مذ كنت صبياً وأنا أسمع تعليق أهل السنة – وكنت واحداً منهم – عندما يعلن الشيعة أن رمضان يبدأ بعد غد بعد أن أعلنت الدولة (من خلال وسائل الإعلام العراقية) أن رمضان يبدأ يوم غد بعد أن ثبتت الرؤية الشرعية للهلال، أن الشيعة "لازِم يخالفونَه (= يصرّون على مخالفتنا)" أو "أكيد عندهم عُكُب باجِر (=بعد غد)"، وأمثالها؛ نفس الشيء مع هلال عيد الفطر، أول أيام شهر شوال. كانت هذه القضية من الأمور التي يتحسس منها أهل السنة كثيراً، فهي:
(أولاً) تجرح في وحدة المسلمين في العراق لأنها تجعلهم يتفرقون في بدء الصيام وختامه،
(ثانياً) تشكل عندهم دلالة – وليس إشارة فقط – على أن الشيعة يريدون بذلك مخالفة أهل السنة قطعاً.
في العراق القضية واضحة لوجود الطائفتين السنة والشيعة، ولوجود الجانب الإيجابي عند الكثيرين حيث يحبون أن يروا الناس مجتمعين لا متفرقين، كما لوجود الجانب السلبي عند البعض الذي ينفخ في كل قضية مفرّقة ما وسعه ذلك. (طبعاً، للنكتة دورها، أحياناً بخبث وأحياناً أخرى بحسن قصد. من ذلك أنه في يوم عيد الشرطة العراقية، أي 7 كانون الأول/يناير، توقفت سيارة عند إشارة المرور فقام سائقها بتحية الشرطي الواقف عند الإشارة مباركاً بعيد الشرطة، ولكن الشرطي فاجأه بالقول: "عيدنا يوم غد!" وفي ذلك إشارة إلى قضية رؤية الهلال وإعلانه، كما فيها إشارة إلى حقيقة كون غالبية الشرطة والجنود والمراتب الدنيا من الجيش والشرطة العراقيين من الطائفة الشيعية.)
في إحدى السنوات (لعلها أثناء حكم الرئيس المرحوم عبد الرحمن عارف، وعليه ففي سنة 67 أو 68) أعلنت الدولة أن رؤية هلال عيد الفطر لم تثبت وعليه فإن اليوم التالي سيكون إكمالاً لعدة شهر رمضان ثلاثين يوماً، وذلك بعد أن جاءت الأخبار من مدينة النجف بإكمال العدة. إلا أن الذي حصل هو أن مرجعية النجف (وكانت بزعامة المرجع الأعلى في حينها السيد محسن الحكيم رحمة الله عليه) عادت فأعلنت ثبوت الرؤية وأن اليوم التالي أول أيام عيد الفطر. كان ذلك بعد منتصف الليل. فما كان من الدولة إلا وأعادت البث التلفزيوني لتعلن ثبوت الرؤية الشرعية وأن اليوم التالي أول أيام عيد الفطر! طبعاً، لم يشاهد ذلك إلا القليل، ولكن الكثيرين سمعوا إطلاقات المدافع في جوف الليل! عندما استيقظت صباحاً وأخي الكبير يخبرني بأن اليوم يوم عيد، لا أتذكر الآن، ولكني أتوقع أنه كان فرحاً شديداً، لأن الفارق لصبي مثلي بين صيام ودوام وبين طعام وعطلة وملابس جديدة وهدايا كبير جداً!
بُعدا الـمسألة
إن لهذه المسألة بعدين:
الأول – شرعي فقهي
الثاني – إجتماعي وطني.
البعد الأول مذهبي لأن فقه هذا المذهب أو ذاك هو الذي يحدد الرؤية الشرعية. أما البعد الثاني فطائفي لأن هذه الطائفة تصوم وتفطر في أيام مشتركة أو مختلفة عن الطائفة الأخرى التي تشاركها المجتمع والوطن.
البعد المذهبي (الشرعي الفقهي)
شخصياً، لم أزل غير متحسس لمسألة توحيد الرؤية الشرعية، لسبب بسيط هو أن اختلافها يتأتى من اختلاف المرجعية التي تعلن الفتوى بالرؤية أولاً، واختلاف الرأي الفقهي في الذهاب إلى الإفتاء بالرؤية أو عدمها ثانياً. (ناهيك عن أن توحيد بداية الشهور لجميع المسلمين في جميع أنحاء العالم مستحيل لأن بعضهم قد جاوز الليل الذي يمكن رؤية الهلال فيه، فلو تم التوحيد القسري فهو يعني لا محالة أن بعضهم سيبدأ الصيام أو العيد في اليوم الخطأ، وهذا يدخله في مأزق شرعي لا مبرر له.)
أما في الوسط السني فإن المرجعية هي دار الإفتاء أو القاضي الشرعي الأول والذي تعتمد الدولة على فتواه، فتعلنها للناس، فيلتزمون بها حتى دون الرجوع إلى دار الإفتاء أو القاضي الشرعي نفسه. (خارج البلدان الإسلامية هناك رجوع إلى مركز الإفتاء لأن الدولة غير معنية بذلك، وإن كان البعض يرجع إلى دول إسلامية حتى وإن كانت بعيدة جغرافية عنهم.)
أما في الوسط الشيعي فإن المرجعية هي التي تعلن، وهناك اختلاف الآن بين من لا يزال يصر على الرؤية بالعين المجردة (وإن كان في مناطق أخرى تتحد بالأفق الفلكي) بينما يتزايد عدد الذين صاروا يأخذون بالرؤية المعتمدة على الحسابات الفلكية (بشروط معينة هي ولادة الهلال حقاً وإمكانية الرؤية بمعنى إمكانية قوة ظهور الهلال في الأفق في مناطق مأهولة).
المشكلة في اختلاف الاتّباع يفهمه البعض عناداً مع الآخرين، وهو ما يقود إلى البعد الطائفي.
البعد الطائفي (الاجتماعي)
هنا تخرج القضية من الفضاء الفقهي-الفلكي إلى الفضاء الاجتماعي فيصبح الكلام: "إنهم لا يصومون معنا ولا يفطرون معنا لأنهم يريدون مخالفتنا"، أو "لماذا انتظار النجف؟ هل أن النجف هي العاصمة أو الدولة؟" ونظائر ذلك.
الذي حصل في العراق أن الأمور السياسية تغيرت وصار الشيعة على رأس الحكم هناك، مع ذلك فإن الشيعة لا يزالون يختلفون في الصيام والافطار تبعاً للمرجع الذي يقلدونه، وهذا يدحض القول أنهم إنما كانوا يخالفون أهل السنة في صيامهم وفطرهم رغبة في المخالفة على أساس طائفي.
ولكن هل يصمت البعض؟
قلت أن البعض كان ينطلق من سوء قصد، وعليه فمن المتوقع أن يستمر هؤلاء في التهجم على الشيعة حتى بعد أن تبين بطلان التهمة أنهم يخالفون حباً بالمخالفة. ولعل هذا تبين بشكل صارخ هذه السنة، رمضان وشوال عام 1433هـ، والذي سوف أدرجه على شكل نقاط تُفَصِّل ما جاء في الخبر الأول لقناة فضائية عراقية لعلها الأوسع مشاهدة من بين مثيلاتها عموماً، والمؤكد أنها الأوسع مشاهدة عند جمهور أهل السنة العراقيين خصوصاً.
- أعلن "مفتي الديار العراقية" الشيخ رافع الرفاعي أن رؤية هلال شوّال، أي العيد، ثبتت بعد أن تمت رؤية الهلال في سامراء من قبل أحد علماء الدين (سمّاه في البيان) وبشهادة آخرين معه، وسمى المنطقة أيضاً.
(أقول): الرؤية من سامراء، بل من جميع مناطق العراق، مستحيلة ليلة السبت، كما يستطيع كل من يريد التدقيق في الخرائط الخاصة بالرؤية على شبكة الانترنت. وعليه، فالرؤية كانت خطأ، أي اشتباه (لأني لا أقبل أن أتهم بالقول أنها مقصودة، ببساطة لأن هذا الاشتباه وارد جداً وحصل كثيراً، وهو أحد ما يستند إليه أنصار الاعتماد على الحسابات الفلكية في دعوتهم). ولكن لو كان دار الإفتاء والشيخ الرفاعي يفتون وفق معيار "وحدة الأفق" كما هو حال المرجعيات الشيعية التي تأخذ بالرؤية بالعين المجردة لكانوا أفتوا بحلول يوم العيد الأحد أيضاً ولكن لا على أساس الرؤية بالعين المجردة التي كانت محض اشتباه.
- قالت تلك القناة بأن "الوقف السني العراقي إضطر" لإعلان يوم الأحد عيد الفطر، وذلك قبل أن يذيعوا شريطاً يعلن فيه الشيخ أحمد السامرائي رئيس الوقف ثبوت الرؤية الشرعية.
- (أقول): إذا كان إعلان الشيخ السامرائي مطابق لإعلان الشيخ الرفاعي فكيف عرفوا أن السامرائي "اضطر" إلى الإعلان ولم يكن لتحقق ثبوت الرؤية الشرعية لديه؟ إن قولهم "اضطر" يعني الغمز في الشيخ أنه كان يريد تأجيل العيد إلى يوم الإثنين ليتوافق مع إعلان مرجعية السيد السيستاني، وهذا مردود لأن جميع الشيعة، في العراق وغيره، أُعلن العيد عندهم الأحد أيضاً، ما عدا مرجعية السيد السيستاني، فلم التهمة وكأن الشيخ السامرائي متهالك على اتباع السيد السيستاني، وهي تهمة دون دليل ودون مبرر.
- قالت القناة أن الناس منزعجون (الوصف منّي) لهذه الفرقة لأثرها على الوحدة الوطنية الخ.
(أقول): المقصود بالوحدة الوطنية هم أهل السنة فقط، لأن هذه القناة ومن على نهجها غير معنيين بما يقوم به الشيعة (بل لعلهم فرحون باختلاف الشيعة مع السنة وباختلافهم فيما بينهم)، والدليل عدم تناولهم الموضوع بهذا الشكل إلا هذه السنة حيث حصلت الفرقة داخل الوسط السني العراقي.
- قالت القناة أن الناس يقولون أن العراق هو البلد الوحيد الذي فيه تفرُّق في بداية رمضان والعيد، وأنه اختلف عن السعودية والدول العربية التي أعلنته (يعنون في رمضان)، فيجب أن يكون العراق متفقاً مع العرب الخ.
(أقول) القناة تزعم أن أهل السنة من جانب يريدون الوحدة الوطنية ومن جانب آخر يريدون أن يصوموا ويفطروا مع الدول العربية التي أعلنت بداية رمضان قبل يوم من الشيعة، وعليه فإن المهم عند هذه القناة، أو عند من تزعم أنهم هكذا يريدون، التوافق مع العرب السنة حتى وإن كان ذلك مخالفاً للعراقيين الشيعة – فأين ذلك من دعوى الرغبة في الوحدة الوطنية؟!
(أقول أخيراً) إن القناة التي استندت إلى فتوى وإعلان الشيخ الرفاعي وتهجمت على الوقف السني والشيخ السامرائي تناست ما قامت به قبل شهر واحد فقط، أي في بداية رمضان، عندما أذاعت إعلان الشيخ الرفاعي (الذي شاهدته وسمعته بنفسي) أن الرؤية بالعين المجردة مستحيلة في العراق وعليه فإن بداية رمضان يوم السبت، أي في توافق مع الشيعة هناك. أي: على الرغم من أن موقف الشيخ الرفاعي، وموقف الشيخ السامرائي، متحدان بالإعلان وبالاعتماد على الرؤية المجردة، وفي رمضان والعيد، إلا أن تلك القناة فرقت بين الموقفين في طريقة العرض، في تناقض غبي جداً أو مقصود خبيث جداً.
(إضافة: قامت القناة بإيراد تأييد الشيخ عبد الملك السعدي لفتوى الشيخ الرفاعي، واصفة السعدي بأنه "المرجع الكبير". وقد علمنا أن الشيخ الرفاعي لم يكن مختلفاً مع الوقف السني في إعلانيه بداية رمضان وبداية عيد الفطر، فلا حاجة كبيرة لتأييد الشيخ السعدي ولا غيره. ولكن ربما كان ذلك من أجل أن تصف الشيخ السعدي بالمرجع الكبير – الذي جاء أكثر من مرة في ذلك الخبر –، وكأنها تريد أن تقول لأهل السنة أن عندكم مرجعاً كما للشيعة مرجع. وهذا لا داعي له مطلقاً، لأن كلمة "مرجع" إنما هو مصطلح ويستخدمه الشيعة كإشتقاق لكلمة "إرجعوا" التي جاءت في أمر الإمام(ع) بالرجوع إلى الفقهاء، كما أن مصطلح "مفتي" يستخدمه أهل السنة كإشتقاق لكلمة "إفتاء" أو "فتوى"، والمصطلحان يؤديان نفس الغرض، لا سيما في موضوع الهلال. شخصياً، أجده من الاستهانة بأهل السنة أن تقوم هذه القناة باستجداء مصطلحات لا يستخدمونها.)
الدرس من كل هذا: لنتفهم موقف الآخر
المهم في هذا كله هو الدرس الذي يمكن لمن يريد أن يتعلمه، وهو: أن نحاول أن نتفهّم موقف الآخر قبل التهجّم عليه، فلا بد أن يكون وراء الموقف الذي نراه غريباً أو منحرفاً سبب أو أسباب، ولعل هذه الأسباب معقولة، وربما تكون مستندة إلى مقدمات صحيحة هي التي تمثل الحق في الوقت الذي نعتقد بعكسه تماماً.
ما نقلته وعلقت عليه أعلاه يستفاد منه أمور:
- أن مسألة رؤية الهلال هي مسألة فلكية خارجية لا علاقة لها بالعقيدة ولا بالنفوس وما انطوت عليه من مشاكل وعقد، فإن الهلال إما أن يكون قد ولد أو لا، وإذا كان قد ولد فإما أن يكون عمره عدداً من الساعات كافية لتجعل إمكانية رؤيته معقولة لا سيما مع ملاحظة درجة قربه من قرص الشمس بعد الغروب (تأثير ضوء الشمس عليه)، فيدخل في هذا الأشخاص الذين يقومون بالاستهلال ومدى خبرتهم وعدم اختلاط الرؤية عليهم بسبب العوامل الجوية المختلفة؛ فإذا ما دأبت بعض الدول – ومنها المملكة السعودية – على الإسراع في إعلان ثبوت الرؤية بينما يكون الهلال لم يولد بعد، وهذا في سنين متعددة لعلها أكثر من غيرها، فهل أن اللوم على الآخرين الذين يخالفونها؟
- إن مسألة إعلان ثبوت الرؤية يتعلق بالرؤية أولاً (وهي قضية فلكية خارجية كما قلت)، وباعتبارات أخرى ثانياً – هذه الاعتبارات...
o منها سياسي، فكم رأينا دولاً أعلنت ثبوت الرؤية أو عدمها كي توافق أو تخالف دولة أخرى لأنها تعيش توافقاً سياسياً أو مشكلة سياسية معها (ولا تستغرب من ذلك، لأن لا الحاكم ولا علماء السلطان المرتبطين به يمتلكون من التقوى ما يمنعهم من ذلك)؛
o ومنها مذهبي، حيث تختلف المذاهب فيما بينها كما تختلف في داخلها على آلية تحديد ثبوت الرؤية الشرعية للهلال، ما بين مصرّ على الرؤية بالعين المجردة، أو الاستعانة بالعدسات المكبرة لتحديد مكان الهلال ثم محاولة تحقيق الرؤية بالعين المجردة، أو الاستعانة بالعدسات المكبرة العادية، أو فائقة القوة، أو حتى الحسابات الفلكية؛
o ومنها طائفي، حيث يقوم البعض بمخالفة الطائفة الأخرى في بداية الصيام أو إنهائه، وذلك بسبب مشاكل طائفية يعيشونها – وهذا ليس مستغرباً كثيراً لأنا وجدنا في التاريخ ما يثبت قيام العلماء بالإفتاء بمخالفة السنّة النبوية من أجل الافتراق عن الآخرين (مثلاً: قال البعض أن التّختُّم باليمين هو السنة فلما صار شعاراً للرافضة، أي الشيعة حسبما ينبزونهم بالألقاب، فإن الأفضل هو التختم بالشمال؛ كما اشتهر عند الشيعة القول أن "الرُّشْدَ في خِلافهم" أي الطوائف الأخرى) في حالة مخالفة لمراقبة الحكم الشرعي التي يجب أن يكون عليها المسلمون لأن الغاية هي رضا المولى سبحانه لا فلان وعلان، ولا النفس في مشاكلها مع فلان وعلان.
كائناً ما كانت الأسباب، تفهّم الآخرين ضروري من أجل ضرب إمكانيات الصدام، ثم تحقيق صيغة السلام الذي ينبغي أن يكون بين أفراد المجتمع بغض النظر عن الانتماءات فكيف إذا كانوا أبناء دين واحد يقول لهم أنهم أمّة واحدة، وصولاً إلى المحبة الصادقة التي من شأنها إدامة روحية التفهّم وحالة السلام بشكل دائم... طبعاً، مع تفعيل العقل والذكاء لمنع السقوط ضحية كل ناعق، ووسائل الإعلام ومنابر الواعظين بالخصوص، فقد ورد في الحديث: ((مَنْ أصغى إلى ناطِقٍ فقد عَبَدَه، فإنْ كانَ ينطِقُ عن الله فقد عَبَدَ الله، وإنْ كانَ ينطِقُ عن الشيطان فقد عَبَدَ الشيطان)).