نحو الغرض الذي زعموا.. حتى أصبح تقريباً بين الإسلام نفسه وبين الأديان الأخرى.."
نقول: بأن من الطبيعي أن الجاهل بالشيء هو الذي سيتقدم نحو صاحب الشيء عندما يبدأ بتعلمه. وطالما كان أهل السنة يجهلون الكثير عن التشيع (والمقال نفسه دليل على ذلك) فإن جلوسهم مع علماء الشيعة سيجعلهم يتعرفون على عقائد الشيعة مما سيجعلهم إما يبتعدون عنهم أو يقتربون. أما علماء الشيعة، فلكونهم يعرفون عقائد السنة بتفاصيلها: أولاً لأن هذه العقائد مفروضة فرضاً من قبل الحكومات السنية، وثانياً لإصرار علماء الشيعة على العمل على تقريب وجهات النظر، كونهم يعرفون أن الطرف الآخر تعرض ولا يزال للتجهيل من قبل السلطات ومن قبل المتعصبين من العلماء عبر العصور، ولأنهم حريصون على مواجهة أعداء الأمة وهذا يستدعي التكاتف مع إخوانهم السنيين، بل إن الكثير من علماء الشيعة درس على أيدي علماء السنة في الأزهر وغيره، في حين لا نعرف أن سنياً درس في النجف أو غيرها من جامعات الشيعة الدينية، لهذه الأسباب فإن اقترابهم من أهل السنة لن يكون بسبب حصول معرفة لم تكن موجودة، وإنما سيكون لتشجيع اللقاء والتقارب.
وهكذا فإنه من الطبيعي أن يقترب أهل السنة من الشيعة أكثر من العكس. إلا أن الحاصل في كل مكان وعلى الضدّ مما يدّعيه الشيخ، وهو العكس تماماً.
وأما التقريب بين الإسلام والأديان الأخرى، فهذا لا يدعو إليه الشيعة، وإنما دعا إليه الشيخ في مقاله كما ذكرنا وسنذكر.
6. قال: "هل يمكنهم – يعني علماء الشيعة - أن يحيدوا عن القول بأن لهم أئمة معدودين بإثني عشر.."
نقول: لماذا يحيد الشيعة عن الاعتقاد والتمسك بإثني عشر إماماً من أهل البيت وقد وصلهم التنصيص على هذا العدد (12) من أحاديث رسول الله(ص) الموجودة في صحيح البخاري: ‹‹إثنا عشر خليفة كلهم من قريش››؟
فلماذا ترى يحيد الشيعة عن ذلك، ولا يحيد الشيخ عن التزامه بأئمته الذين لم ينص عليهم الله ورسوله؟
بل لماذا لم يصدق الشيخ مع نفسه بأن يبحث عن مصداق هذا العدد (12) والذي لن يجده مهما حاول في غير أئمة أهل البيت؟
7. قال: "وهل هؤلاء الأئمة: من ظهر منهم ومن اختفى، معصومون كعصمة الأنبياء وإن لم يكونوا أنبياء؟!"
أقول: لعلني لا أحتاج لإثبات عصمة هؤلاء السادة القادة الهداة سوى أن أسأل الشيخ ومن هم على رأيه: هل ذكر لنا التاريخ كلمة واحدة تثبت أن أحداً من هؤلاء الأئمة قد أخطأ في حكم أو جواب مسألة أو فعل، بل تلكأ أو تأخر في جواب مسألة؟ هذا مع أن التاريخ كتبه الحكام الذين كان أئمة أهل البيت(ع) يقفون في خانة ألدّ أعدائهم.
وعلى كل حال فإن النبي(ص) قد قال قولاً فصلاً وذلك: ‹‹علي مع الحق والحق مع علي يدور معه كيفنا دار›› وهذا ينفي عن علي(ع) أي احتمال أن يكون مع الباطل، وهذه إن لم تكن عصمة فماذا تكون؟
أما آية التطهير ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً﴾ فقد صرحت بعصمة الحسنين وفاطمة إضافة إلى علي.
ولنسأل الشيخ: ألا يعتقد هو بعصمة بعض الصحابة، وهو اعتقاد غير مكتوب ولكنه تحصيل حاصل. وإلا فما معنى اعتقاد الشيخ بحديثي النبي(ص) كونهما في صحيح البخاري بحق عمر بن الخطاب: الأول: ‹‹في كل أمة أناس محدثون وإن كان في أمتي منهم فعمر بن الخطاب››، قيل: وما محدثون؟ قال: ‹‹تتحدث على لسانهم الملائكة››. وأما الثاني: ‹‹يا عمر ما سلكت فجّاً إلا سلك الشيطان فجّاً غير فجّك››.
وهذا يعني أن عمراً يتكلم الملائكة المعصومون على لسانه، وأن الشيطان لا يقترب منه. وبذا فعند عمر علم الملائكة، وعنده مناعة من شر الشيطان، وهذه إن لم تكن عصمة فماذا تكون؟!
ولا غرو، فقد ورد في حديث الرسول الموضوع لحساب بني أمية قوله(ص): ‹‹ما تأخّر عني الوحي حتى خشيت أن يكون نزل في آل الخطاب››!!
8. قال: "وهل الوصية لعلي أمر معقول، فضلاً عن صحة اعتباره من أصول الدين؟"
نقول: أما أمر معقول فلماذا لا يكون كذلك؟ هل المعقول أن يترك الرسول(ص) أمته بلا راع لأمورهم والأمة لا تزال وليداً صغيراً، خصوصاً وهو يعلم أن المنافقين والكافرين يتربصون بالمسلمين الدوائر وأنهم سينقضّون على الإسلام والمسلمين بعد رحيله؟ بل إنه يعرف ذلك يقيناً بقوله: ‹‹أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضاً››، وذلك في حديثه مع موتى مقبرة البقيع عندما زارهم في الليل قبيل وفاته.
لقد كان لا يترك المدينة في سفر إلا ويخلف عليها أميراً، مع أنه يعرف أن باستطاعته تدارك ما يمكن أن يحصل في غيابه بعد عودته، فكيف يترك الأمة بلا راع وهو يغادرها دون رجعة؟
أما عن كون الوصية من أصول الدين فهي أصل لاحق للأصول الثلاثة الأولى: التوحيد والنبوة والمعاد، وقد عدّتها الشيعة أصلاً لعدة أسباب منها أن الرسول(ص) وضعها هذا الموضع.
ففي يوم غدير "خُمّ" (18 ذو الحجة عام 10هـ) ذكر(ص) أصول الدين الثلاثة وذكّر الناس بها وأشهدهم عليها، ثم قال لهم بعد ذلك مباشرة: ‹‹من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه››. وبذا فقد قرن ولاية علي(ع) بأصول الدين. وإلا هل وصف الرسول(ص) التوحيد والنبوة والمعاد بكلمة أصول الدين أم كان ذلك بعد أن استتب الإسلام وصار لعلماء المسلمين أن يصنّفوا المعارف الإسلامية ويضعوها في مواضعها ويسمّوها بالمصطلحات الجديدة.
بل قد وصف علياً بأنه وصيّه منذ الأيام الأولى للدعوة الإسلامية كما في قوله يوم الإنذار يوم دعا عشيرته الأقربين يأمرهم: ‹‹إن هذا – يشير إلى علي – أخي ووصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا››. فتضاحكوا لأنه يأمرهم بطاعة غلام عمره 10 سنوات، وعدّوا ذلك، أسوة بالشيخ، أمراً غير معقول. وهذا حال من يحكّم عقله فيما فرغ الله تعالى من الأمر به.
ولقد كانت ولاية علي شيئاً مستفيضاً بين الناس بحيث صدعت بها الشعراء والأدباء، بل وأصحاب رسول الله(ص) مثل الهيثم بن التيهان الأنصاري البدري حيث قال يوم الجمل، أي بعد 25 سنة من وفاة الرسول(ص):
إنّ الوصيَّ إمامُنا ووليُّنا برح الخفاءُ وباحت الأسرارُ
وفيها إشارة إلى التعتيم على هذه القضية في الفترة السابقة.
ومن ذلك قول خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وهو يعاتب عائشة في معركة الجمل أيضاً:
وصيّ رسول الله من دون أهله وأنتِ على ما كان من ذاك شاهده
بل سمّاه بذلك حتى أعداؤه كما في قول شاب من بني ضبّة خرج من بين عسكر عائشة:
نحن بني ضبّة أعداء عليّ ذاك الذي يُعرف قدماً بالوصيّ
وقوله "قدماً" يدل على أن القول بالوصاية قديم وليس من اختراعات الشيعة.
9. قال: "وهل زواج المتعة قابل للتفاهم معهم في صحته".
نقول: هذه مسألة فقهية كتب فيها الشيعة الكتب وأثبتوا أنها شرعت، وأنها لم تُنسخ، وأن الصحابة فعلوها على عهد أبي بكر وعمر حتى نهى عنها عمر. فليراجع من يريد ما كُتب فيها.
10. قال: "وهل سبّ الصحابة والتنكّر لأشياخ الصحابة أمر يرتضيه أدب الإسلام، وتسمح به تعليم النبي(ص) ويتفق مع ما صح عنه(ص) من التنويه بفضلهم؟"
نقول: لا ندري أين سمع الشيخ، وهو في مصر، أحداً من الشيعة يسبّ صحابياً؟
أما الموقف منهم عموماً فهو الموقف الصحيح المتوازن على ضوء العقل والنقل. أما العقل فلا يمكن أن يقبل عقل بأن يعتقد أن ألوف البشر ممن اختلفت درجة خلوص نياتهم، يجب أن نقف منهم موقفاً واحداً. كذلك فإنه من غير المعقول أن تختص الأمة الإسلامية دون غيرها بصحابة نبيّ كلهم أخيار وإذا أخطأ بعضهم فليس لسوء نياتهم وإنما لاجتهادهم في الدين الذي سيؤجرون عليه، حتى وإن كان هذا الخطأ مما لا يحتمل الاجتهاد.
وأما النقل فقد أخبرنا المؤرخون والمحدثون عن مخالفات بعض الصحابة لأوامر الله ورسوله(ص) ومجابهتهم له أحياناً بعدم إطاعة أوامره كما حصل في الحديبية وأُحُد، بل ما ودّع الدنيا حتى رفضوا أمره بأن يؤتوه بورق وحبر ليكتب لهم كتاباً ‹‹لن تضلّوا بعده أبداً›› حسب قوله(ص)، فرفضوا وتنازعوا حتى أغضبوه ‹‹ولا ينبغي عند نبي تنازع›› حسب قوله لهم(ص)، بل حتى أسمعوه تلك الكلمة الجارحة "ما له؟ أيهجر؟" أي هل يهذي؟ وهي كلمة لا أظن أن أحداً يقولها لأبيه المحتضر، بل ولأي محتضر ساعة وداعه الدنيا، فكيف بهذا الرجل العظيم الذي جرت نعمته عليهم جميعاً.
ولقد تشاتم الصحابة في محضر منه(ص) وتضاربوا بالنعال في حضرته، بل وقفوا بإزاء بعضهم بالسيوف يريدون أن يعيدوها جاهلية فيقتل بعضهم بعضاً في حياته.
ويخبرنا المؤرخون والمحدثون والقرآن عن وجود المنافقين في صفوف المسلمين، والذين لا نعرفهم بأعيانهم واحداً واحداً، الذين لا يمكن أن يكونوا قد عادوا مؤمنين بمجرد وفاة النبي(ص)، لأن ذلك يعني أنهم كانوا منافقين بسببه والعياذ بالله.
أما القول بأن المنافقين هم عبدالله بن أبي سلول وأبو حنظلة الراهب – الفاسق وبضعة أنفار آخرين فهو قول مضحك لأن الله لا يمكن أن يكون قد أنزل الآيات الكثيرة ومنها سورة التوبة التي سميّت "الفاضحة" لأجل ابن سلول وأبي حنظلة!!
لقد أعطانا الرسول(ص) مقياساً نقيس عليه الصحابة بعده وذلك بقوله لهم: ‹‹أحَبُّكم إليّ من يلقاني على مثل الحال التي فارقني عليها››. والسؤال هنا: هل بقي الصحابة كلهم على الحال التي فارقوه(ص) عليها؟
والجواب نجده من أحاديث الرسول(ص) أيضاً والمسمّاة "أحاديث الحوض"، والتي أخبرنا فيها أنه لا ينجو من الصحابة إلا الأقلية. وإلا فما معنى قوله: ‹‹إني فرطكم على الحوض، من مرّ عليّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً. ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يُحال بيني وبينهم فأقول: أصحابي، فيُقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي››.
وما معنى قوله(ص): ‹‹بينما أنا قائم فإذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلمّ، فقلتُ: إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أرى يخلص منهم إلا مثل همل النعم››. والحديثان في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وهمل النعم أي أقلية النعم.
والحديث الأول يصرّح بأنهم الصحابة بقوله ‹‹أصحابي››. وتأكيداً لهذا القول فقد أورد البخاري ما يلي: "عن العلاء بن المسيّب عن أبيه قال: لقيت البراء بن عازب رضي الله عنهما فقلت: طوبى لك صحبت النبي(ص) وبايعته تحت الشجرة، فقال: يا ابن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده".
فهذا حال الكثير من الصحابة الذين بدّلوا وغيّروا ولم يحفظوا وصية نبيهم في أهل بيته عامة وفي علي(ع) خاصة لأنهم لو لم يتنازعوا الخلافة التي نصّبه النبي(ص) فيها في أوقات مختلفة آخرها يوم الغدير (أقل من 3 أشهر قبل وفاته)، لما خسرت الأمة العصمة من الضلال التي ضمنها النبي(ص) للأمة إذا تبعت علياً، فصار المبدلون مسؤولين عما جرى في الأمة.
وأخيراً، فمن غير المعقول ولا المقبول شرعاً أن يتقاتل الصحابة بأسيافهم ويسقط في القتال عشرات الألوف كما حديث في الجمل وصفّين، ويكون الجميع مثابين على أعمالهم، لأن مجرد التنازع مع إمام الحق المبايع الذي لم يبدل أو ينحرف يعتبر خروجاً على المفاهيم الإسلامية الأساسية وهو الذي شقّ وحدة المسلمين، خصوصاً وهذا الإمام يريد رأب الصدع والصحابة الخارجون عليه يرفضون، كما قال أمير الشعراء شوقي:
صاحبة الهادي وصاحباهُ فكيف يمضون لما يأباهُ
وجاء في الأُسْد أبو ترابِ على متون الضُّمر العُرابِ
يرجو لصدعِ المؤمنين رأبا وأمّهم تدفعه وتأبى
11. قال: "لقد أبى الأزهر من أول أمره أن يكون وطناً للتشيّع."
نقول: لعل الشيخ لا يعلم بأن الأزهر أسسه الفاطميون الشيعة، ولعله لا يعلم بأن السبب وراء عدم تشيّع مصر كلها في أيامهم هو لأنهم لم يجبروا أحداً على التشيّع، بل لقد وضعوا كرسياً للدرس والإفتاء لكل من المذاهب السنية الأربعة، في حين أن التشيع قد تلاشى بعدهم لأن الأيوبيين الذين جاءوا بعدهم أجبروا الناس على التسنن واضطهدوا الشيعة وأحرقوا كتبهم وآثارهم، فصارت الجماعتان مصداقاً جديداً لقول الشاعر الذي عنى، في وقتها، النبي(ص) وبني هاشم في مقابل بني أميّة:
ملكنا فكان العفو منّا سجيّةً فلمّا ملكتم سال بالدم أبطحُ
فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيه ينضحُ
12. قال: "ولا يصدّنا عن ذلك أن يُقال: حرية العقيدة مصونة في الدستور، فإنما يعني الدستور حرية العقيدة المعترف بها في الديار لأهل الكتاب، أما النزعات الهدّامة الغريبة عنّا، والدعوات الشاذة المفرّقة للجماعة على حساب الدين، فباطل كلّه، ودستور مصر يجب ألا يحمي الأباطيل وألا يحتضن المفسدين."
نقول: وهكذا فإن الشيخ يدعو إلى صيانة حرية اليهود والنصارى وفي ذات الوقت محاربة التشيع لآل محمد(ص)!!
والشيخ يعتقد بأن دستور مصر يجب ألا يحمي الأباطيل الشيعية التي تشهد بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وألا يحتضن الشيعة المتمسكين بأئمة أهل بيت نبي الإسلام الذي اعترف بفضلهم حتى بعض شيوخ الأزهر، ولكنه يعتقد أن الدستور يجب أن يحمي العقائد النصرانية الحقة القائلة بأن الله ثالث ثلاثة وأن عيسى هو ابن الله أو هو الله نفسه، وبالتأكيد يجب أن يحمي العقائد اليهودية الحقة والأصدقاء اليهود الذين يعتقدون أن البشر جميعاً وبضمنهم رسول الله(ص) خدم لليهود شعب الله المختار، وأنه(ص) ومن قبله المسيح(ع) مدّعيان كاذبان.
إننا إذ نردّ على هذه الأقوال إنما نفعل ذلك نصحاً لله رسوله وتنبيهاً للمسلمين إلى حقيقة أهل بيت العصمة والطهارة أئمة الهدى وأعدال الكتاب المبين.. إننا ننبههم إلى المسؤولية الملقاة على عاتقهم، خصوصاً العلماء الذين قرأوا ما قاله الإمام الواحدي بأن قوله تعالى: ﴿وقفوهم إنهم مسؤولون﴾ تعني مسؤولون عن ولاية علي وأهل البيت(ع).
وإلا فإن الشيعة لا يضرّها من خالفها بعد قول النبي(ص) (والذي ذكره معترفاً بصحته حتى ابن حجر في صواعقه المحرقة التي ألّفها لحرق الشيعة): ‹‹ألا إن هذا – مشيراً إلى علي - وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة››. والحمد لله رب العالمين
طوائف بهائية بكتاشية- ثم جماعة التقريب
لصاحب الفضيلة الشيخ عبداللطيف محمد السبكي
إعداد وتقديم الأستاذ عبدالفتاح حسين الزيات
العمل على تمزيق الصف الإسلامي، وخلخة أسسه كان ولا يزال مطلباً عزيزاً عند الأعداء ومن لف لفهم.
ولكنهم كانوا يواجهون مواجهة صريحة وصادقة تفحمهم فيبتلعون ألسنتهم:
ولكن دعاة التمزيق والتفريق اليوم ليسوا غرباء عن الإسلام بل هم من أبنائه استغلوا سماحة الإسلام ومرونته فأخذوا يطوحون فيه يميناً وشمالاً بدعوى المحافظة عليه وبئس ما تبتلى به أمة، أن يقع التضارب والتصادم بين أبنائها بسبب عقيدتهم الدينية.
قال الأستاذ رحمه الله:
1. أفصحت لجنة الفتوى بالأزهر عن حكم الإسلام في البهائية، بناء على ما قدم إليها من شأن هذا المذهب، وكذلك أفصح فضيلة مفتي مصر-الشيخ حسين مخلوف- عن الحكم في طائفة البكتاشية، بناء على ما استند إليه من التاريخ ومن الشريعة، وقد التقت الفتويان في شأن الطائفتين عند غاية واضحة، وعرف من لم يكن يعرف، أنهما على غير الحق الصراح، مع فارق بينهما في العقيدة. فالبهائية –كما نمي إلى علم لجنة الفتوى- قائمة على نسخ الأديان السماوية السالفة كلها، ثم هي حائرة بعد ذلك بين القول حيناً بألوهية زعيمها الأول والقول حيناً آخر بنبوة زعيمها الخلف.
ووسيلتها في الدعوة إلى مذهبها المتأرجح، لا تخلو غالباً من الإباحة لأمور محظورة، والتحلل من تكاليف مقطوع ثبوتها، ونبذ القيود الكابحة عن الغواية.
ثم هي تسمي ذلك الباطل –ديناً- وتكسوه بهذه التسمية ثوباً ريائياً تخادع به البسطاء، وثوب الرياء يشف عما تحته، فإذا تكشف أمرهم سارعوا إلى القول بأنهم مؤمنون بكل شيء جاءت به الأديان، غير أنهم يرون باب الفيض الإلهي لا يزال مفتوحاً.
وآخر ما قرأنا عن ذلك ما نشره سكرتير حزبهم في أهرام 5 من نوفمبر الحالي سنة 1952 رداً على فتوى اللجنة، وإن زعم أنها فتوى فضيلة المفتي.
وهذا الرد مهما كان مخفياً وملتوياً لا يعفيهم مما تهربوا منه، إذ هم لا يرضون بالإسلام، ولا يقرون بما جاء به القرآن من أن محمداً(ص) خاتم النبيين.
ولا يزالون على ضلالتهم، في أن باب الفيض "الوحي" لا يزال مفتوحاً، وأن النبوة –بعد أن كانت ألوهية- حاصلة لزعيمهم البهاء. وهكذا من خلطهم المصطنع. وفي هذا الزعم وحده ما يكفي لتصحيح القول بإفحاشهم في الكفر، وإن تنصلوا بالمحاولات الهزيلة.
2. أما البكتاشية، فشرذمة من أتباع الفاطميين، الذين يمتّون إلى الإسلام، غير أنهم –الفاطميين- انشقّوا عن الجماعة الأولى من عهد علي وخلافه مع معاوية، رضي الله عنهما، وقد كان تحزبهم ثغرة نفذ منها خصوم الإسلام الذين غاظهم أن تكون له تلك الوحدة المتماسكة، ولم يجدوا وسيلة إلى النيل من قوته أقرب إليهم من التظاهر بالتفاني في الحب، وفي التشيع لآل البيت من ذرية علي خاصة.
وسواء أكان التشيع في أصله غيرة صادقة على بيت النبوة، أم كان حقاً يراد به باطل، فقد استتر به من يعنيهم اقتلاع شجرة النبوة من أصلها، واستطاعوا أن يفتحوا على الإسلام أبواب الفتنة، وأن يشقوا وحدة المسلمين في ألوان شتى من المذاهب والنحل، مما يقيض في استيعابه وبيان خطره أهل الذكر من المؤمنين والفقهاء.
ونحن نعلم أن الدين يدعو إلى الوحدة، ويحرص على تكوين الشخصية المعنوية للأمة الإسلامية، ويصرح أن شخصية الأمة لا تقوم على التفرق، بل على التضامن والانسجام والتآخي، وعلى الرجوع والخضوع للقرآن والسنة، في كل ما يجد من شأن خاص أو عام، ويفسح للعقول مجال الفكر المتزن، والاستمداد من دستور الإسلام، في غير التواء، ولا تسخير للقرآن، وإخضاعه للنزعات، وإتباعه للميول، حتى ليرغب الإسلام إلى أهله في التكتل، والتضامن مع أهل الكتاب، والتعاون معهم في الشؤون المدنية، والإرتباط بهم في المعاهدات، والأنساب، متى كان ذلك التآخي الإنساني في غير مساس بالتقاليد الإسلامية.
ومن ذلك – وهو جوهر النظام الإسلامي لبناء المجتمع الصالح- يتبين أن كل شاذ عن الجماعة، وكل داع إلى نحلة تباين الأصل ولو قليلاً وتشق المسلمين أو نفراً منهم، يعتبر منتفضاً على الدين في أساسه، ونابذاً لتوجيهاته، وليس ينفعه أن يتحمل سبباً أو أسباباً يأخذ بها في تبرير انحيازه.
ولئن كانت هناك طوائف بين هاتيك الطوائف، أليَن جانباً من غيرها وأقرب إلى تحاشي العصبية المسرفة، فذلك على أي حال تصدع في صرح الإسلام، ولولا أن لهذا الدين قوة ذاتية مستمدة من طبيعته وتعاليمه، ونقاوته من الزيف، ومطابقته للفطرة في اتجاهها الأصح، لعصفت به تلك المنازعة بين الطوائف المنتمية إليه.
ولكن، مع أن دعوة السوء توطنت بين صفوف هؤلاء ومع أن الطائفة همست بها في آذانهم قديماً، ومع أن للإسلام خصوماً سافرين يقاومونه، ويدفعونه ما استطاعوا، ظل الإسلام يتحمل التخاذل من المحسوبين عليه، ويتحمل مدافعة المقاومين له، لأن له مدداً من عند الله، ولأن في أمته –والحمد لله- جمهرة عظمى تعتز بصلابتها في الحق، وتنحيها عن التشقق، ورجوعها إلى صراطه المستقيم، ووقوفها عند المورد العذب: من الكتاب والسنة، والمأثور عن السلف من أصحاب محمد، والناهجين منهجهم من الأئمة المعتدلين، وذلك سبيل المؤمنين، وسيظل كذلك شأنهم ما دام الحق ناهضاً في رعاية الله، وما دام الباطل زهوقاً وإن تطاول زمنه.
نحن لا نذكي التخاصم بهذا التعريض، ولا ننفخ في بوق الفتنة، ولا نتحكم في جماعة أن تكون طوع جماعة، ولكن نقول بنبذ الجنوح إلى تزعيم زعيم، والتمذهب له بمذهب خاص ولا نرضى بالتشاغل عن المصدر الأول في التشريع الإسلامي، والتفرغ للأشخاص ممن تنصبهم أئمة، وتخلع عليهم من المدائح كل باطل، حتى تدعم تلك الدعاوى المكذوبة بما ليس يثبت من الطرق الصحيحة، بل ولا من الطرق المعقولة، ولكنها العصبية المألوفة تعمى وتصم. وكلما قوي الأمل في نشاط العقلية الإسلامية، نرى أشياعاً لتلك الخلافات يدأبون على نغمهم الأول، ويتغنون بما طرب له قديماً الحانقون على الإسلام في وحدته وتماسكه وقوته.
3. هذا، ولدينا اليوم في مصر مظهر لذلك "جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية"، نشط في تكوين هذه الجماعة شيخ شيعي من النجف يقيم في مصر لعهد قريب أو بعيد، وقد استجاب لدعوته ثلّة كريمة من رجالات مصر، ولم يكن يسع مسلماً أن يتخلف عن تلبية الدعوة لتجديد وحدة المسلمين التي هتف بها القرآن أول ما هتف: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا﴾ (سورة آل عمران) ﴿إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء﴾. جذبتني هذه الدعوة، فشرّفت بالعضوية المتواضعة بين أولئك الأمجاد، فماذا أجدّت جماعتنا، وقد مضى عليها أربع سنوات تقريباً؟ نشطت في صدر عهدها إلى تعاقب الإجتماعات، فمرة: للتعارف، واختيار الرئيس، والوكيل، والسكرتير، إلخ.. ومرة ثانية: لاستقبال ضيف شرف مسلم سيزور دارنا، دار التقريب، وثالثة: لسماع رسائل وردت من جهات إسلامية.
وبعد ذلك توقفت الإجتماعات، وانحصرت الجهود في مجلة تصدرها دار التقريب هذه، وتسمّيها (رسالة الإسلام).
وكان بودّنا أن تصدق النيّة، وتسلم الوسائل من الريبة حتى يكون تقريب بالمعنى الذي هرعنا إلى العمل على تحقيقه، ولكن تبين من إمارات عدة، أننا مسوقون إلى تأييد النجف في مواسمها، وفي الجنوح إلى مذهبها، دون أن يتقدموا إلينا – ولو قليلاً - نحو الغرض الذي زعموا، بل ظهر أن التقريب في نظر القائمين على "رسالة الإسلام" أوسع مما فهمنا، حتى أصبح تقريباً بين الإسلام نفسه وبين الأديان الأخرى بإسقاط الفوارق، والتسوية بين الجميع في الحكم، متى كان العمل الدنيوي طيباً (هكذا قرأنا لهم يوماً ما، من عهد قريب).
رابني هذا التلاعب في استغلال جماعة التقريب –وإن كان غيري لا يزال حسن الظن بها، وباقياً فيها، ورابني – ويجب أن يرتاب معي كل عضو بريء- أنها تنفق عن سخاء، دون أن نعرف لها مورداً من المال، ودون أن يطلب منها دفع اشتراكات تنفق على دار أنيقة، بالزمالك في القاهرة فيها أثاث فاخر، وفيها أدوات قيّمة وتنفق على مجلتها، فتكافئ القائمين عليها وتكافئ الكاتبين فيها، وتتأنق في طبع أعدادها وتغليف ما يطبع، إلى غير ذلك مما يحتاج إلى مورد فياض.. فمن أين ذلك؟! وعلى حساب من يا ترى؟!
ثم هل صحيح أن علماء النجف مستعدون للتلاقي مع غيرهم لتعود وحدة المسلمين أو يتحقق شيء من التقريب؟!
هل يمكنهم أن يحيدوا عن القول بأن لهم أئمة معدودين بإثني عشر –مثلاً- وأن هؤلاء هم وحدهم المهديون، ومن بينهم الإمام المنتظر، المختفي حيث يعلم الله وإلى أن يشاء الله.
وهل هؤلاء الأئمة: من ظهر منهم، ومن اختفى، معصومون كعصمة الأنبياء: وإن لم يكونوا أنبياء؟!
وهل الوصية لعلي أمر معقول، فضلاً عن صحته واعتباره من أصول الدين؟
وهل زواج المتعة قابل للتفاهم معهم في صحته أو بطلانه وهم يستطيبوه وإن خالفوا.
وهل سب الصحابة والتنكر لأشياخ الصحابة أمر يرتضيه أدب الإسلام، وتسمح به تعاليم النبي(ص) ويتفق مع ما صح عنه(ص) من التنويه بفضلهم؟
أمور ليست جديدة، والكلام فيها ليس مستحدثاً، والأمل في تصحيحها لا مطمع فيه، ولكن كلفت نفسي ذكرها، وكلفت القارئ قراءتها، لتحديد موقفنا من جماعة التقريب فيما هي توهمنا بالعمل على تذليله، ثم هي في الوقت نفسه تدب في خطاها إلى الأخذ بها، أو على الأقل هي تقود الناس إلى حيرة واضطراب بين ما يعرفون من طرق العلم الصحيحة، وبين ما يقرأون لجماعة التقريب، أو لغيرها من الجماعات المنبثة بأسماء مختلفة، في جهات متعددة.
وبعد: فما وراءك يا عصام؟!
لقد أبى الأزهر من أول أمره أن يكون وطناً للتشيّع، وأبت مصر من قديم أن تكون صومعة تفرخ فيها النحل الباطلة كالبهائية، والنحل المدخولة كالبكتاشية وغيرها، فما بالها تطمئن إلى تركيز دعوات الفرقة فيها على مقربة من الأزهر، وهو المهيمن على التوجيه الديني، وهو المرجع المأخوذ عنه في اطمئنان؟
أخشى أن يطول الزمن فيصبح للتقريب من الأثر ما أصبح للبكتاشية وأمثال البكتاشية وتتجدد بيننا دسائس دينية، أو دسائس مذهبية، كما تتحرك دسائس البهائية في ظل السكوت عنها، والتساهل في شأنها، والناس يحسون في أطراف مصر بنشاط المركز البهائي بالقاهرة في بث دعايته، فإن يكن عذر مصر فيما مضى أنها لم تكن طليقة اليد في تدبير أمرها، وتطهير رقعتها، ممن لا يتحرجون أن يحتموا بدول أخرى، فعليها أن تدرك اليوم ما فاتها بالأمس، ولتتذكر مصر وعلماؤها أنها بلد القرآن حفظاً، ودراسة، وصيانة، وأنها بلد الأزهر، فما يليق بها أن تدع هذه الطفيليات تتراكم حول هذا المصباح الوضّاء.
ولا يصدّنا عن ذلك أن يقال: حرية العقيدة مصونة في الدستور، فإنما يعني الدستور حرية العقيدة المعترف بها في الديار لأهل الكتاب، أما النزعات الهدامة الغريبة عنا، والدعوات الشاذة المفرّقة للجماعة على حساب الدين، فباطل كله، ودستور مصر يجب ألا يحمي الأباطيل، وألاّ يحتضن المفسدين.
عبداللطيف محمد السبكي
عضو جماعة كبار العلماء
المجلد الرابع والعشرون