محاضرة في مركز سري/إنجلترا، السبت 26.4.2014
غسان نعمان ماهر السامرائي
الأنصار – صفات وعطاء ومظلومية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد وآله الطاهرين.
هذه توليفة من مقالة "دعوة للتفكر 1" على موقعي على الانترنت، مع إضافات تتعلق بمحاضرة اليوم.
من العناوين المعروفة لدى كل مسلم عنوان "الأنصار"، أي أنصار النبي(ص)، وهم الذين أسلموا من قبيلتي الأوس والخزرج في المدينة المنورة (وكان اسمها آنذاك يثرب) وجاءوا وعرضوا فتح مدينتهم للنبي(ص)، واتفق النبي(ص) معهم فبدأ المسلمون يهاجرون إليها، وهؤلاء "المهاجرون"، وسمي أهل المدينة الأصليون "الأنصار".
ثناء القرآن الكريم على الأنصار
وقد أثنى القرآن الكريم على الأنصار بشكل ملفت: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الحشر:9. تقول أن الذين سكنوا دار الهجرة قبل المهاجرين (حيث كانت الآية قبلها تثني على المهاجرين):
(1)تعلن أن الأنصار ((وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ)) أي أسسوا الدار ومكّنوا منها الدين الجديد. ولكن كيف تقول أنهم ((تبوؤوا .. الإيمان من قبلهم)) أي قبل المهاجرين؟
قيل أن المعنى هو: "سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم"، وهو صحيح.
وقيل: "هو يفيد الثناء عليهم بأن دار الهجرة دارهم آووا إليها المهاجرين لأنها دار مؤمنين لا يماثلها يومئذ غيرها"، وهو صحيح أيضاً.
وقيل أن هناك محذوفاً أن التقدير هو "تبوؤوا الدار وموضع الإيمان" وهو ممكن أيضاً.
بالجملة: هم الذين أسسوا أول دار للإيمان
+ آمنوا قبل بعض المهاجرين، بل قبل غالبية من هاجر فيما بعد من مكة أو غيرها
+ إختارهم الله ليكونوا في موضع الإيمان قبل غيرهم
+ إنما صار المهاجرون مهاجرين لأنهم هاجروا إلى دار الإيمان التي أسسها الأنصار
(2)((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) يحبون المهاجرين، والقرآن لا يطلق الكلمات جزافاً، وعليه فإن كلمة "يحبون" تعني الحب الحقيقي الصادق، وبما أنها قالت أنه حب لـ ((من هاجر إليهم)) إذاً هو حب متصل بالهجرة، أي بالإسلام، فهو حب عال لا يتعلق بالدنيا؛
(3)((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا)) لا يتفاعلون مع أي فعل سلبي من الآخرين، ولعله إشارة إلى المهاجرين الذين صاروا يشاركونهم معايشهم وبيوتهم، بل ولا يجدون في داخل قلوبهم ضغناً على المهاجرين حتى وإن آذوهم بشكل أو بآخر، وهذه لا تكون إلا لمن جرد قلبه تجاههم من أي نظرة سوى نظرة الإخوة الإيمانية الحقيقية؛
(4)((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) لا يكتفون بتقديم المهاجرين على أنفسهم في مقام العطاء، بل يقدمونهم حتى ولو كانوا هم بحاجة إلى ذلك.
(5)ثم تختم الآية بالإعلان ((وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أن الذي وفق إلى التخلص من بخل نفسه فقد نال درجة الفلاح، وهي درجة سامية جداً تجد القرآن يصف بها المؤمنين الصادقين ﴿قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون ...﴾ الآيات.
بيعتا العقبة
بعد 11 سنة من الدعوة، جاء وفد من يثرب يضم 12 رجلاً وبايعوا النبي (ص) سراً عند العقبة، وهي الجمرة أو الصخرة، موقع خارج مكة اجتمع الوفد فيه مع النبي (ص) في موسم الحج.
بعدها بسنتين جاء أكثر من 70 من أهل يثرب، منهم امرأتان، فبايعوا النبي (ص) بيعة العقبة الثانية.
في زمن القتال
إلا أن هذا في زمن السلم، فماذا عن وقت القتال؟ نجد أن الأنصار كانوا هم العدد الأكبر في جيش النبي(ص) (وإن كان سبب ذلك هو كون عددهم أكبر من المهاجرين، وهي فضيلة لهم أيضاً).
ففي بدر كان عدد الشهداء من المهاجرين 6، بينما عددهم من الأنصار 8.
وعندما هرب المسلمون يوم أحد، لم يبق معه(ص) إلا علي(ع) والأنصاري أبو دجانة سماك بن خرشة، كل منهما يقاتل من وجه، والأنصارية نسيبة بنت كعب تتلقى السهام عن النبي(ص)، مع أن الرجال – ومنهم كبار المهاجرين – هربوا لا يلوون على شيء.
هذا، وكان عدد شهداء أحد من المهاجرين ما بين 4 إلى 6، في حين كان عدد شهداء الأنصار مابين 60 و 65.
وعندما هرب المسلمون يوم حنين ولم يبق معه(ص) سوى علي(ع) وعمه العباس وربما بضعة آخرين، فإنه(ص) أمر عمه العباس أن ينادي "يا أصحاب السمرة" أي صخرة العقبة التي بايع الأنصار عندها رسول الله(ص) قبل الهجرة، فميزهم بخطاب غير الخطاب العام "يا أهل بيعة الشجرة يا أهل سورة البقرة". وتقول الروايات أن الأنصار كانوا أول من أفاء إليه(ص).
وعند موقف ضعف الأنصار
وحتى عندما ضعف الأنصار قليلاً يوم وجدوا النبي(ص) يعطي كبار المشركين العطايا الكبيرة ولا يعطيهم شيئاً، فإنه(ص) أوضح لهم أنه إنما كان يتألف أولئك المشركين، فقال بعد أن ذكر العطاء المتبادل بينه(ص) وبين الأنصار: ((أوجدتم يا معشر الانصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ... فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار؛ ولو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار؛ اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار)). فهو(ص) يثق بإسلامهم في تقدير الموقف؛ وبأنه لو لم يكن مهاجراً من مكة لعد نفسه واحداً منهم؛ وبأن الناس لو افترقوا فرقتين فإنه سيختار فرقة الأنصار. ويختم بذلك الدعاء المستجاب لثلاثة أجيال منهم.
مدح النبي (ص) للأنصار
مدح رسول الله (ص) أنصاره أعظم المدح:
فقد روي قوله (ص) ((الأنصار كرشي وعيبتي))؛ أما "كرشي" فإما:
(أ) أنهم مادتي التي أقوى بها وأفزع إليها كما تفزع المجترات إلى أكراشها فتجتر منها عند فقد المرعى، أي أن الأنصار يمدونه بأنفسهم.
(ب) أو أنهم الأنصار أهلي وعيالي وحامتي وجماعتي، والكرش اسم للجماعة.
وأما كلمة "عيبتي" فمعناها:
أنهم موضع ثقتي ومكان سري ولجأ ظهري، كالعيبة التي يودعها الانسان ما استودعها تحسباً لصروف الدهر.
كما روي أنه(ص) جعل حب الأنصار من علامات الإيمان وبغضهم من علامات النفاق.
((حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق))
((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار))
وهذا معيار لم يرو عنه(ص) إلا في حق علي بن أبي طالب(ع). وهذا معيار مهم جداً عند النظر في الروايات، لأنه بعد المعيار الأول وهو عدم التعارض مع القرآن، فإن الروايات التي تلاعبت بها الحزبيات والعصبيات والسياسة لا بد أن تحاول تلمس خفايا النفوس: أمؤمنٌ أم منافق؟ وهذا بذاته عسير لأنه مما خفي، ولكن الله تعالى يسره لنا عن طريق إخبار نبيه (ص) أن "حب علي من الإيمان وبغضه من النفاق" وكذا "حب الأنصار من الإيمان وبغضهم من النفاق".
(** لطيفة تؤشر إلى منهاج التجهيل: بعد أن ذكر ابن حجر العسقلاني في كتاب "فتح الباري" لشرح صحيح البخاري حديث حب الأنصار وبغضهم، يبدو أن انتبه إلى أن الناس سيخطر في بالهم حديث حب علي (ع) وبغضه، فقال ما نصه: "وقد ثبت في صحيح مسلم عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ((لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)) ، وهذا جار باطراد في أعيان الصحابة ، لتحقق مشترك الإكرام ، لما لهم من حسن الغناء في الدين"! فعرف – بالوحي أو الإلهام أو العبقرية – أن قول النبي (ص) لعلي (ع) يجعله معياراً ضابطاً للإيمان والنفاق يطّرد هكذا وبكل سهولة في آخرين كثر سماهم "أعيان الصحابة"! وقس على هذه ما سواها.)
موقف الأنصار بعد وفاة النبي (ص)
أثيرت مسألة موقف الأنصار للرد على قول الشيعة من النص على علي(ع) بأنه ليس فقط قريش وحدها التي عارضت خلافة أهل البيت(ع) بل الأنصار أيضاً، وبالتالي فكيف يجتمع هذان الطرفان على ضرب النص على علي(ع) عرض الحائط؟
وقد أجيب عنها بما يلي:
(أولاً) أن لهم حقاً في الإمرة كونهم هم ﴿الَّذِينَ آووا ونَصَروا﴾ يوم أن سدّت الأبواب بوجه النبي(ص) وكما سمّتهم الزهراء(ع) بحضنة الإسلام وأعضاد الملّة.
(ثانياً) أن قريشاً خضعت بأسيافهم للإسلام فكانوا يخشون من اليوم الذي تتغلب فيه فتنتقم منهم، وهو قول الحِباب: "ولكنا نخاف أن يليها بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم"، وهو ما وقع بعد خمسين سنة باستباحة بني أمية المدينة في وقعة الحرّة، وأخذت البيعة من أبناء الأنصار كالعبيد.
(ثالثاً) إذا كان صاحب الأمر علي(ع) قد رأوا كيف حسدته العرب وتآمرت عليه ويعرفون حقدها عليه عندها لا يرون إثماً كبيراً في أن يسعوا لمنصب الخلافة طالما قد خرجت عن صاحبها الشرعي؛ ولعل ما يدل عليه قول بعضهم بعد فشلهم "لا نبايع إلا علياً".
(رابعاً) أضف إلى هذا رقة نفسية الأنصار مقارنة مع المهاجرين، والتنافس بين الأوس والخزرج الذي لم تغادره الجاهلية إلا منذ سنوات، اجتمعت عند الأنصار لمخالفة أوامر النبي(ص) في عدم التنازع في الخلافة على ما أكده قول عبادة بن الصامت(رض) في بيعة العقبة: "بايعنا رسول الله على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله".
** نقطة التفات:
على الرغم من شدة حاجة النبي (ص) إلى من ينصره فيخلصه من انسداد الأبواب بوجهه الكريم، ولكن عندما يأتي الأنصار فإنه يجعل من شروط البيعة "أن لا ننازع الأمر أهله" – أي أن الأنصار لا حصة لهم في الأمر وهو الحكم كما هو معروف ((وأولي الأمر منكم)). وهذا يعني أمرين:
(الأول) أنه يستحيل إلا أن يكون بيد الله تعالى حصراً بحيث أن النبي (ص) لا يستطيع مجرد الوعد به أو المشاركة فيه، ولا حتى بالسكوت عنه؛
(الثاني) أنه لا شورى في أساس الحكم عند وجود الإمام المنصوص عليه، لأنه لو كانت شورى لماذا لا يكون للأنصار حق منازعة الأمر أهله.
موقف قريش من الأنصار
(1)موقف الخلفاء الثلاثة
لم يسند إلى الأنصار شيء من المناصب لا في زمان أبي بكر ولا عمر ولا عثمان؛ وفي هذا الكفاية للدلالة على أن النظرة إلى الأنصار نظرة تشك في ولائهم إلى الخلافة، إضافة إلى معرفة أن "هواهم في علي(ع)"، وربما أهم منه أنهم أصحاب الدار وبالتالي فإن أي تمكن لهم سيجعل لهم اليد الأعلى في النزاع.
(2)موقف المحدثين والمؤرخين
يمكن تشبيه موقف علماء المسلمين من المحدثين والمؤرخين من الأنصار بموقفهم من أئمة أهل البيت (ع): تعظيم وتبجيل لفظي ولكن بلا إعطائهم حقهم النابع من دورهم في الإسلام.
مثالان يكفيان:
· المثال الأول من الروايات القولية، حديث شهير، بل من أشهر الأحاديث في الأمة – حديث العشرة المبشرة بالجنة، والذي كتبت فيه الكتب وقصص الأطفال والمسلسلات والقصائد.
الحديث:
"أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة بن عبيد الله في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة عامر بن الجراح في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمر وبن نفيل في الجنة"
ليس المقام تحليل الحديث، لا في صيغته، ولا في كيف أنه رتبهم حسب الخلافة فيما بعد، والتي يبدو أنها لم تقنع أنصار الحديث بحيث يستخدمونه لإسناد الخلافة التي حصلت أنها من إخبار النبي (ص) بالمستقبل؛ ولا أن التسلسل يأتي بباقي ستة شورى عمر، ثم لينتهي بأبي عبيدة ثالث السقيفة والذي قال عمر بكل صراحة أنه لو كان حياً لولاه الخلافة – أي لا شورى ولا هم يحزنون –، ولا تواضع الراوي سعيد بن زيد – ابن عم عمر وزوج اخته – في وضع اسمه آخر القائمة...
ولكن المهم هو أن الحديث يخلو خلواً تاماً من الأنصار!
فهل لا يستحق أحد منهم البشارة بالجنة؟
أين أبو أيوب، خالد بن زيد، الذي شاء الله أن تبرك ناقة النبي (ص) عند داره فينزل عنده أول قدومه المدينة؟
أين خزيمة بن ثابت الذي كان الوحيد الذي قبل النبي (ص) شهادته بشهادة رجلين، وبما أن النبي (ص) لا يخالف الشرع شعرة فإن هذا كان بأمر الله قطعاً؟
أين جابر بن عبد الله الذي كان يدخل على أهل البيت (ع) في علاقة صداقة واضحة، والذي في بيته حصلت إحدى معاجز النبي (ص) الكبرى في إطعام المسلمين الذين يبنون الخندق حول المدينة من بضع قرصات من الخبز وشيء من اللحم أعدتها زوجته؟
وهكذا غيرهم وغيرهم...
أم لهم أسوة بمهاجرين آخرين لم يضمهم الحديث مع أن النبي (ص) مدحهم أكثر من بعض هؤلاء، كما في قوله أن عمار بن ياسر ملئ إيماناً أو أن أبا ذر أصدق الناس؟
· المثال الثاني، من أرض الواقع، وهو دور الأنصار في الفتوحات، أعني القيادات:
هنا أيضاً، تجد المسلمين يحفظون أسماء خالد وأبي عبيدة وسعد ومعاوية لأنها تدرس في المدارس وتشاهد في المسلسلات التلفزيونية وتكتب في المؤلفات، ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن الأدوار الكبيرة للقادة المباشرين للعمليات العسكرية، وبالذات الأنصار، أمثال عبادة بن الصامت أحد نقباء الأنصار في العقبة وأبي أيوب وعثمان بن حنيف وسهل بن حنيف وعبد الرحمن بن سهل الأنصاري ومحمد بن أبي حذيفة الأنصاري وأبي الهيثم بن التيهان الأوسي العقبي أيضاً؟
ويلحق بهم بالطبع كل من كان من شيعة علي (ع) كعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وعدي بن حاتم الطائي ومالك الأشتر والنعمان بن مقرن المزني (الذي حل الإمام علي (ع) من خلاله الأزمة الخطيرة في فتح فارس عندما وصل البريد من عمار (رض) أن الفرس جمعوا 150 ألفاً وبدءوا باستعادة الأراضي وقد عزموا على التوجه بعدها إلى المدينة لإسقاط الدولة الإسلامية برمتها)؛ بل حتى خالد بن سعيد بن العاص الأموي، الذي لم تنفعه كونه ابن عم عثمان بن عفان المباشر وابن العم من ثاني ظهر لمعاوية، وأكثر منه رابع أو خامس أو سادس من أسلم! تصورواً أموي من وسط بني أمية من أسبق السابقين إلى الإسلام، لا يعرفه الناس! وهكذا مفارقات تاريخنا...
موقف أهل البيت (ع) من الأنصار
(1)موقف الزهراء (ع)
في خطبتها الشهيرة بمسجد أبيها (ص)، توجهت إلى الأنصار بالقول:
إيها بني قيلة: أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع ومنتدى ومجمع تلبسكم الدعوة وتشملكم الخبرة وأنتم ذوو العدد والعدة والأداة والقوة وعندكم السلاح والجنة؟ توافيكم الدعوة فلا تجيبون وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون؟ أنتم موصوفون بالكفاح معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت، قاتلتم العرب وتحملتم الكد والتعب وناطحتم الأمم وكافحتم البهم، لا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ودر حلب الأيام وخضعت ثغرة الشرك وسكنت فورة الإفك وخمدت نيران الكفر وهدأت دعوة الهرج واستوسق نظام الدين فأنى حزتم بعد البيان وأسررتم بعد الإعلان ونكصتم بعد الإقدام وأشركتم بعد الإيمان؟! بؤساً لقوم ﴿نَكَثُوا أَيمانَهُم مِنْ بَعدِ عَهدِهِم وَهَمُّوا بِإِخراجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُم أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخشَونَهُم فَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخشَوهُ إِنْ كُنتُم مُؤمِنِين﴾؛
ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة ونجوتم بالضيق من السعة، فمججتم ما وعيتم ودسعتم الذي تسوغتم، فـ ﴿إِنْ تَكفُروا أنتُم وَمَنْ في الأَرضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾؛
نستفيد من كلامها (ع) أن الأنصار:
- مكافحون صلحاء أخيار
- انتخبهم الله تعالى كـ "خيرة" لأهل البيت (ع)، أي عوناً ونصراً وظهيراً ومطيعاً
(2)موقف أمير المؤمنين (ع)
إنقلب موقف الخلافة عندما تولاها علي (ع)، فبعد دفعهم عن الولايات والقيادات قام الإمام (ع) بتعيينهم فيها. ومنهم عثمان بن حنيف (الذي دخل عليه طلحة والزبير وجماعتهم فنكلوا به وحلقوا شعر وجهه، ولولا أنه هددهم بأخيه سهل في المدينة ينتقم منهم بأهليهم لقتلوه مع ما يزيد من 120 من المسلمين في موقعة الجمل الأصغر).
أيضاً، قاتل الأنصار بين يديه (ع)، كما باقي المهاجرين، في صفين ضد الباغي الغاوي معاوية، حتى استشهد من تبقى من البدريين (حوالي 70) والغالبية الساحقة من أهل بيعة الرضوان (ربما 800). وبالتالي فالذي ينبغي على المسلمين، وشيعة أهل البيت (ع) بالخصوص، أن لا يبخسوا الناس أشياءهم فيضعوا الجميع في سلة واحدة، كما يجب أن ينظر في أواخر الأمور، لأنه من المستحيل أن مولانا أمير المؤمنين (ع) يقاتل بهؤلاء فيقتلون بين يديه وهو يرى أنهم خاسرون هالكون في الآخرة.
موقف المسلمين من الأنصار
بالرغم من هذه المكانة العظمى للأنصار عند الله ورسوله(ص)، وهي مكانة أثبتوها في مواقفهم منذ بيعتهم النبي(ص) سراً – بيعة العقبة الأولى – وحتى وفاته(ص)، في السلم والحرب، فإننا نجد جهلاً عظيماً بهم من قبل الأمة الإسلامية. فإنك لو سألت أي مسلم من عامة المسلمين، أي الغالبية الساحقة من الأمة، أن يأتيك بأسماء عشرة، بل خمسة، من الأنصار لعجز عن ذلك. في حين هو يحفظ عن ظهر قلب أسماء من كانوا ألد أعداء الإسلام، ومنهم من قلب الخلافة بعد النبي(ص) بعقود قليلة إلى ملك عضوض حسب وصف النبي(ص).
فأين الأنصار؟ لماذا نسيتهم الأمة؟
هل تناساهم الأولون حتى نسيهم الآخرون؟ أم جرى تجاهلهم عن عمد حتى نسيهم الأولون والآخرون؟
إن الجواب على هذا التساؤل يفتح الباب أمام معرفة كيفية كتابة التاريخ عند المسلمين، ثم كيفية تناوله من باحثيهم عبر القرون وإلى يومنا هذا؛ وإلا سيبقون مخدوعين فيما صوروه لهم من ماض وردي غير واقعي من انطباق القلوب على بعضها (أو كانوا "كأبناء بطن واحدة" على حد تعبير أحدهم!)، مع أنه كان الخلاف بأجلى صوره، صوره لنا مهيار الديلمي في أبيات فيها إشارة إلى إهمال دور الأنصار تماماً:
وفيم صيرتم الإجماع حجتكم * والناس ما اتفقوا يوماً ولا اجتمعوا؟!
أمر (علي) بعيد من مشورته * مستكره فيه، و (العباس) يمتنع
وتدعيه قريش بالقرابة، والأنـ * ـصارُ لا خفض لهم فيه ولا رفع
فأي خلف كخلف كان بينكم * لولا تلفّق أخبار وتصطنع؟!
ما نستفيده من مدح القرآن للأنصار
بعيداً عن الذين يظلمون الأنصار عن عمد، وأولئك الذين يجهلونهم أو لا يلتفتون إلى دورهم ومكانتهم في نفس مسلسل الجهل الناتج عن التجهيل عبر العصور وإلى اليوم، دعونا نستفيد من تلك الروح الأنصارية السامية التي عرفناها من الآية المتقدمة في صدر الحديث..
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
دعونا نحاول:
(1)أن نشعر بتبوئنا هذه الدار التي نحن فيها لنجعل ما نتحرك فيه منها مواضع إيمان.
(2)نحب الآخرين حباً حقيقياً لا مصلحة من ورائه، حب الآخرين لأنهم خلق الله تعالى، وأخص منه لمن هم من أهل ديننا، وأخص منه لمن يجاهدون لأجل نشر المعرفة بينهم باتجاه طريق الحق وأهله.
(3)وهذه ليست سهلة – أن لا نجد في صدورنا عقداً مما يصيبنا من إخواننا في الإيمان... ولو على مراحل، فنحاول أن نهدئ النفوس التي ثارت، ثم نحاول أن نخرج ما فيها من غل وحقد أو شعور بالظلم أو الغدر، ثم نبدأ بمد الجسور ثانية، ثم ننشر المحبة التي تخجل الخصم وتجعله يبدأ برحلة مشابهة... وكله في تصغير للصغائر، فلا نكون ممن وصفهم المتنبي في شطر البيت: وتعظم في عين الصغير صغارها،
ولكن على ما وصفهم في العجز: وتصغير في عين العظيم العظائم.
(4)أن نؤثر الآخرين على أنفسنا – في مال أو وقت أو جهد أو صبر...
ثم نتقدم مرحلة أخرى لنفعل ذلك حتى لو كنا نحن الذين في حاجة إلى شيء من هذا.
(5)عسى أن نصل إلى "الوقاية من شح النفس" لنحصل على المدحة العظيمة من المولى عز وجل ((فأولئك هم المفلحون))...
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله على نبينا محمد وآله الأطهار.