أيا عجباً
منهمْ يسمُّونكَ الرِّضا*ويلقاكَ منهمْ كلحةٌ وغُضونُ!
***
في 17 من
صفر سنة 203هـ توفي مولانا الإمام علي بن موسى الرضا (ع)،
واشتهر أن
الوفاة كانت بالسم في عصير العنب (قصة ترتيب ذلك موجودة لمن يراجعها)، بعد أن صار
(ع) عبئاً على المأمون العباسي بثورة عائلته الحاكمة في بغداد وخلعه ومبايعة عمه
ابراهيم بن المهدي بالخلافة، واقتراح الإمام (ع) أن يقوم بخلعه والتوجه إلى بغداد
لمنع التقسيم والحرب الأهلية (بعد أن كان الإمام (ع) الاستثمار المهم للمأمون حيث
أن انتفاضات العلويين في كل مكان سكنت ببيعته (ع) لولاية العهد قبل سنوات قلائل،
الأمر الذي أجبر عليه الإمام (ع) بحد السيف، فوافق بشرط أن لا يعين ولا يعزل ولا
يصدر أمراً ولا يقوم بأي شيء).
وصل الخبر
إلى دعبل بن علي الخزاعي، الشاعر الثائر المبدئي الذي كان يقول "أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لست أجد أحداً يصلبني عليها"، وهو طبعاً صاحب التائية
الشهيرة "مدارسُ آياتٍ خلتْ منْ تلاوةٍ*ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرصاتِ"؛
ولكن يبدو أنه لم يستطع التيقن فيما إذا كانت وفاة الإمام (ع) بالسم أو لا لأنه
يقول "شككت فما أدري أمسقى بشربة*فأبكيك أم ريب الردى فيهونُ"، فرثا
الإمام بهذه الأبيات.
***
نونية دعبل
الخزاعي
في رثاء
الإمام الرضا (ع)
على الكرهِ ما فارقتُ احمدَ وانطوى
* عليه بناءٌ جندلٌ ورزينُ
وأسكنتهُ بيتاً خسيساً متاعُهُ *
وإنّي على رغمي به لضنينُ
ولولا التأسّي بالنبيّ وأهلهِ * لأسبلَ
من عيني عليهِ شُؤونُ
هو النفسُ إلاّ أنّ آلَ محمّدٍ *
لهمْ دونَ نفسي في الفؤادِ كمينُ
أضرَّ بهمْ إرثُ النبيِّ فأصبحوا *
يساهمُ فيهِ ميتةٌ ومنونُ
دعتهمْ ذئابٌ من أُميةَ وانتحتْ *
عليهمْ دراكاً أزمةٌ وسنونُ
وعاثتْ بنو العباسِ في الدينِ عيثةً
* تحكّمُ فيهِ ظالمٌ وظنينُ
وسمّوا رشيداً ليسَ فيهمْ لرشدهِ *
وما ذاكَ مأمونٌ وذاكَ أمينُ
فما قبلتْ بالرشدِ منهمْ رعايةٌ *
ولا لوليٍّ بالأمانةِ دينُ
رشيدُهُمُ غاوٍ وطفلاهُ بعدَهُ *
لهذا رزايا دونَ ذاكَ مُجونُ
ألا أيّها القبرُ الغريبُ محلُّهُ
* بطوسٍ عليكَ السارياتُ هُتونُ
شككتُ فما أدري أمُسقىً بشُربةٍ *
فأبكيكَ أمْ ريبُ الرّدى فيهونُ
وأيُّهما ما قلتُ إنْ قلتُ شُربةٌ
* وإنْ قلتُ موتٌ إنّهُ لقمينُ
أيا عجباً منهمْ يسمُّونكَ الرِّضا
* ويلقاكَ منهمْ كُلحةٌ وغُضُونُ
أتعجبُ للأجلافِ أنْ يتخيَّفوا * مَعالمَ
دينِ اللهِ وهوَ مبينُ
لقدْ سبقتْ فيهمْ بفضلِكَ آيةٌ *
لديَّ ولكنْ ما هناكَ يقينُ
(يتبع / كلمات عن بعض أبيات
القصيدة)
***
كلمات عن
رثاء دعبل للإمام الرضا (ع)
1- إفتتاحية من 3 أبيات عن فراق ولده "أحمد" في بغداد ثم وفاته،
يقول في الثالث:
ولولا التأسّي بالنبيّ وأهلهِ * لأسبلَ من عيني عليهِ
شُؤونُ
لولا ما تنشغل به النفس من قضايا النبي (ص) وأهله (ع)
لأنزل الدموع عليه مدراراً.
(وهذه مشابهة لقوله في رائية يذكر فيها الرضا (ع) في
آخرها، يقول فيها:
لولا تشاغلُ عيني بالألى سلفوا*من أهلِ بيتِ رسولِ
اللهِ لم أقِرِ
وفي مواليكَ للمحزونِ مشغلةٌ*من أنْ تبيتَ لمفقودٍ
على أثَرِ)
2- وذلك لأن ولده منه كنفسه "هو النفس"، ولكن:
هو النفسُ إلاّ أنّ آلَ محمّدٍ * لهمْ دونَ نفسي في الفؤادِ كمينُ
شدة ولائه لآل محمد (ص) كأن هناك مكمن محفوظ لهم (ع) في قلبه.
3- ثم يذكر مفارقة عجيبة مؤلمة:
أضرَّ بهمْ
إرثُ النبيِّ فأصبحوا * يساهمُ فيهِ ميتةٌ ومنونُ
إرثهم (ع)
من النبي (ص)، وهو خلافته في الأمة، صار مضراً بهم لأنه صار عنصر الملاحقة
والتنكيل من الحكام، فصاروا بين "ميتة" و "منون"، وتعني
الهلاك على أية حال.
4- هؤلاء الحكام من بني أمية وبني العباس يذكرهم بالذم الشديد.
5- ثم يلتفت مخاطباً المعني بالقصيدة، الإمام علي الرضا (ع)، فيقول:
ألا أيّها القبرُ الغريبُ محلُّهُ * بطوسٍ عليكَ
السارياتُ هُتونُ
وهنا نقاط:
·
أن "طوس" أرض غربة، وقد وردت الروايات في
ذلك، منها عن النبي (ص) ((ستدفن بضعة مني بخراسان، ما زارها مكروب إلا نفّس الله كربته،
ولا مذنبٌ إلا غفر الله ذنوبه))، ومنها عن الرضا (ع) نفسه ((إني مقتول ومسموم ومدفون بأرض غربة، أعلم ذلك بعهدٍ عهده
إليّ أبي، عن أبيه عن آبائه، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ ألا فمن زارني في
غربتي كنت أنا وآبائي شفعاءه يوم القيامة، ومن كان كنا شفعاءه نجا ولو كان عليه
وزر الثقلين))؛ ولا
نجد مثل هذا في وصف قبور أئمة الهدى (ع) في العراق، ما يعني أن العراق أرض طبيعية
لهم (ع) حالها حال الحجاز (طبعاً دفن ستة منهم (ع) في العراق ليس صدفة، فليس عند
الله صدفة، فما بالك بالمصطفين الأخيار من آل سيد المرسلين (ص))
·
تغير اسم "طوس" إلى "مشهد" بعد
أن صارت قبراً لمولانا أبي الحسن الرضا (ع)، وهكذا فعل الله تعالى في أوليائه
العظام
·
"الساريات" جمع سارية، أي الغيمة
لأنها تسير في السماء
·
"هتون" أي تنزل هذه الغيوم بالمطر
المدرار؛ فهو دعاء لنزول المطر على قبر الإمام (ع).
6- يعلن عن
شكه في موت الإمام (ع): هل بالسم أم بالموت الطبيعي؟
7- ثم البيت
الجميل الأليم:
أيا عجباً منهمْ يسمُّونكَ الرِّضا * ويلقاكَ منهمْ كُلحةٌ
وغُضُونُ
كيف يسمونك "الرضا" (لقبك الذي سماك
به النبي (ص) والأئمة من آبائك (ع))، أي لا يأتي منك إلا ما يرضي، ثم يقابلونك بما
يقابل به من لا يرضي: "كلحة" أي الوجه الممتقع، "غضون" الجبهة
المتجعدة، والإثنان يحصلان عند الغضب والانزعاج و "عدم الرضا"؛ فهم معك
بين تسمية جميلة وموقف قبيح.
8- ويختم
ببيتين يربط القصيدة بأصل المشكلة – الدين، فيقول:
أتعجبُ للأجلافِ أنْ يتخيَّفوا * مَعالمَ دينِ اللهِ
وهوَ مبينُ
لقدْ سبقتْ فيهمْ بفضلِكَ آيةٌ *
لديَّ ولكنْ ما هناكَ يقينُ
هل من عجب أن هؤلاء الحكام
المذمومين يغيروا ويبدلوا معالم الدين بينما هو مبين واضح مما نزل في الكتاب وبينه
الرسول (ص)؟
كلا، الأمر واضح، لأنهم وصلهم آيات
الكتاب النازلة فيك (كآية التطهير وآية المودة وآية الولاية)، فهم يعرفونها (لا
سيما المأمون العباسي المتهم بقتله (ع)، فقد كان يظهر التشيع لعلي (ع) والإيمان
بعقائد مدرسة أهل البيت (ع))، ولكن السبب: "ما هناك يقين"، فإن الإيمان
المدّعى شيء والإيمان اليقيني شيء آخر.
***
فسلام على الإمام علي بن موسى
الرضا يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.