أسباب سياسية وراء تباين المواقف من زوجات النبي(ص)
بين أم سلمة وحفصة
أم سلمة(رض):
تزوجها النبي(ص) بعد وفاة زوجها عبد الله بن جحش من جراحاته في غزوة بني أسد حيث رأس سرية المسلمين التي أرسلها النبي(ص) بعد شهر واحد من غزوة أحد. وبعد انقضاء عدتها خطبها النبي(ص) فقالت له: "يا رسول الله، إني امرأة في غيرة شديدة، وأخاف أن ترى مني شيئاً يعذبني الله عليه، وقد كبر سني وتخطيت الشباب، ومع ذلك فإني امرأة ذات عيال وأحتاج أن أعمل في قوتهم"، فأجابها النبي(ص): ‹‹أما ما ذكرتِ من الغيرة فسيذهبها الله عنك، وأما السنّ فقد أصابني ما أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فعيالك عيالي››، فرضيت وتزوجها النبي(ص) في شوال سنة 4هـ.
ويكفي أن نعلم منزلتها من كلام السيدة عائشة لها يوم كتبت لها تحرضها للخروج معها على الإمام علي بن أبي طالب(ع) بعد بيعته، فقالت لها فيما قالت: "كان رسول الله يقسم لنا في بيتك، وكان جبريل أكثر ما يكون في منزلك" (ويذكر أن السيدة أم سلمة جلست إلى جبريل(ع) يوم زار النبي(ص) بصورة دحية الكلبي، وكان من أجمل الناس) وليس هناك سبب يجعل جبريل(ع) ينزل في بيت أم سلمة (أي عندما يكون النبي(ص) عندها) إلا أنها كانت أفضل أزواجه(ص)، فهذا هو العدل. (عرفنا أعلاه أن آية التطهير نزلت في بيت أم سلمة وأن النبي(ص) قال لها بأنها على خير).
موقف الطائفتين من أم سلمة:
يحترم أهل السنة أم سلمة في سياق احترامهم لباقي زوجات النبي(ص)، وإلا فإن معظمهم لا يعرفون حتى اسمها، فقد طغى حب السيدة عائشة على قلوبهم، فما عادوا يعرفون غيرها وحفصة. وهذا الإهمال يرجع إلى ما حدث في القرن الأول حيث رتب الحاكمون صحابة النبي(ص) وزوجاته حسب موقفهم من السلطات الحاكمة. ولم يجد الحاكمون صعوبة في إيجاد من يضع الأساس الديني الشرعي لذلك. ولما وقفت أم سلمة من الإمام علي(ع) الموقف المعارض تماماً لموقف عائشة، كان حظها الإهمال، على الرغم من أنها ما توفيت إلا بعد استشهاد الإمام الحسين(ع) فعاشت طويلاً بعد النبي(ص) وبعد وفاة عائشة بعدة سنوات، فلماذا أمرنا النبي(ص) كما يزعمون بأخذ ثلثي ديننا من عائشة ولم يأمرنا بأخذ ولو ثلث واحد، أو حتى ربع، من أم سلمة، خصوصاً وأنها كانت عندما تزوجت النبي(ص) ناضجة العقل (لقولها الوارد أعلاه: وقد كبر سني وتخطيت الشباب)، وأن جبريل(ع) كان أكثر ما ينزل في بيتها، وأن النبي(ص) كان يقسم لأزواجه عندها؟!
موقف أم سلمة من خروج عائشة على علي(ع):
ولكن ذنب أم سلمة هو رفضها موقف عائشة ودعوتها لها أن تخرج على الإمام علي(ع)، بل مبادرتها بنصح عائشة أن ترجع عن موقفها الذي لا يرضي الله ورسوله(ص)، بعد أن ذكرتها بأقوال الرسول(ص) وتحذيره لها. قالت لها: "إنك كنت بالأمس تحرّضين على عثمان وتقولين فيه أخبث القول، وما كان اسمه عندك إلا نعثلاً، وإنك لتعرفين منزلة علي عند رسول الله"، قالت:" نعم"، فقالت أم سلمة: "أتذكرين يوم أقبل النبي(ص) ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال فخلا بعليّ يناجيه فأطال، فأردتِ أن تهجمي عليهما، فنهيتك فعصيتني وهجمت عليهما، فما لبث أن رجعتِ باكية، فقلتُ: ما شأنك؟ فقلتِ: أتيتهما وهما يتناجيان، فقلتُ لعليّ: ليس لي من رسول الله إلا يوم من تسعة أيام، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي؟ فأقبل رسول الله(ص) عليّ وهو محمرّ الوجه غضباً فقال: ‹‹إرجعي وراءك! والله لا يبغضه أحد من الناس إلا وهو خارج من الإيمان›› فرجعتِ نادمة ساخطة"، فقالت عائشة: "نعم أذكر ذلك"، قالت: "وأذكرك أيضاً، كنت أنا وأنت مع رسول الله فقال لنا: ‹‹أيتكنّ صاحبة الجمل الأدب تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة على الصراط؟›› فقلنا: نعوذ بالله ورسوله من ذلك، فضرب على ظهرك فقال: ‹‹إياكِ أن تكونيها يا حميراء››".
ثم ذكرتها أم سلمة بجواب الرسول(ص) لها يوم سأله أبوها أبو بكر وصاحبه عمر عمن يستخلف بعده، فقال(ص) لهما: ‹‹أما إني قد أرى مكانه، ولو فعلتُ لتفرّقتم عنه كما تفرق بنو إسرائيل عن هارون››، فسكتا ثم خرجا، وبعدها سألته عائشة عنه، فقال: ‹‹خاصف النعل››، فنزلتا فرأتا علياً(ع)، فقالت عائشة: "نعم أذكر ذلك"، فقالت أم سلمة: "فأي خروج تخرجين بعد هذا يا عائشة؟" فقالت: "إنما أخرج للإصلاح بين الناس!"
وذكر ابن قتيبة في كتابه المصنف في غريب الحديث أن أم سلمة نهت عائشة عن الخروج وقالت لها فيما قالت: "والله لو سرتُ مسيرك هذا ثم قيل لي ادخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمداً هاتكة حجاباً ضربه عليّ".
أكثر من ذلك، بعثت أم سلمة(رض) برسالة إلى أمير المؤمنين(ع) قالت فيها: "أما بعد، فإن طلحة والزبير وأشياعهم أشياع الضلالة يريدون أن يخرجوا بعائشة ومعهم عبد الله بن عامر، يذكرون أن عثمان قتل مظلوماً، والله كافيهم بحوله وقوته. ولولا ما نهانا الله عن الخروج، وأنت لم ترض به، لم أدع الخروج إليك والنصرة لك، ولكني باعثة إليك بابني وهو عدل نفسي عمر بن أبي سلمة، يشهد مشاهدك، فاستوصِ به يا أمير المؤمنين خيراً". فذهب عمر إلى علي(ع) وجاهد معه في جميع حروبه.
نعم، حملت هذه المرأة الحق بين جنبيها وبخعت لأمر الله تعالى في أوصيائه الأئمة(ع). فعندما زارها ميثم التمّار صاحب الإمام علي(ع) وذكر لها علياً(ع) ووصفه بكلمة (سيدي)، بكت وقالت: "إنه سيدي وسيد المسلمين".
فلا غرو، بعد هذا، أن ينالها التعتيم والإهمال من قبل السلطات الحاكمة وأعوانها من وعاظ السلاطين، فهذا عندهم جزاء كل من يصدق ما عاهد الله عليه ويثبت على العهد ولا ينقلب عل عقبيه.
حفصة بنت عمر بن الخطاب:
ذكر لها المؤرخون مواقف قليلة غير إيجابية، أهمها موقفان:
الأول: يوم المغافير
الموقف الأول ما أخرجه البخاري في تفسير سورة التحريم عن اتفاقها مع عائشة على أم المؤمنين زينب بنت جحش في قصة المغافير. والقصة باختصار أن أميّ المؤمنين حفصة وعائشة اتفقتا على أن تقولا للنبي(ص) عندما يخرج من عند زينب أن رائحة مغافير تخرج من فيه، وذلك كي يكرهوه في زينب؛ والمغافير طعام فيه بصل يخرج رائحة قوية. ولما خرج الرسول(ص) من عند زوجته زينب، وكان قد أكل عندها عسلاً، نفذتا اتفاقهما. ولما كانت هموم الرسول(ص) أكبر من أن يتوقف عند مثل هذه الترّهات قال لهما أنه لن يعود إليه.
ثم أن الله تعالى كشف القصة كلها لنبيه(ص)، ثم أنزل بها قرآناً يكشف للناس عبر العصور الفرق بين أمهات المؤمنين، من كانت منهن في مستوى الرسالة ومسؤولياتها وهمومها، ومن منهن كان همها في التنازع بين الزوجات حتى وإن كان سيد البشر(ص) هو المعرض لهذه المنازعات والمزعجات. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ . إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ . عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ (التحريم:1-5).
يقول المولى عز وجل لهما: إنكما انحرفتما عن الحق ﴿صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾، فعليكما بالتوبة، وإن تآمرتما على النبي(ص) ﴿إِن تَظَاهَرَا عليه﴾ فإن الله سينصره عليكما ومعه جبريل(ع) وصالح المؤمنين وأيضاً جميع الملائكة. وهذا التهديد هو لعمري ما تنخلع له القلوب، فمن ينصر من يعاديه الله وجبريل والملائكة وصالح المؤمنين؟ ولا أظن أن في القرآن تهديداً أشد من هذا.
(أحب أن أنبّه إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أن النبي(ص) المعصوم أتقى من أن يحّرم ما أحلّ الله له، وهو ظاهر الآية الأولى. ولكن القرآن نزل بأساليب متعددة منها ما سمّاه الإمام جعفر الصادق(ع) بقوله: ‹‹نزل القرآن بإيّاك أعني واسمعي يا جارة››، أي أن الآية قد تخاطب النبي(ص) ولكنها تعني شخصاً آخر. وهذه الآية، كأنها توبّخ الزوجتين اللتين أرادتا من النبي(ص) أن يحرّم على نفسه ما أحلّ الله له، أما هو(ص) فلا يمكن بحال أن يحرّم ما أحلّ الله له.
الثاني: يوم همّت بالخروج مع عائشة ضد علي(ع)
الموقف الثاني للسيدة حفصة هو يوم دعتها السيدة عائشة وباقي زوجات الرسول(ص) للخروج على أمير المؤمنين(ع) معها وطلحة والزبير وأشياعهم، بعدما بويع بالخلافة عقب مقتل عثمان بن عفان سنة 35هـ. لم تجبها أي منهن إلى طلبها إلا حفصة، فإنها أرادت أن تخرج معها لقتال علي(ع)، إلا أن أخاها عبد الله بن عمر نهاها فانتهت ولم تخرج.
ويبدو أن أم المؤمنين حفصة كانت منقادة لأم المؤمنين عائشة، على الرغم من أنها تكبرها سناً، وعلى الرغم من أنها لم يكن عندها طموحات عائشة لقومها بني تيم. ولا نستطيع البت في الأسباب التي تقف وراء عداء حفصة للإمام علي(ع)، فإنه لم يكن بينه وبينها أي مشكلة مطلقاً.
على أن نظرة سريعة في الأمر تطرح احتمالاً راجحاً، وهو أن المرء لا بد وأن يلاحظ أن أميّ المؤمنين الوحيدتين اللتين عادتا علياً(ع) هما بنتا الرجلين اللذين وقفا من الإمام علي(ع) موقفاً سلبياً فيما يخص خلافته بعد رسول الله(ص) مباشرة، فسلباه حقه الواضح فيها، بل المنصوص عليه في مناسبات شتّى آخرها يوم الغدير قبل وفاة النبي(ص) بأكثر قليلاً من شهرين.
وينقضي العجب تماماً إذا ما لاحظنا أن عبد الله بن الزبير، أشد أعداء علي(ع)، والذي كان السبب وراء انحراف أبيه الزبير بن العوام عن علي(ع) (وهو ابن عمته)، هو ابن أسماء أخت عائشة. أيضاً، فإنه من نفس البيت الذي خرجت منه حفصة، خرج منه عبد الله بن عمر الذي رفض أن يبايع الإمام علي(ع) (وبقي دون إمام) ولكنه سارع لبيعة عبد الملك بن مروان عن طريق ساق واليه الحجاج بن يوسف الثقفي (الذي كانت يداه مشغولة بالطعام فمد لعبد الله ساقه فبايعه عليها!)، وخرج من ذات البيت عبيد الله بن عمر الذي قاتل إلى جانب معاوية ضد الإمام علي عليه السلام في صفّين حتى قتل.
السرّ وراء تقدم حفصة:
وهكذا، فأم المؤمنين حفصة لم تكن تتمتع بصفات متميزة، ولم تنجب للنبي(ص) ولداً، بل ساهمت مع عائشة في إزعاجه بشكل أنزل الله لأجل عدم تكراره تهديداً لا يوجد مثله في القرآن. لذا، ليس هناك من سبب دعا السلف من أهل السنة لأن يضعوها في منزلة تلي عائشة، فتراهم يحبونها ويسمون بناتهم تيمّناً بها سوى:
أولاً: كونها بنت عمر بن الخطاب الذي يعتبرونه أفضل إنسان بعد أبي بكر.
ثانياً: عداؤها لأمير المؤمنين(ع) والذي كان حظه من السلف حظ ابنه الحسن(ع) يوم رفضت أم المؤمنين عائشة دفنه جنب جده المصطفى(ص) قائلة: "لا يدخل عليّ غريب في بيتي"، في حين لم تعترض على دفن عمر بن الخطاب في بيتها، فصار الحفيد غريباً والغريب قريباً! فتأخر علي(ع) عند السلف بعد أن كان في حياة النبي(ص) ‹‹كجزء من رسول الله صلى الله عليه وآله، ينظر إليّ الناس كما يُنظر إلى الكواكب في أفق السماء›› كما قال هو، وتقدم غيره كما قال هو: ‹‹ثم غضّ الدهر منّي، فقرن بي فلان وفلان، ثم قرنت بخمسة أمثلهم عثمان، فقلت: وا ذَفَراه! ثم لم يرضَ الدهر لي بذلك حتى أرذلني، فجعلني نظيراً لابن هند وابن النابغة!››.. وطال العهد، ودفنت أحاديث، ووضعت غيرها، ونشأ الناس على أمور تصوّروها حقاً، وآل الحال إلى ما آل إليه.
أو كما قال أمير المؤمنين(ع): ‹‹حتى إذا قبض الله رسوله رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتّكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أُمروا بمودته، ونقلوا البناء عن رص أساسه، فبنوه في غير موضعه... معادن كل خطيئة، وأبواب كل ضارب في غمرة، قد ماروا في الحيرة، وذهلوا في السكرة، على سنة من آل فرعون، من منقطع إلى الدنيا راكن، أو مفارق للدين مباين››.
هذا مع الإمام الواجب الطاعة، والذي مكانه من النبي(ص) ما عرف الناس أجمعين. أفنعجب إذا ما تقدمت بعض زوجات النبي(ص) وتأخرت غيرهن على أساس الباطل، لا على أساس تفضيل الله ورسوله(ص)؟