تضمنت خطبة الزهراء(ع)، التي ألقتها في مسجد النبي(ص)، مواضيع متعددة يمكن تقسيمها إلى عدة أقسام: مواعظ عامة، الخلاف حول ميراثها من أبيها(ص)، ومنه يتفرع الخلاف حول مصادر التشريع – بين القرآن الذي اعتمدته الزهراء(ع) والنقل الروائي المشكوك فيه مع تحكيم الناس الذي اعتمده الخليفة، الخلاف حول خلافة النبي(ص)، التنبيه إلى النتائج المستقبلية للانحراف قبالة النجاح الذي كان سيتحقق بعيداً عن الانحراف، أخيراً فلسفة التشريعات. وبما أن الزهراء(ع) تعرف كيف تتقدم في خطبتها، فإنها جعلت فلسفة التشريعات أول الأقسام – طبعاً بعد الافتتاح بالحمد للمولى عز وجل والثناء عليه والتذكير بنعمته الكبرى وهو النبي(ص). أتناول في هذه المقالة هذا القسم الهام، بذكر النص أولاً، ثم التعليق على كل جملة منه ثانياً (بما ذكرته في ملحق كتابي "العودة إلى الأصل" تعليقاً على جميع أقسام الخطبة – تجده في قسم الكتب).
إشارة إلى مصادر الخطبة ورواية قدوم الزهراء(ع) إلى المسجد
على أن مواضيع الخطبة، ومعارفها، وبلاغتها، وأسلوبها الواضح أن المتحدثة تتحدث من مكان عالٍ سامٍ إطاره العلم التام والثقة المطلقة بما عندها من علم من جانب وحق من جانب آخر وارتباط تكويني بالنبي(ص)، واضحة في صدورها من سيدة نساء العالمين(ع)، ولكن لا بأس بالإشارة إلى أنها وردت – كلاً أو بعضاً – في العديد من المصادر. فقد رواها ابن طيفور في "بلاغات النساء" عن زيد بن علي بن الحسين بن علي(ع) ، والشيخ الصدوق في "علل الشرائع" عن زينب بنت علي(ع) وزيد بن علي الشهيد عن عمته زينب بنت علي عن أمها فاطمة الزهراء(ع) وعن أحمد بن محمد بن جابر عن زينب بنت علي(ع)، والسيد المرتضى في "الشافي في الإمامة" عن عروة بن الزبير عن أم المؤمنين عائشة، والطبرسي في "الإحتجاج" عن عبد الله بن الحسن عن آبائه، وأوردها ابن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة" تعليقاً لرسالة الإمام علي(ع) إلى عثمان بن حنيف التي يذكر فيها فدكاً، ويرويها عن كتاب "السقيفة" لأحمد بن عبد العزيز الجوهري بعدة طرق عن الأمامين الباقر والصادق(ع) وعن زينب بنت علي(ع) وعن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن(ع)، والسيد ابن طاووس في "الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف" عن الزهري عن أم المؤمنين عائشة، وعلي بن عيسى الأربلي في "كشف الغمة" عن "السقيفة" لعبد العزيز الجوهري؛ وهناك إشارات إلى الخطبة أو بعضها في مصادر عديدة مثل "مروج الذهب ومعادن الجوهر" للمسعودي، و "لسان العرب" لإبن منظور، و "أعلام النساء" لعمر كحالة.
فقد روى عبد الله بن الحسن باسناده عن آبائه – كمقدمة للخطبة –، أنه: "لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة عليها السلام فدكاً وبلغها ذلك لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله(ص)، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، فجلست، ثم أنَّت أنَّةً أجهش القوم لها بالبكاء، فأرتج المجلس، ثم أمهلت هنيهة، حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله(ص)، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها. فابتدأت عليها السلام بالحمد والثناء على المولى عز وجل :
‹‹الحمد لله على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتداها وسبوغ آلاء أسداها وتمام منن أولاها...)) وهدرت في خطبتها التي تحوي من المعارف والحجج الدامغة والمناقشات القرآنية في إطار من البلاغة لا يصدر إلا من أبيها محمد(ص).
فكان مما جاء فيها مما يبين الحكمة من وراء التشريعات الأساسية في الدين الإسلامي:
((فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس، ونماء في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً للفرقة، والجهاد عزاً للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفة، وحرم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية؛
﴿فَاتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنُّ إِلاّ وَأَنتُمْ مُسلِمُونَ﴾، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنه ﴿إِنمّا يَخشى اللهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ﴾)).
هذه الفقرة من أهم فقرات الخطبة، وهي فقرة لا علاقة لها بالنزاع مع الخليفة، لا في شأن الخلافة ولا الميراث، وإنما فقرة تبين فيها الحكمة من التشريعات الإسلامية باختصار معجز لا يخرج إلا ممن ولدها من أنزلت عليه الشريعة وبز الناس في الفصاحة، محمد(ص)؛ هذه الفقرة تستحق بحوثاً وكتباً لأنها تفتح الباب على مصراعيه للبحث في الشريعة والحكمة من فروعها ما يفتح الباب أمام النظر في تفاصيل كل من هذه الفروع، ولكن أحب التعليق بجملة لكل من أقسام هذه الفقرة الفريدة من كلامها(ع):
- الإيمان يزكي النفس من الشرك لأنه ينظف العلاقة بين العبد وربه بتخليص العبد من علائق الدنيا
- الصلاة تجعل العبد يقف بين يدي مولاه بكل خضوع، وقوف اختيار، كل يوم، في أوقات محددة، وهو ما يرغم أنف النفس المتكبرة
- الزكاة لعلها تطهر النفس بمساعدتها على قبول الانفصال عن الممتلكات التي ترهق النفس، ثم تنمي الرزق بلطف الله تعالى من جهة وبما تصنعه في الدورة الاقتصادية في المجتمع من جهة أخرى ما يعود بالرزق على معطي الزكاة
- الامتناع عما تحبه وما اعتادت عليه النفس وفيه قوام البدن والعقل لتأكيد الاستجابة للمولى فيما يحب
- الحج يشيد الدين في نفس الفرد بما نعرفه من آثار الحج التي تتعامل مع الكبر والرغبات والمعتاد من الرفاهية، وفي المجتمع بما يجعله للحاج من منزلة عند الناس كونه لبى نداء إبراهيم(ع) وذهب إلى المشاعر وتنظف من ذنوبه، وفي الأمة بما يذيبه من طبقية وطائفية وغير ذلك مما يقسمها، وفي العالم بما يمنحه للأمة الإسلامية من مشهد قوة يتكرر سنوياً عسى أن يعيد لها ما خسرته من مهابة عند الأمم
- العدل يعطي المظلوم حقه فيزيل عنه ما يجده في قلبه على ظالمه، بل وفيه أثر استباقي لمنع المشاكل ما يمنع من تنافر القلوب أصلاً
- طاعة أهل البيت(ع) هي التي تنشئ النظام العام في الأمة، لأن عندهم(ع) العلم الكامل والعصمة المطلوبة لإجراء السياسات والترتيبات في المجتمع ما يحقق له المسيرة الصحيحة التي لا تنحرف إلى الفوضى
- إمامة أهل البيت(ع) تحقق وتركز وتديم الوحدة الإسلامية وبدونها تتفرق الأمة أحزاباً وشيعاً، فإن أهل البيت(ع) لم يختلف عليهم أحد فلو ائتمت الأمة بهم تحققت الوحدة، في حين أن غيرهم اختلف فيه فتفرقت الأمة شيعاً كما نعرف
- الجهاد هنا الجهاد الأصغر، أي القتال في سبيل الله، وهذا يحقق العز للدين من ناحيتين: الأولى عن طريق تقوية وتوسعة الدولة الإسلامية، الثانية عن طريق جعل الدولة مهابة بحيث لا يذلها الآخرون
- الصبر على الشدائد والنوائب والمصائب من الأبواب التي فتحها المولى سبحانه للأجر، ربما لأنها تعني صدق التوحيد حيث تهون النوازل لأن الدنيا تهون في عين العبد الذي كبر المولى في عينه، وربما لأنها تعني صدق التوكل على الله في إزالة الكروب، وربما لأنه تعني عدم الغفلة عن مفهوم الابتلاء الذي ينزله المولى بعباده لاختبار إيمانهم
- الأمر بالمعروف يحقق الخير للناس لأن بعضهم ينبه البعض الآخر إلى المعروف من القول والفعل، وفي بعض موارده نهي عن المنكر بشكل غير مباشر، وفي كل ذلك المصلحة للناس
- بر الوالدين يقي البار من سخط الله تعالى لما جعله لهما من منزلة جاءت من جوانب عدة: جهودهما المبذولة للولد وتضحياتهما وإيثارهما الخ
- صلة الأرحام تحقق أمرين: زيادة في العمر، ربما لأن العمر متعلق بأصل وجود الإنسان بدءاً من الرحم فكأن العبد يعطي لمن رفده بالحياة فيستحق الزيادة منه، وزيادة في العدد، ربما لأن الله تعالى يثيب عليه بزيادة في الولد وربما لأنه يساهم في تقوية أوضاع الأسرة الأكبر والأقارب والعشيرة الأقربين بما يسمح لها بمزيد من الإنجاب
- القصاص يحقن الدماء، أولاً لأنه يمنع من أخذ الثأر ثم الثأر المتبادل وهكذا، وثانياً لأنه يشكل رادعاً من ارتكاب الجريمة أصلاً
- الوفاء بالنذر يعلن صدق العبد من جانب، وطاعته لربه في تنفيذ أحكام الشريعة من جانب آخر، فيمن عليه ربه بالغفران
- توفية المكاييل والموازين يغير حالة ظلم البائع للمشتري إلى حالة عدل في عملية الشراء، وهي حالة منتشرة بحيث وصفت(ع) توفية المكيال بأنه يغير البخس وكأن البخس هو الحالة التي صارت الأصل في السوق
- النهي عن شرب الخمر ينزه الإنسان من القذارة المادية والمعنوية التي يتعرض لها من الخمر في آثاره على الجسد والعقل والنفس
- إجتناب قذف الناس بالصفات السيئة والتهم يمنع من الطرد من رحمة الله تعالى
- ترك السرقة كأنه استجابة من الإنسان لمتطلبات عفة اليد وتنزهها عن الحرام
- تحريم الشرك يقطع الطريق أمام أي رب مزيف من جهة، ويعلن إخلاص العبد في إيمانه بربوبية المولى عز وجل من جهة ثانية
بعد أن بينت لهم ذلك، وعظتهم بالتقوى والتمسك بدين الإسلام، وبطاعة الله فيما أمر به ونهى عنه، وتربط حسن استجابتهم بالعلم، ولاسيما الفقه ههنا لأن الطاعة في الواجبات والمحرمات إنما تكون في التفقه بالدين لمعرفتها، وأن من يعلم هو الذي تتحقق فيه خشية الله على حقيقتها.