كارثة "اتباع الهوى"
((ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله))
***
قال تعالى:
((يَا دَاوُودُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا
تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ
الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا
يَوْمَ الْحِسَابِ))
الخطاب لنبي الله داوود (عليه السلام)،
والخطاب مستمر إلينا جميعاً في أي شطر منه يكون فيه أي منا مصداقاً له.
***
فماذا نفهم من الآية المباركة؟
***
1-
((إنا جعلناك
خليفة في الأرض)) = الجعل من الله تعالى وليس من الناس، وعليه فإنه في حالة داوود
(ع) وموقعيته في الناس الجعل من الله لأنه تعالى هو وحده الذي يعلم من هو الأصلح
للقيام بالمهمة الثقيلة للهداية إليه سبحانه؛
... = وكل منا خليفة في الأرض من زاوية
الاستخلاف الإنساني ((إني جاعل في الأرض خليفة))، وعليه فإن كل منا يجب أن ينتبه
إلى الخطاب.
2-
((فاحكم بين
الناس بالحق)) = إذا كان للنبي داوود (ع) ومن في موقعيته من الأنبياء والأئمة (ع)،
فإنه الحكم القضائي، لأن وظيفته (ع) في الخلافة منها الحكم بين الناس لأنه (ع)
عنده العلم بالقضاء كجزء من علمه المتنوع المسدد من الله، وكلما تسامت الدرجة بهذا
النفر الكريم (ع) كلما صار العلم أكمل حتى تصل إلى سيد المرسلين (ص) ((فلا وربك لا
يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا
تسليماً)) حتى الحرج في داخل النفس ضد القرار الشرعي يخدش الإيمان الحقيقي؛
... = للقضاة في المحاكم هي أيضاً أمر بالحكم
بالحق، والحق هنا حسب القوانين المرعية، مع نقاش في درجة شرعية كل قانون، بل شرعية
كل قانون من عدمه، بحسب انطباقه أو اقترابه أو ابتعاده عن الشريعة الإلهية؛
... = للناس عموماً، عندما يحكمون بين الآخرين في قضية أو نزاع أو نقاش حتى
فإن المطلوب هو الحكم بالحق، والحق ينطلق من الحقيقة، والحقيقة لها جانبان: النظري
في ذاتها والتطبيقي على أرض الواقع (مثلاً تفجير انتحاري في ناس أبرياء قبيح في
ذاته وقبيح مرفوض من خلال آثاره المدمرة عندما يحصل على أرض الواقع).
3-
((ولا تتبع
الهوى)) = نهي تشريعي، وليس تنزيهياً، لأنه يتعلق بالحكم في النزاعات النظرية
والعملية، فلا يوجد هامش لقبول اتباع الهوى بحيث يكون النهي تنزيهياً فقط؛
... = النهي عن اتباع "الهوى"، أي
"ما تهواه النفس"، أي "ما تحبه النفس"، وبما أن ((النفس أمارة
بالسوء إلا ما رحم ربي)) فإن "هوى" النفس يتجه على الأغلب إلى الاتجاه
الخطأ، فربما اشتهت النفس الميل إلى هذا الخصم أو هذا الرأي أو هذا الموقف ليس
لأنه يتعلق بالحق أو الحقيقة أو الله تعالى فوق ذلك كله، ولكن لأنه يدغدغ مشاعر
داخلية ونوازع ربما تكون خافية حتى على الشخص نفسه، ألم تسمع قوله تعالى ((ويعلم
السرّ وأخفى)) أي ما هو أخفى من السر، وما هو أخفى من السر هو ما لا يعلمه الإنسان
في سره، وهذا لا يكون إلا النوازع التي أدت إلى تمكن ذلك الأمر الذي أبقاه سراً في
داخله؛
4-
((فيضلك عن
سبيل الله)) = النتيجة لاتباع الهوى وهو "الضلال عن سبيل الله تعالى"،
فيا لها من نتيجة مردية كارثية على كافة الأصعدة – الفردية إذ يعيش الإنسان بعيداً
عن الله تعالى حتى وإن ظن العكس، والمجتمعية إذ يعيش المجتمع كله في طريق بعيد عن
الله تعالى فتنزل به الكوارث إثر الكوارث.
5-
((إن الذين
يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد)) = نعوذ بالله وبه نستجير، عذاب+شديد، وهذه
نتيجة "الضلال عن سبيل الله"، والتي كانت نتيجة "اتباع
الهوى"؛
... = إتباع الهوى يؤدي إلى الضلال عن سبيل
الله فيؤدي إلى العذاب الشديد.
6-
((بما نسوا
يوم الحساب)) = وضع اليد على أصل القضية، وهي أنهم لم يعيروا ليوم الحساب أهمية
كما ينبغي، حتى وإن ظنوا، وإلا عندما يعبر المولى عز وجل ((نسوا الله فأنساهم
أنفسهم)) أو ((نسوا الله فنسيهم)) فإنه لا يعني فقط أولئك الذين ينكرون وجود الله
تماماً، بل يعني جميع الذين لم يفعّلوا حقيقة الله تعالى المرتبطة بفطرتهم لم
يفعلوها في حياتهم، فكأنهم نسوا الله، لأنه ما قيمة أنك تعترف بالله وأنت في اتجاه
بعيد عنه؟
***
حالة خطيرة جداً
إن هذه الحالة، حالة أن الإنسان يتبع الهوى، فينزلق في الضلال، لا تحصل
"مع كامل الوعي بها" دائماً، بل أنها ربما تحصل والإنسان يظن أنه على
الجادة الصحيحة.
قال تعالى ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا
نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ
يَشْعُرُونَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ
أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن
لاَّ يَعْلَمُونَ))
يا ساتر!
والله إن الإنسان لينخلع قلبه وهو يستمع إلى هذه الحالة الخطيرة:
يظن أنه مصلح بينما هو مفسد،
لا يشعر أنه مفسد.
وحتى بعد توجيهه إلى الإيمان الحق، تجده يرفض + يسارع إلى رمي المؤمنين
بالنعوت القبيحة "السفهاء"،
ولكنه هو من السفهاء.
فيا لها من كارثة نعوذ بالله منها وبه نستجير...
***
نسأل الله الهداية للجميع، والخضوع للحق، ولن يخضع إلا من يضع نصب عينيه
قوله تعالى ((والذين آمنوا أشد حباً لله))،
فلا شيء غير الله تعالى يميل إليه هواك يستحق منك البعد عن مصدر الحياة،
والمبتدأ والمنتهى، الرحمن الرحيم.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على البشير النذير محمد وآله الطاهرين.
فما هو علاج "اتباع الهوى"؟
ما هو علاج ((ولا تتبع الهوى فيضلك عن
سبيل الله))؟
***
نفس الكتاب العزيز والنبي الأعظم (ص)
يدلانك عليه.
***
قال تعالى:
((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ))
العنكبوت:69.
1- ((جاهدوا)) = بذل
الجهد، الفعل المتعب المقصود لغاية معينة.
2- ((فينا)) = تحديد الغاية من الجهاد،
"فينا"، في الله تعالى، وليس ابتغاء شيء آخر؛ والجهاد "في
الله" يعني بذل الجهد في الذي يقوي ويحسن من العلاقة بالله تعالى، وهذا يتعلق
بالتفكر فيه تعالى، وفي كتابه العزيز، وفي بيان رسوله (ص)، وفي اتباع المرجعيات
التي حددها من خلال كتابه العزيز – العقل والرسول (ص) وأولي الأمر (ع) والعلماء
حقاً؛ لأنه إذا قال ((وجاهدهم به جهاداً كبيراً)) أي "بالقرآن" فمن باب
أولى أن يكون الجهاد "في الله" من خلال القرآن، أي ما يحدده القرآن في
نصه وبيان المرسل به (ص) وبيان أولي الأمر (ع) الذين يستنبطونه.
3- ((لنهدينهم)) = لام التوكيد + نون التوكيد
تؤكدان حصول الوعد الإلهي، وإلا فإنه لا يخلف الميعاد، ولكن استخدام التوكيد كثير
في القرآن لأن الإنسان يبدو – مع الأسف – يكسل عن الجهد والجهاد على الرغم من عظم
المواعيد الإلهية الكبيرة؛ نتيجة "الجهاد في الله" هي
"الهداية"، أي أنك تتعب نفسك في الذي يتعلق بالله تعالى فلا تكون
الجائزة مقتصرة على بعض الرحمات هنا وهناك، أو على أجر الآخرة على عظمه، ولكن
سيكون "الهداية" هداية الله تعالى لك ... ولكن الهداية إلى ماذا؟
4- ((سبلنا)) = السبل، الطرق المؤدية إلى الله
تعالى، والطرق المنطلقة من الله تعالى، لأننا لا نستطيع حصر المعنى في واحدة
منهما؛ فما أعظم هذا العطاء، يهديك المولى عز وجل إلى سبله التي تسير فيها أو
تعتمدها في الحياة، ويهديك سبله التي توصلك إليه، في تفاعل بين هذه وتلك، تصاعدي
تكاملي لا نهاية له.
5- ((وإن الله لمع المحسنين)) = "الإحسان"
هو القيام بفعل "حسن"، ولعل فيه إشارة هنا إلى "زيادة" في
الفعل فوق فعل "الجهاد"، أو هو "زيادة في الجهاد نفسه"، كأن
يكون زيد يبذل جهداً معيناً فيأتي عمرو فيبذل مثله ويزيد عليه، والزيادة يمكن أن
تكون بالكم كما تكون بالنوع؛ هنا أيضاً يأتي التوكيد بلام التوكيد، ويا له من
توكيد: توكيد "المعية" الإلهية، فكما قال للعبدين الصالحين موسى وهارون
(ع) ((إني معكما أسمع وأرى)) هو مع ((المحسنين)) في طريق ((جاهدوا فينا)).
***
وقال النبي الأعظم (صلى الله عليه
وآله):
((رجعنا من الجهاد
الأصغر إلى الجهاد الأكبر)) بعد العودة من إحدى الغزوات،
ثم استوضحوه، فأوضح أن "الجهاد
الأكبر" هو "جهاد النفس".
الحديث (بغض النظر عن الإسناد) مضمونه
صحيح، وذلك:
1- الجهاد "الأصغر" مؤقت بساعات القتال وتحضيراته
قبلها وربما مداواة الجراح بعدها، بينما الجهاد "الأكبر" ممتد في العمر
كله، وفي كل ساعة منه.
2- الجهاد "الأصغر" لا يتسنى لكل أحد، فإن هناك
من أعفاهم الله منه ((ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج ولا على المريض حرج))؛ بل
هو غير مفروض على النساء وهن نصف المجتمع.
3- الجهاد "الأصغر" نعم يحتاج إلى الشجاعة والصبر
والفن القتالي، وربما يكون نصيب الشخص من بعض هذه الصفات قليل، ولكنها قضية خارجية
ربما استطاع القيام بها كجزء من منظومة يرفع أفرادها الآخرون الكثير من حملها عنه
(كما حصل من مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) والبعض من أبطال الصحابة (رضوان
الله عليهم) الذين كانوا يقومون بأغلب القتال بينما غيرهم بين قاعد أو متفرج أو
يقوم بشيء بسيط، ولكن هذا المتفرج شارك في الجهاد الأصغر هذا على أية حال)؛ في حين
أن الجهاد "الأكبر" يحتاج إلى بذلك جهد عظيم متواصل للتعامل مع دخائل
النفس الأمارة وضعفها وعقدها وتعقيداتها، وتفاعل ذلك مع جهل العقل وخطل تفكيره
ومحدوديته.
***
فهذا هو العلاج:
"جهاد النفس"، والغاية هو
"الله" وليس الدنيا، لنصل إلى "الهدى إلى سبل الله".
بغيره، سيظل الناس خاضعين إلى عقدهم
وضعفهم وترسخ ما تعلموه – حقاً وباطلاً -، ساقطين في دوامة ردود الفعل الآنية غير
المتأملة في الأمور كما يجب، والمنفلتة من عقال العقل القطعي والتقوى الواجبة.
غسان السامرائي
إضافة /
تعليق إلى المرحوم السيد مناف الياسري
بالمناسبة، الكلام عن
"مخ/دماغ/عقل" يجب أن لا يجعلنا نفكر أن المقصود هو ذلك العضو في داخل
الجمجمة دون العلاقة بما هو وراء ذلك.
إن المشاعر والرغبات والهواجس والنوازع
لا يمكن أن تكون هناك وحسب، بل أن العقل (وهو ليس المخ/الدماغ طبعاً) يكوّن
أفكاراً وآراءً ويدفع باتجاه اتخاذ مواقف كل ذلك بعد التفاعل المستمر مع تلك
المشاعر والرغبات والهواجس والنوازع التي يجدها الإنسان في تلك المنطقة الداخلية
في الصدر، الأمر الذي لم يزل الإنسان يعرفه فطرياً وبالشعور الواقعي، لهذا تجده
يقول "شيء يحيك في صدري" أو "متضايق" وهو يشير إلى صدره
وهكذا.
وقد استخدم القرآن كلمة
"القلب" كناية عن "العقل" ولكن ليس بمعنى الدماغ أو المخ،
ولكن عن هذه الآلية التي يكونها التفاعل المشار إليه أعلاه.
لهذا تجده في آية واحدة يحدد بكل وضوح
أن المقصود في الجانب الدافع الخفي إنما يقع في الصدر ((فإنها لا تعمى الأبصار،
ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)).
ولهذا يقول تعالى ((ويعلم السرّ
وأخفى)) أي ما هو أخفى من السرّ، فإذا كان الإنسان يعلم "السر" في داخله
قطعاً، فما هو الذي أخفى من السر غير النوازع التي جعلته يفعل أو يفكر بالطريقة
التي يسرّها، ولكنها من الخفاء بحيث أن صاحبها نفسه لا يعرفها؟
الخلاصة:
الاتجاه المادي يحاول جاهداً تفسير كل
شيء بالمادة التي يلمسها، وهنا خلايا المخ، والجواب الجاهز دائماً: العلم يكتشف كل
يوم أشياء جديدة، وسيكتشف السر!
تحياتي