لا
تخلطوا الآني بالأبدي والمحلي بالعالمي
(ت)
كيف الخلط؟
ثانياً - صعوبة مواجهة الحقيقة المؤلمة
تصور شخصاً
يرى أباه من أفضل الناس، فلم يجد له يوماً تصرفاً شائناً أو غير قانوني أو شرعي،
وكان له نعم الأب في رعايته وإنفاقه وحبه له، وإذا برجل يأتي ليخبره أن أباه من
كبار السراق، ماذا يكون رد فعله؟
سيرد الكلام
في لحظتها، ويطرد الرجل، وربما شتمه أو ضربه حتى.
من المحتمل
جداً أنه سيطلب من الرجل الدليل على كلامه، ولكنه سيكون طلباً للتكذيب وليس محاولة
حقيقية لمعرفة الأمر.
لماذا؟
لأن الصدمة
في ذلك الأب العظيم يصعب تحملها، فيكون اللجوء إلى حالة "الإنكار" (denial) وهي معروفة عند البشر، تمثل خط الدفاع الأول في حالة الصدمة.
ولكن المؤسف
أنها يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، فيبقى الشخص يعيش الوهم.
كما أنه من
الممكن أن يجلس الشخص مع نفسه فيحاكم الكلام والدليل المقدم، ويبدأ بالبحث عن
الحقيقة، محاولاً تحييد مشاعره – على الرغم من الصعوبة في ذلك.
أو كما عبر
المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة:
طوى
الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ ** فزعتُ فيهِ بآمالي إلى الكذبِ
حتى إذا لم
يدعْ لي صدقهُ أملاً ** شرقتُ بالدمعِ حتى كادَ يشرق بي!
فأول رد فعل
هو "الفزع إلى التكذيب" لأن "الآمال" بعدم صحة الخبر قائمة؛
ولكن عندما تأكد من "صدق" الخبر إنهار بالبكاء إلى درجة أشرف على الموت!
وهكذا الحال
عندما يكتشف المسلم ما تم إخفاؤه عنه من التاريخ الإسلامي عموماً، والحقبة
المباشرة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بالخصوص، ومنه عن شخصيات كبيرة عجن
حبها في لحمه ودمه لصورتها الخالية من الشوائب التي تعلمها في البيت والمدرسة
والشارع والمسجد والكتاب والإعلام...
عندها يدخل
في حالة "الإنكار"؛ فإذا ما ضغطت عليه فإنه يبدأ بالتكذيب بأية وسيلة
حتى لو جانبت المنطق؛ فإذا ما ألح عليه خصم الرأي فإنه ربما بدأ بالهجوم والتهجم.
هنا ندخل في
حالة العداء، فاشتداد العداء، مما يسهل القبول بالافتراءات وأية نظريات ملفقة تصلح
لـ "تكذيب" هذه المعلومات الجديدة المخالفة بشكل مؤلم جداً لما نشأ
عليه.
وبما أن
المسلم السني يتلقى هذا التعليم الذي يجعل التاريخ تاريخاً وردياً جميلاً، بينما
في المقابل يعيش المسلم الشيعي آلام الطرف الذي تلقى الضربات أبد الدهر بدءاً
بأوليائه أهل البيت (عليهم السلام) واستمراراً به هو مما يتعلمه في المنابر الخاصة
به، فإن الذي يعيش حالة تلقي الخبر الصادم، فالإنكار، فالرد بأية وسيلة، هو المسلم
السني عادة.
وهاكم بعض
الأمثلة المعروفة:
1- نشأ المسلمون السنة كلهم على أن
صحابة النبي (ص) كلهم عدول أجلاء + لا يجوز نقدهم بشيء + أن من ينقدهم ففي إيمانه
مشكلة + من يبغض أياً منهم فإنه منافق. أما المسلمون الشيعة فيرون أن أكثر الصحابة
قد انقلبوا على الأعقاب ووقفوا ضد أهل البيت (ع) – ينتج عن هذا: السني يرى الشيعي
في حالة نفاقية، فإذا ما بالغ السني في ردة فعله فإن الشيعي يرى السني في حالة نصب!
2- ترسخ الأمر حتى وصل إلى
"الإفراط" السني بحيث أن أي صحابي حتى ولو رأى النبي (ص) لحظة واحدة فهو
صحابي جليل لا يهم ما قام به من أعمال مخالفة للشرع...
3- ووصل إلى "التفريط"
الشيعي بحيث لا يكاد الشيعي يعرف أسماء أكثر من بضعة أنفار منهم في جهل كبير
للكثيرين من أعاظم الصحابة من شيعة علي (ع) الأولين الذين لا يساوي هذا الشيعي
"المفرِّط" تراب أقدامهم!
4- فإذا جئت إلى الشيخين أبي بكر
وعمر فقد دخلت في الدائرة الحرام، لأنهما عند السني أعظم الناس بعد النبي (ص)
بينما هما عند الشيعي الغاصبان الأولان لحقوق أهل البيت (ع).
5- وأما السيدة عائشة أم المؤمنين
فهذه عند الشيعي محاربة لعلي (ع) مبغضة له، يقابله أنها عند السني أحب زوجات النبي
(ص) إلى قلبه – فالويل لمن يشكل عليها ما قامت به وليذهب 10-30 ألفاً ممن قتل في
الجمل إلى "ستين داهية"!
6- يشتد الأمر سوءاً عندما يتألم
الشيعي لما فعلوه بفاطمة (ع) ما بين هجوم على دارها وتهديد بالتحريق، وغصب لملكها
في بساتين فدك، وغصب لحقها في الإرث، فيصبح ما في قلبه تجاه الآخر مما يصعب
التعامل معه.
7- هذا يجعل الشيعي لا يتقبل أي
كلمة ثناء من علي وأولاده (ع) على الخلفاء الأولين، لأنه يتصور ذهنيتهم (ع) بمستوى
ذهنيته هو، فينزع إلى التكذيب.
8- هذا الأمر ينسحب على أمور
مفصلية ساهمت في الهرج والمرج الذي نحن فيه، كمنع كتابة حديث النبي (ص) 90 سنة،
والاستهانة بالمحرمات كلها كاستباحة المدينة وضرب الكعبة المشرفة، والقتل الذريع
في أهل البيت (ع) والمعارضين.
فما هو رد الفعل:
كما أشرت في البدء – "الإنكار" أولاً، ثم
"رد الدليل" ثانياً وبطريقة غير علمية – مثلاً نص من الإمام علي (ع)
يدين ما فعلوه به لا يتم النظر فيه كمستند مقابل المترسخ والمقارنة بينهما ولكن
الرد "لا يمكن أن يقول علي هذا فهو إذاً نص كاذب"!
فإذا جاء الدليل من الكتب المعتمدة يكون الرد "ليس
هذا هو المعنى"؛ فإذا حوصر باللغة الواضحة للنص فربما يكون السكوت أو الطلب
بالدليل القرآني.
فإذا جئت بالدليل القرآني، يكون النزوع إلى التشويش بآيات
أخرى تفسيرها يناقض ما يقوله الطرف الآخر. وهكذا.
النتيجة:
لا بد من إيجاد حل للاتهامات المثبتة قرآنياً وحديثياً
وتاريخياً، فيكون إما التشويش والتهريج بالذهاب إلى الفرس واليهود والصفويين
والروافض والنواصب، أو بالتسقيط "من أنت لتقول هذا على فلان؟" "هل
أنت تفهم أكثر من العلماء؟"؛ أو بالضربة القاضية: "أنت كافر ملعون"!
ولكن هل هي الدنيا المؤقتة وحسب؟
على الرغم من المفاجئات المؤلمة لما
قصه القرآن وروته الروايات الصحيحة المتواترة وأحاديث التاريخ من الكتب المعتمدة، فلا
بد من استيعاب الصدمة لا سيما أولها – كما يقول النبي (ص) ((الصبر عند الصدمة
الأولى)) – ثم النظر فيها بعقل بارد والاستماع إلى ما يقوله الخصم الذي يطرح
الإشكال أو الرأي المخالف، وبحث الأمر في المصادر ومع العلماء، وأفضل منه اعتماد
الموعظة القرآنية العظيمة ((قل إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى
وتتفكروا)) – إجلس وفكر وحدك أو مع شخص آخر واحد تثق بعقله ونيته، من الذين
"سيقومون لله" حقاً وليس للدنيا، والله يعدك ((والذين جاهدوا فينا
لنهدينهم سبلنا)).
أدعوك وأدعوك وأدعوك:
أن تحاول العيش مؤقتاً في العهد النبوي،
تستمع إلى آيات القرآن والبيان الرسولي لها والحديث النبوي فتفهمه، فتعود إلى
الواقع اليوم وأنت أقوى في مواجهة تشويش العداءات المذهبية وتهريج المهرجين من
أنصاف العلماء وممثلي المسرح المنبري أو المنبر المسرحي، وفي توجه صادق إلى الله،
ليصدق عليك ((والذين آمنوا أشد حباً لله)).
(يتبع)