وفاة الحسن العسكري (ع) - محاضرة من قسمين / القسم الثاني
وفاة الإمام الحسن العسكري (ع) القسم 2 من المحاضرة
(4) وقد استمرت مهمات إمامته
في الأمر العظيم من بعده، وهو تهيئة الخلف المنتظر (ع) والشيعة لإمامته الفريدة،
التي تميزت بالغيبة الطويلة...
فالتهيئة لإمامة ولده المنتظر (ع)
تعني:
(أولاً) توجيه
الشيعة إليه بالتعريف بشخصه
• روي أنه (ع) بشر بولادة
الحجة قبل الولادة بالقول: «إنّ الإمام وحجة الله من بعدي ابني سميُّ رسول الله
وكنيّه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه))
• وعند حصول الولادة، كانت
عمته السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد (ع) قد تولّت ولادة زوجته ساعة الولادة. فكان
ذلك إشهاداً على الولادة المباركة.
• بعدها أخبر الشيعة
بحصولها، قوله: «الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي».
أو قوله الصريح في كتاب أو توقيع:
«ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً...»
أو بطريقة أخرى، بقوله لآخر: «عقّ
هذين الكبشين عن مولاك وكل هنّأك الله وأطعم إخوانك...»
• وبعد بضع سنوات وقد شارفت
حياته (ع) على نهايتها، جاء بولده الحجة (ع) إلى مجلس ضم أربعين رجلاً، وقال لهم:
«هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرّقوا من بعدي في أديانكم
فتهلكوا، أما إنّكم لا ترونه بعد يومكم هذا».
• بل قام بما يوجب
الاطمئنان أكثر، عندما جعل الحجة (ع) هو الذي يدل على نفسه الزكية، فعندما سأله
أحمد بن إسحاق عن علامة يطمئن قلبه بها، أخرج الإمام ولده الحجة وعمره ثلاث سنوات
فقال له: «أنا بقية الله في أرضه والمنتقم من أعدائه فلا تطلب أثراً بعد عين يا
أحمد ابن اسحاق»
• وبما أن إمامة ولده سيكون
أولها غيبة لعشرات السنين، فقد كان لزاماً على العسكري (ع) توجيه الشيعة إلى
الطريقة المناسبة وهي الوكلاء والسفراء فيما بين الإمام وشيعته، وهو ما بدأ في
حياة جده الهادي وأبيه العسكري. وهكذا، فقد وجه العسكري (ع) الناس إلى الوكلاء،
بدءاً بالوكيل الأول لولده الحجة عثمان بن سعيد العمري الذي جاء به إلى وفد من
شيعة اليمن وقال له: ((إمض يا عثمان فإنّك الوكيل والثقة والمأمون على مال الله
واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال)) ثم قال لهم: ((واشهدوا عليّ
انّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي وأنّ ابنه محمداً وكيل ابني مهديّكم)).
(ثانياً)
إعلام الشيعة بقضية الغيبة، كأمر حتمي سيكون
لا شك أن الغيبة أمر يزلزل العقيدة
لأنها حدث استثنائي، لا سيما بعد وجود الأئمة ووصول الشيعة إليهم، حتى على الرغم
من التضييق. لهذا قالم الإمام العسكري (ع) بالتشديد على الأمر، كما في قوله: «كأني
بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف منّي، أما إن المقرّ بالأئمة بعد رسول الله المنكر
لولدي كمن أقرّ بجميع أنبياء الله ورسله ثم أنكر نبوّة رسول الله، والمنكر لرسول
الله كمن أنكر جميع الأنبياء، لأن طاعة آخرنا كطاعة أوّلنا والمنكر لآخرنا كالمنكر
لأوّلنا، أما إنّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلاّ من عصمه الله عزّ وجل»
أيضاً أوضح ما يجب أن
يكون عليه الترتيب في الرجوع إلى الشرع المقدس، وذلك:
(في المرحلة
الأولى) عن طريق الوكلاء والسفراء / وكان بعضهم قد عاصر أبيه الهادي أيضاً، وبعضهم
وكيله ووكيل ولده الحجة (ع)، وذلك لتحقيق الاستمرارية المطلوبة. فكان أول السفراء
الأربعة وثانيهم هو أحد وكلاء العسكري (ع) وهو عثمان بن سعيد العمري الزيات وولده
محمداً. فقد روي عنه القول في عثمان بن وولده محمد: ( العمري وابنه ثقتان فما
أدّيا إليك فعني يؤديان وما قالا فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان
المأمونان)).
(في المرحلة
الثانية الممتدة) عن طريقة الفقهاء / قال (ع): «ينظر من كان منكم ممن قد روى
حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته
عليكم حاكماً )).
وأشار إلى المهمة الخطيرة للعلماء بقوله:
((لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه والدالّين عليه،
والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته،
ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلاّ ارتدّ عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمّة
قلوب ضعفاء شيعتنا كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، اُولئك هم الأفضلون عند الله
عزوجل)).
وممّا يدل على أن الإمام العسكري
(عليه السلام) كان يوجّه القواعد الشعبية للرجوع الى الفقهاء وتقليدهم وأخذ معالم
دينهم عنهم ما جاء عنه(عليه السلام) :
«فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه
حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه». وهذا يعتبر
التأسيس الرسمي للمرجعية الشيعية.
وهذا النص هو الذي جاء بكلمة
"التقليد" التي يعرفها الشيعة في مفردة "مراجع التقليد" (أما
كلمة "مراجع" فمن أمر الإمام الحجة (ع) في إعلان نهاية الغيبة الصغرى
((وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة
الله عليهم)).)
(5)
فهل نجح الإمام العسكري
(ع) في مهمته، وبأي درجة؟
إنه بلحاظ الأمور الثلاثة: ثقل
المهمة، والظروف الصعبة، وقصر المدة، فإننا نستطيع الجزم أن الإمام (ع) قد نجح نجاحاً
كبيراً في جميع الأمور التي كان عليه وضع إطارها وبعض تفاصيلها، ولكن ربما كان
النجاح أقل في الأمور التي كان للشيعة عموماً دور في إنجاحها.
(أولاً) تأسست
المرجعية الشرعية واستمرت كأحد المحاور المركزية في حياة الشيعة.
(ثانياً)
إستمرت وبقيت وقويت المرجعية في حياة الأمة الإسلامية عموماً، كما نشهد أثرها
اليوم بوضوح.
(ثالثاً) أين
صارت الفرق المنحرفة؟
أما الشيعية منها فقد انتهت...
(رابعاً)
تمسكت الشيعة المؤمنة به، أي بالأحد عشر إماماً – بولده المنتظر (ع)، فهم الإثنا
عشرية.
(خامساً) أما
الغلو، فإنه لم يعد هناك من يغالي فيهم (ع) كالذين حاربهم إمامنا العسكري (ع)،
ولكن الحديث ذو شجون، إذ أن هناك غلواً نشهده هذا اليوم وقبل اليوم... وهذا ليس من
تقصير الإمام – حاشاه – ولكن من تقصير الذين ينزعون إلى الغلو، كما هو من تقصير
أولي الأمر من شيعته.
(سادساً) وأما
بعض تصرفات الشيعة، فإنها لا تزال تشكو رغم أمره (ع) ((جروا إلينا كل مودة وادفعوا
عنا كل قبيح))، الأمر الذي يعد خللاً في استجابة الشيعة، عامتهم وأولى الأمر منهن،
لأمره (ع) ونهيه .
(6)
الجزاء
يقول الانجليز "الصورة تعدل ألف
كلمة"... والصورة التي التقطت من قبل جماعة آثارية غربية أوائل القرن العشرين
تبين ما جرى لقصر الخلفاء العباسيين من جهة وما جرى لبيت الإمام العسكري(ع) من جهة
أخرى. إنها تلخص حال إمامنا العسكري (ع) وحال معاصريه من خلفاء بني العباس الذي
حبسوه وحاصروه وضيقوا عليه وعلى شيعته بكل وسيلة: هذا الذي أرادوا ليس فقط محاصرته
في الإقامة الجبرية والسجن أحياناً ووضع المخبرين عليه حتى في سجنه، بل أن يكون كل
ذلك مع الإذلال حيث كانت إقامته مع أبيه الهادي (ع) في خان الصعاليك، في الوقت
الذي شيدوا قصرهم المنيف... فانظر كيف انتهى هذا وذاك..
القصر صار أثراً بعد عين....
والخان هو الذي أبقى سامراء مدينة
عامرة التف حول أئمتها أهالي سامراء الكرام من الذرية المباركة، ومن ساكنهم من
غيرهم، فكانت محل سكناهم وبركة إنتاجهم الزراعي وارتباطهم النفسي... كما التف حولها
الملايين من الشيعة في العالم....
لذا، فإن الله تعالى هو الذي يقيم
هذه البيوت السامية – وهذا قوله ((أذن الله أن ترفع)) ((أذن الله أن ترفع))...
وهذا قوله تعالى في نفس هذه الآيات
الثلاث: ((لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب)).
أخيراً: من كلماته
ووصاياه
من الاجتماعيات: (( أَعرَفُ الناس
بحقوق إخوانه وأشدّهم قضاء لها أعظمهم عند الله شأناً ))
وصف الحكيم والأحمق: (( قلب الأحمق
في فمه وفم الحكيم في قلبه.))
علاقة الحق بالعز والذل: (( وما ترك
عزيزٌ الحقَّ إلاّ ذلَّ ولا أخذ به ذليل إلاّ عزَّ. ))
عن الشكر: (( لا يعرف النعمة إلاّ
الشاكر ولا يشكرها إلاّ العارف ))، وهذه من أروع الأقوال، فقد جعل النتيجة،
وهي الشكر، هي الدالة على المقدمة، وهي النعمة – أي عكس المعتاد، وما ذلك إلا لأن
الشاكر أثبت أنه عرف النعمة حقاً، وغيره لو عرفها وشعر بها لفرح بها وقام بشكر
المنعم.
وأما ما يلي، فهو من أهم ما روي عنه
مما يستحق بحثاً طويلاً متكاملاً، ولكن أورده كنص: (( أُوصيكم بتقوى الله، والورع
في دينكم وصدق الحديث وأداء الأمانة من برٍّ أو فاجر وحسن الجوار فبهذا جاء محمدٌ
(صلى الله عليه وآله) .
صِـلوا في عشائرهم وعودوا مرضاهم ،
واشهدوا جنائزهم، وأدّوا للناس حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في
حديثهِ وحَسُنَ خُلقه وأدّى الأمانة للناس، وقيل هذا شيعي يسرُّني ذلك.
إتقوا الله وكونوا لنا زيناً ولا
تكونوا لنا شيناً.
جرّوا إلينا كلّ مودةٍ ، وادفعوا
عنّا كلَّ قبيحٍ فما قيل فينا من خيرٍ فنحن أهله وما قيل فينا من سوءٍ فنحنُ منه
براء.
لنا حقٌّ في كتاب الله وقرابة مِن
رسولهِ وولادة طيبة لا يدّعي ذلك غيرنا إلاّ كذّاب. ))
والسلام على إمامنا الحسن
بن علي، ورزقنا الله في الدنيا اتباعه، والقيام بواجبه في أن نجر إليه كل مودة وأن
ندفع عنه كل قبيح، وفي الآخرة السعادة الكبرى بلقائه....
والحمد لله أولاً وآخراً والصلاة
والسلام على نبينا محمد وآله الأطهار.