الحج تشييد للدين
﴿( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ )﴾
لا شك في أن أي فكرة لا تجد طريقها إلى التطبيق تبقى معرضة للإتهام بأنها غير صالحة للإنسان. ولا شك بأن الدين، أي دين، سواء كان سماوياً أو وضعياً، بحاجة إلى أن يتعرض للتجربة كي يرى الإنسان مدى صلاحياته له، وفيما إذا كان يحتاج إلى تطوير كبير أو قليل. هذا بصفة عامة، أما من جهتنا نحن المسلمين فنعتقد أولاً بأن الدين الذي يجب أن يتّبع هو الدين السماوي فحسب، وأن الدين السماوي الذي يجب اتباعه اليوم هو الإسلام لا غير. وهذا الإعتقاد ليس قائماً على العصبية كوننا مسلمين، وإنما لما نصّ عليه الشارع من أن الدين الخاتم هو الإسلام، وبالتالي هو الشريعة التي نسخت ما قبلها من الشرائع، ولأن الشارع قال بأن ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾(آل عمران85). بل إن الرسل السابقين عليهم السلام ليس لهم، إن حضروا زماننا، إلا أن يتبعوا هذا الدين، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله لبعض أصحابه: ‹‹لو كان موسى حيّاً ما وسعه إلا أن يتّبعني›› أو كما قال.
وما إن وجدت الفكرة مكانها في المجتمع أول العالم ككل إلا وبدأت المشاكل بين حامليها أنفسهم أو بينهم وبين غيرهم، والإشكالات عليها وعلى حامليها. بعدها يبدأ التطبيق الذي يعاني من الخطأ من قبل حاملي الفكرة وأيضاً الفعل العدائي لغيرهم بالإنحدار بالفكرة إلى أن تصل إلى حد يبتعد عنها حتى حامليها، كلهم أو جلّهم أو بعضهم. وكذا الإسلام الذي بدأ قوياً ناصعاً في الحياة النبي(ص)، ثم ما لبث إلا وبدأ بالإنحدار بفعل التطبيق الخطأ لحامليه، لا سيما حكامهم وبعض فقهائهم وعلمائهم، وكذا الهجمات المتواصلة لأعدائه التي توّجت باحتلال بلاد المسلمين من قبل الكافرين بدءاً من القرن الماضي.
هنا تأتي أهمية الحج، تلك الشعيرة السنوية التي مارسها المسلمون طيلة القرون الأربعة عشر الماضية وسيقون كذلك إلى ما شاء الله. هذه الأهمية لخّصتها الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام في خطبتها بمسجد أبيها(ص) بعد وفاته. تلك الخطبة، وإن كان الهدف منها هو إقامة الحجة على المسلمين عموماً وعلى من أداروا ظهورهم لوصية النبي(ص) في زوجها علي ابن أبي طالب(ع) خصوصاً، ولكنها، شأنها شأن الأنبياء والصدّيقين، استغلّت المناسبة للدعاية للدين الحنيف. فمثلها مثل يوسف الصدّيق(ع) يوم سأله صاحبا السجن عن تفسير الرؤيا، فإذا به يستغل الفرصة ليدعو إلى الله قبل أن يستجيب إلى طلبهما ﴿يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون أم الله الواحد القهار﴾ إلى آخر الآيات (يوسف39). وكذا بضعة المصطفى(ص) فإنها ملأت أجواء المسجد بالدعوة إلى الله، فقال الشاعر في ذلك:
تعظِ الناس في أتمّ الخطاب حَكَت المصطفى به وحكاها
قالت(ع) فيما قالت: ‹‹وجعل لكم الحج تشييداً للدين››.
فكيف يكون الحج تشييداً للدين؟
أولاً: حضور المسلمين إلى هذه البقعة المقدسة في قت واحد كل عام يربطهم باستمرار بهذه البقاع الطاهرة وبأنها بيت الله ومهبط الوحي ومنزل النبوة وموطن التأسيس، فكأنهم سيعيشون هذه الأجواء العطرة التي لم يوفّقوا لها: أما أولئك الذين عاشوها فالربط أوكد، على أن الزهراء(ع) تتحدث إلى جميع الأجيال.
ثانياً: مهما وصل الحال السيء بالأمة، ومهما انحدرت، حكامها ومحكوموها، فإن هناك تظاهرة سنوية يقول الإسلام فيها إني هنا وسأظل هنا. حتى المسلمين غير الملتزمين، فإنهم يعيشون أجواء الحج بأشكال مختلفة مثل حج أقربائهم وأصدقائهم مع ما في ذلك من القيام بواجبهم من تهيئة أو تهنئة، أو بمجرد سماع أخبار الشعائر المقدسة من وسائل الإعلام.
ثالثاً: الحج تشييد للدين في نفس الإنسان لما فيه من مشقة ولا روتينية تجعله يتعامل معه بشكل مغاير للعبادات التي وفقه الله لأدائها سواء اليومية كالصلاة والوضوء أو التي بين الحين والآخر كالسعي في حوائج الناس أو السنوية كالصيام.
رابعاً: الحج تشييد للدين لأنه باب مفتوح أمام الغافلين وغير الملتزمين، متى ما أرادوا أن يلجوه فإنهم يرجون بعده أن يخرجوا منه كما ولدتهم أمهاتهم، أنقياء من الذنوب. ولعل هذا هو أهم ما في الحج على المستوى الشخصي، وبالتالي على مستوى المجتمع الذي لن يعدم أشخاصاً، في كل عام، يعودون إليه وقد عادوا إلى حظيرة الدين. لذا فالحج تشييد للدين عند غير الملتزم يوم يقوم به، ومن ثم في المجتمع.
وبعد فلعل هناك جهات أخرى لهذه الكلمة العظيمة ‹‹الحج تشييد للدين››، إلا أن المهم هو أن نعي أن الحج ليس كالعبادات الأخرى، ولذا فإنه من المؤسف أن يضيع المسلمون هذه الشعيرة المقدسة، سواء على المستوى الشخصي أو المستوى الإسلامي العالمي، دون أن يستغلوها أفضل استغلال للدعاية للدين الحنيف، وكذا في عدم إبطال مفعولها بالذنوب والعيوب والسلبيات أثناء أدائها وبعده.