"كتب هذا المصحف وضبط على ما يوافق رواية حَفْص بن سُليمان بن المُغيرة الأسدي الكوفي لقراءة عاصِم بن أبي النُّجود الكوفي التابعي عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السُّلمِي عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأُبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم."
القراءة المتسالم عليها
هذه هي سلسلة رواية قراءة القرآن الكريم التي يجدها المسلم مثبتة في نسخة القرآن التي بين يديه، في جميع الطبعات، ومن نشر جميع الناشرين، وفي جميع البلدان، لا يوجد رواية أخرى غيرها. هذه الرواية تسمى "رواية حفص" نسبة إلى الراوي الأول أعلاه. قال علماء أهل السنة أنها "أصح القراءات".
فمن هؤلاء الرواة الثلاثة:
(1) حَفْص بن سُليمان بن المُغيرة الأسدي الكوفي
(2) عاصِم بن أبي النُّجود الكوفي
(3) أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السُّلمِي
وعلى أي مذهب من المذاهب الإسلامية كانوا؟
للجواب على هذا، فيما يلي ملخص لبعض ترجمات هؤلاء الرواة.
حَفْص بن سُليمان بن المُغيرة الأسدي الكوفي
ولد حفص سنة 90 هجرية وعاش حتى سنة 180 هجرية، لذا فإنه عندما بلغ مبلغ الرجال كانت إمامة أهل البيت(ع) قد انتقلت إلى الإمام جعفر الصادق(ع)، ومن هنا تجد رواية حفص عن الصادق(ع)، حيث كان من شيعته بلا خلاف. عده الشيخ الطوسي من رجال الشيعة (رجال الطوسي ص176)، ما أيده السيد محسن الأمين (أعيان الشيعة ج6 ص201).
فماذا قال علماء الحديث وعلماء التاريخ وعلماء القراءات عنه؟
قال أبو عمرو الداني (المقنع): "ومما تجدر الإشارة إليه أن قراءة حفص صحيحة متصلة السند بالهادي البشير عليه الصلاة والسلام، لأنـها ترتفع إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم".
قال الذهبي (ميزان الاعتدال ج1 ص508 رقم 2121): "وكان شيخاً في القراءة واهياً في الـحديث لأنه كان لا يتقن الحديث ويتقن القرآن ويجوّده، وإلا فهو في نفسه صادق".
وقال صاحب معجم البلدان (ج10 ص215): "قال حفص: قال لي عاصم: القراءة التي أقرأتك بـها فهي التي قرأتـها عَرْضاً على أبي عبد الرحمن السلمي عن عليٍّ، والتي أقرأتـها أبا بكر بن عياش فهي التي كنت أعرضها على زر بن حبيش عن ابن مسعود… قال يحيى بن معين: الرواية الصحيحة من قراءة عاصم رواية حفص، وكان أعلمهم بقراءة عاصم، وكان مرجحاً على شعبة بضبط القراءة".
وقال صاحب طبقات القرّاء ج1 في ترجمته: "أما القراءة فثقة ثبت ضابط لـها بخلاف حاله في الحديث. قال ابن المنادي: قرأ على عاصم مراراً، وكان الأولون يعدونه في الحفظ فوق أبي بكر بن عياش ويصفونه بضبط الحروف التي قرأها على عاصم، وأقرأ الناس دهراً وكانت القراءة التي أخذها عن عاصم ترتفع إلى علي رضي الله عنه".
نفس الشيء ذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج8 ص196 رقم4312 وصاحب شذرات الذهب وصاحب تحرير تقريب التهذيب بأن حفص كان إماماً في القراءة متروكاً في الحديث.
وإن كان صاحب معجم حفاظ القرآن ج1ص210ت92 وصفه بأنه "الإمام الحجّة الثقة الثبت، صاحب الرواية المشهورة في الآفاق، ويقرأ بـها إلى الآن معظم المسلمين في شتى أنحاء العالم ... وقد أخذ القراءة عرضًا وتلقيناً على عاصم بن أبي النجود الإمام الخامس من الأئمة العشرة" فوصفه بالثقة الثبت ربما يمتد إلى الحديث، ولكن الذهبي جعله واهياً في الحديث لعدم الإتقان في الحديث على الرغم من أنه لم يستطع أن يرميه بالكذب (كما هي عادتهم مع أعلام الشيعة).
عاصِم بن أبي النُّجود الكوفي
من تابعي التابعين، توفي سنة 120 للهجرة أو بعدها بسنوات قليلة. وقد عده علماء الشيعة منهم، حتى وصف بأنه "مقتدى الشيعة"، كما نص على ذلك السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة (ج7ص407 ترجمة رقم1415 .). ذكر ترجمته السيد أبو القاسم الخوئي في معجم رجال الحديث كونه أحد محدثي الشيعة.
فماذا قال علماء أهل السنة المختصون عن هذا الراوي الشيعي؟
قال صاحب شذرات الذهب (ج1ص175: "وعاصم بن أبي النجود الكوفي الأسدي مولاهم، أحد القراء السبعة وكان حجة في القراءات صدوقاً في الحديث قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي وغيره".
وقال الذهبي (تاريخ الإسلام ج5 ص139): "قرأ القرآن على أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش، وروى عنهما… قال أبو بكر قال لي عاصم: ما أقرأني أحدٌ حرفاً إلا أبو عبد الرحمن السلمي كان قد قرأ على علي رضي الله عنه فكنت أرجع من عنده أعرض على زر… وقال أبو بكر بن عياش: لا أحصي ما سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول: ما رأيت أحداً أقرأ من عاصم، ما أستثني أحداً من أصحابه".
وقال صاحب تـهذيب الكمال (ج13ص473 رقم 3002): "قال عبد الله ابن أحمد بن حنبل: سألت أبي عنه فقال: كان رجلاً صالحاً قارئاً للقرآن، وأهل الكوفة يختارون قراءته وأنا أختار قراءته، وكان خيّراً ثقة... وقال عبد الله أيضا: سألت أبي عن حماد بن أبي سليمان وعاصم، فقال: عاصم أحب إلينا، عاصم صاحب قرآن، وحمّاد صاحب فقه. وقال أحمد بن عبد الله العجلي: عاصم صاحب سُنة و قراءة للقرآن، وكان ثقة، رأسا في القراءة، ويقال: أن الأعمش قرأ عليه وهو حَدَث..."
وحماد بن أبي سليمان هو أستاذ الإمام أبي حنيفة النعمان.
ووصفه ابن مجاهد فقال (كتاب السبعة في القراءات ص69) وغيره بشكل مشابه: أنه كان ثبتاً في قراءة القرآن ومن رؤوس القراء بلغ الغاية في إتقانه حتى بز الآخرين، كما كان راوياً للحديث، غير متهم في روايته كما اتهموا حفص بن سليمان، ولكن لم يعدوا روايته وصلت إلى درجة الإتقان.
ولعل هذا الضبط من عاصم(رض) هو الذي جعل الراوي عنه حفص بن سليمان يختارها، لا سيما وقد علم منه أنها قراءة أبي عبد الرحمن السلمي الذي أخذها مباشرة عن الإمام علي(ع) وناهيك بها من قراءة عن التلميذ الأول والأكمل للنبي(ص) الذي نزل عليه القرآن.
فمن هو أبو عبد الرحمن السلمي؟
أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السُّلمِي
عبد الله بن حبيب بن ربيعة الكوفي (أبوه حبيب صحابي)، من التابعين المعروفين بتشيعهم وصحبتهم للإمام علي(ع) في سلمه وحربه. إختلفوا في سنة وفاته، فكانت سنة 70هـ أو 73هـ أو بعدها بقليل.
نص على صحبته لعلي(ع) إبن قتيبة (المعارف ص528)، الذي قال: "كان من أصحاب علي، وكان مقرئاً ويحمل عنه الفقه". هذه القراءة عن علي(ع) نص عليها آخرون كصاحب طبقات القرّاء وابن حجر في التقريب.
وذكره الطبري في تاريخه بأنه كان من أصحاب الإمام علي(ع) في حرب صفين.
أما علماء الشيعة الرجاليون فقد نصوا على أنه من أصحاب علي(ع) القريبين حتى وصفه البرقي بأنه "من خواص علي عليه السلام".
وكما ذكرنا أعلاه بخصوص عاصم بن أبي النجود، فإن قراءة عاصم أخذها عن أبي عبد الرحمن السلمي، بل هي التي اختارها عن غيرها. إذاً، تلك القراءة المضبوطة لعاصم كانت من قراءة أبي عبد الرحمن السلمي، ولما رأيت ما قاله العلماء عن قراءة عاصم فإن أبا عبد الرحمن السلمي هو سيد القراء، أو من سادة القراء، من التابعين بلا كلام.
إذاً، طريق قراءة القرآن الكريم طريق شيعي
وهكذا فإن الطريق الذي استند إليه المسلمون، ولا يزالون، في قراءة كتاب ربهم، الذي هو الحبل الممدود بين السماء والأرض حسبما وصفه النبي(ص)، والذي هو الثقل الأكبر كما وصفه النبي(ص) في حديث الثقلين الشهير، بحيث أن أئمة الهدى من آل محمد(ص) ليسوا إلا الثقل الأصغر مقارنة مع كلام الحق تعالى، الطريق هو طريق شيعي خالص – فهو من إمام الشيعة الأول ومولاهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) إلى صاحبه وأحد خواصه أبي عبد الرحمن السلمي الكوفي الذي أوصله إلى عاصم بن أبي النجود الكوفي الذي أوصله إلى حفص بن سليمان بن المغيرة الكوفي، فالثلاثة من الشيعة العرب ما بين تابعي مصاحب لصيق لعلي(ع) وآخر من تابعي التابعين من أعلام شيعة الكوفة وآخر من تابعي التابعين أو تابعيهم من أصحاب إمام الشيعة الذي يسمي أهل السنة مذهب أهل البيت(ع) باسمه الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع).
ثلاثتهم وصفوا بالإتقان في القراءة، حتى عدوا من سادتها وأئمتها، فتلقت الأمة بالقبول التام قراءتهم حتى فضلتها واختارتها على غيرها بحيث لم يعد هناك غيرها في جميع نسخ القرآن الكريم اليوم.
فكيف يقال بأن الشيعة يقولون بتحريف القرآن؟!
فإذا كان هذا هو الحال، فهل يمكن عقلاً قبول التهمة، بل الفرية، أن الشيعة يؤمنون بأن القرآن الذي بين أيدينا محرف؟
كيف يقوم الشيعة منذ عصر إمامهم الأول علي(ع) بضبط قراءة القرآن حتى يصلنا إلى ما هو بين أيدينا اليوم ثم نقول أنهم يؤمنون بتحريف القرآن؟
أما كان إمامهم الأول(ع) قال لهم بأن هذا محرف ولا داعي لأن ينفقوا الأعمار في ضبطه؟
بل إن النسخة التي بين أيدينا، التي يحق لنا أن نسميها النسخة الشيعية في القراءة، إختارتها الأمة على غيرها.
ولكن: هل قام علماء السنة الذين ترجموا لهؤلاء بالإفصاح عن تشيع هؤلاء الرواة الثلاثة(رض)؟
معظمهم لم يفعل ذلك، وإن اضطروا إلى تثبيت صحبتهم لعلي(ع) أو للإمام الصادق(ع)، كما اضطروا إلى تثبيت عشائرهم وبلدتهم الكوفة.
ولكن للباحث أن يقول بأن في كلامهم الذي وصفوا به هؤلاء الرواة الأعلام ما يشير إلى هذه الحقيقة، وذلك عندما طعنوا في إتقانهم للحديث الشريف. فلعل ذلك كان من أجل صرف الناس عن أية رواية حديث يمكن أن تصلهم من هؤلاء الذين وثقوا في نقلهم لأهم ما عندهم وهو كتاب ربهم عز وجل فكيف لا يثقون في روايتهم عن نبيهم(ص). حتى في هذه، فقد اضطروا إلى الاعتراف بالإتقان إلى درجة كبيرة لعاصم بن أبي النجود.