عندما ينقلب الحق باطلاً والباطل حقاً
قول علي (ع) في توديع أبي ذر
وقول القس سمولوود في فيلم "السماء التي في الأعلى"
في فيلم "السماء (التي) في الأعلى!" (Heavens Above!) (فيلم من إنتاج بريطاني سنة 1963، بطولة بيتر
سَلـَرز) يتم تعيين قس جديد لإحدى البلدات الصغيرة في إنجلترا، ولكن تشابه الأسماء
أدى إلى تعيين آخر كان يعمل قساً في أحد السجون، وهذا القس عنده أفكار يصفها موجز
الفيلم أنها "تقدمية" – وهو وصف مهم جداً لأنه في الحقيقة ما ربما يصفه
الكثيرون بأنه "رجعية" لأنه كان يريد العودة بهم إلى روح النص الديني
الذي فقدوه – فكان "تقدمياً" لأنه يريد أن "يقدم" المجتمع
الذي ترسخت عنده قيم الباطل، من جشع وأنانية وسرقة وكذب، بعناوين مختلفة أكثرها
صار جزءاً لا يتجزأ من النظام العام – في السياسة والاقتصاد والمجتمع –، بحيث أن
ذلك القس استطاع إقناع المرأة الثرية صاحبة المصنع الذي تقوم عليه البلدة، ومن
خلال نص واحد من الكتاب المقدس عند المسيحيين، أن تقوم بالتبرع بمنتجات مزرعتها
الضخمة، من حليب وبيض ولحوم، إضافة إلى سائر المنتجات الأخرى، تشتريها من السوق
وتعرضها مع منتجات المزرعة للعطاء مجاناً تماماً.
ولكن الذي حصل هو أن هذا العطاء المجاني أدى إلى توقف متاجر بيع اللحوم
وتوزيع الحليب ومشتقاته وغيرها من المنتجات الغذائية الاستهلاكية. زاد عليه أن
القس صرح علناً في إحدى مواعظ صلاة الأحد أن المنتج الدوائي للمعمل ليس إلا كذبة
لا فائدة فيه! أوشك المعمل على الإغلاق بعد أن طار الخبر في الصحف فهبطت أسهم
الشركة بعد هبوط مبيعاتها بالضربة القاضية.
وفي أثناء هذا، كان الضعف الإنساني في كل مكان – ليس فقط في الموسرين الذين
صاروا يركضون لينافسوا المحتاجين في طوابير الغذاء المجاني، ولا على معاركهم عليه،
ولكن على قيام بعض العاملين، ممن جاء بهم من معيشة مقرفة فأسكنهم معه وشغلهم في
هذا المشروع الخيري، بسرقة بعض المواد الغذائية ثم بيعها وتحقيق الربح المالي
منها!
في آخر الفيلم، تتوجه الحشود نحو بيته للاقتصاص منه على ما أنزل بها من
التوقف عن العمل والبطالة، ويعتدون عليه بالضرب المبرح الذي لولا الشرطة لأفضى إلى
الموت.
ولكنه يقف قبل ذلك ليقول لهم موضحاً موقفه هو وحالتهم هم:
"الذي تريدونه، لا أستطيع إعطاءكم إياه؛
والذي تحتاجون إليه، لا تريدونه!" *
ذكرتني هذه الكلمة الرائعة بتلك الكلمة المواسية والموعظة العظيمة لمولانا
أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لذلك الصحابي المظلوم، أصدق الناس بنص الرسول
(صلى الله عليه وآله)، ولكنه اصطدم بفشل الخليفة وولاته في تحمل صدقه المطلق، وهو
يعظهم لما فيه نفعهم، كما اصطدم بضعف الجمهور في تحمل مسؤولياته، إلى درجة أنهم
قبعوا في بيوتهم ولم يخرجوا لوداعه بعد أن أمر الخليفة بنفيه إلى
"الرَّبَذة" (موضع موحش خارج المدينة المنورة) وأمره بمنع الخروج
لوداعه.
نـفي أبي ذر الـى الـربـذة
روي عن ابن عباس القول:
"لما أخرج أبو ذر الى الربذة، أمر عثمان، فنودي في الناس: ألاّ يكلم
أحد أبا ذر، ولا يشيِّعه، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به. فخرج به، وتحاماه الناس،
إلا عليّ بن أبي طالب عليه السلام وعقيلاً أخاه، وحسناً وحسيناً عليهما السلام،
وعماراً، فانهم خرجوا معه يشيعونه".
ثم روى كلامهم في توديعه.
كـلام
الامـام علي (عليه السـلام)
((يا أبا ذر، إنك غضبت لله فأرجُ من غضبتَ له؛
إن القومَ خافوك على دنياهم، وخِفتهم على دينك،
فاترك في أيديهم ما خافوك عليه،
واهرَب منهم بما خفتهم عليه،
فما أحوَجهم الى ما منعتهم،
واغناك عمَّا منعوك!
وستعلم من الرابح غداً، والأكثر
حُسَّداً؛
ولو أن السمواتِ والأرضين كانتا على عبد رتقاً، ثم اتقى الله، لجعل الله له
منهما مخرجاً؛
لا يؤنسنك الاّ الحق، ولا يُوحشنَّك إلا الباطل؛
فلو قبلت دنياهم لأحبُّوك ولو قرضت منها لأمنَّوك!))
ثم قال علي (ع) لأصحابه: ((ودِّعوا
عمَّكم))،
وقال لعقيل: ((ودِّع أخاك)).
كـلام
عـقـيـل بن أبي طالب رحمه الله
فقال عقيل:
"ما عسى أن نقولَ يا أبا ذر، وأنت تعلم أنا نحبُّك، وأنت تُحبُّنا!
فاتق الله، فان التقوى نجاة، واصبر، فان الصبرَ كَرم،
وإعلم أن استثقالك الصبرَ من الجزعِ،
واستبطاءك العافيةَ من اليأسِ،
فدَع اليأس والجزع".
كـلام
الحسـن (ع)
ثم تكلم الحسن (ع) فقال:
((يا عمَّاه،
لولا أنه لا ينبغي للمودِّع أن يسكت وللمشيِّع أن ينصرف لقصر الكلام، وإن
طال الأسف؛
وقد أتى القوم اليك ما ترى،
فضَع عنك الدنيا، بتذكر فراغها وشِدَّة ما اشتد منها، برجاء ما بعدها،
واصبِر حتى تلقى نبيَّك (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو عنك راض)).
كـلام الحسيـن (ع)
ثم تكلم الحسين (ع) فكان صدى مؤكداً لمن سبقه:
((يا عمَّاه،
إن الله تعالى قادر أن يغيِّر ما قد يرى، والله كلَّ
يوم هو في شأن،
وقد منَعَك القوم دنياهم، ومنعتهم دينَك،
فما أغناك عمَّا منعوك، وأحوجهم الى ما منعتهم!
فاسأل الله الصبرَ والنصرَ، واستعذ به من الجشع
والجزع،
فإن الصبرَ من الدين والكرم،
وإن الجشع لا يُقدّم رزقاً،
والجزع لا يؤخِّر أجلاً)).
كـلام عمَّـار بن يـاسر رحمه الله
ثم تكلم عمار (رحمه الله) مغضباً، فقال بما فيه
التقريع على الجمهور:
"لا آنس الله من أوحشَك، ولا آمنَ من أخافك؛
أما والله، لو أردتَ دنياهم لأمنُّوك،
ولو رضيت أعمالهم لأحبُّوك،
وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلا الرضا بالدنيا،
والجزع من الموت،
مالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه، والملك لمن غَلب،
فوهبوا لهم دينهم، ومنحهم القوم دنياهم،
فَخسِروا الدنيا والآخرة، ألا ذلك هو الخسران المبين!"
كـلام
ابـي ذر رضي الله عنـه
فبكى أبو ذر رحمه الله، وكان شيخاً كبيراً، وقال:
"رحمكم
الله يا أهل بيت الرحمة!
اذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
ما لي بالمدينة سَكن ولا شجن غيركم؛
إني ثقلتُ على عثمان بالحجاز،
كما ثقلت على معاوية بالشام،
وكَرِه أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين، فأفسد الناس عليهما،
فسيَّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله!
والله ما أريد إلا الله صاحباً،
وما أخشى مع الله وحشة".
فما أجمل ما وعظوه على إيجازه،
وما أجمل ما رد به أبو ذر عليهم،
فقد أوجز:
مودته أين تقع - إنقطاعه إليهم (عليهم السلام)،
وإخلاصه للدين – مشكلة الحكام معه نتيجة اعتراضاته عليهم،
وعقيدته في الله - إستجاب لدعوتهم أن يكون أنسه مع الحق وحده، والله هو
الحق المبين.
* وتتوافق نهاية الفيلم أيضاً مع قصة أبي ذر، أنه عندما تضغط الحكومة على
الكنيسة لتخليصها منه، تقوم الكنيسة بتعيينه واعظاً في محطة فضائية ستقوم بإطلاق
مركبة إلى المريخ، وقبل الإطلاق بدقائق يجتمع مع رائد الفضاء للدعاء له، فإذا به
يجده مذعوراً نادماً. هنا تأتي الفرصة الذهبية لترك هذا العالم الذي أطبق عليه
الباطل والذهاب إلى حيث الحرية مع الله تعالى، فيقوم بتقييد رائد الفضاء – أي
يخلصه مما هو فيه من ذعر وندم، خوفاً على الدنيا – ويصعد مكانه إلى المركبة،
فتنطلق ليفاجأوا بالاستماع إليه يترنم بأناشيد التمجيد لله بكل سعادة، فقد حصل على
حريته وتركهم في أغلالهم.