(ب) الإمامة:
تحدثنا في الحلقة الماضية عن الإمامة وأثبتنا أنها مفهوم إسلامي متفق عليه وأنها وظيفة إلهية لا بد من وجودها، على الرغم من أنه قد استعيض عن اسمها أحياناً بلفظة الخلافة (مع فارق أكيد لا مدخلية له في التناول العام للأمة لموضوع القيادة)، وفي هذه الحلقة نذكر الأئمة بأسمائهم والأدلة على إمامتهم.
الأئمة يعيّنون من قبل الله تعالى:
لما كانت الإمامة منصب إلهي يتضمن المحافظة على الشريعة السماوية وتطبيقها ومراقبة تطبيقها في جميع جوانبها، كان لا بد لمن يشغل هذا المنصب أن يعيّن من قبل الله تعالى لأنه وحده العالم بهؤلاء الأفراد القلائل الذين يتمتعون بقابليات تؤهلهم لحمل هذه المسؤولية الكبرى.
وإلا فمن أين للناس أن يعرفوا الأفراد الذين يجب أن يسلموهم القادة مع اطمئنانهم إلى عصمة هؤلاء من الخطأ في التطبيق أو المراقبة، أو التورط في المحرمات خصوصاً في موقع السلطة حيث تزداد احتمالات الفتنة. قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ (البقرة:124)؛
وقال عز وجل ﴿ونُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ (القصص:5)؛
وقال ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (الأنبياء:21)؛
وقال ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا﴾ (السجدة:24).
في جميع هذه الآيات الكريمة نجد أن الله تعالى هو الذي يجعل الإمام إماماً والأئمة أئمة (جاعلك، نجعلهم، جعلناهم، جعلنا منهم)، وبالتالي فإن الناس ليس من شأنهم تعيين الأئمة وإنما هو الله تعالى لأنه وحده العارف بمن ﴿يهدون بأمرنا﴾ وبأن إبراهيم(ع) نجح في الامتحان فتأهّل لأن يكون إماماً على الناس.
الأئمة إثنا عشر:
لئن نص القرآن على منصب الإمامة وأنها اختيار وتعيين إلهي، فإن الرسول(ص) قد حدد عدد الأئمة وأعيانهم، أما عددهم فإثنا عشر كما ورد في حديثه(ص) الذي أخرجه أصحاب كتب الحديث السنية، وعلى رأسها البخاري حيث أخرج (الجزء الرابع، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف) حديثه(ص): (عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي(ص) يقول: ‹‹يكون إثنا عشر أميراً››، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: أنه قال: ‹‹كلهم من قريش››).
وأخرج مسلم في صحيحه (الجزء الثاني، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش) قول النبي(ص):‹‹لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم إثنا عشر خليفة كلهم من قريش››.
وأخرج الترمذي مثله ولكن باستبدال كلمة خليفة بأمير.
وروى أحمد بن حنبل في مسنده أن رجلاً سأل عبد الله بن مسعود(رض) فقال: ‹‹إثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل››.
هذا وأخرج أحاديث الإثني عشر إماماً عدد كبير من علماء أهل السنة كالنسائي في صحيحه وأبي نعيم في تنزيل القرآن والمحب الطبري في ذخائر العقبى وابن حجر في الصواعق المحرقة والعسقلاني في الإصابة وأبي يعلى الموصلي في مسنده والطبري في معجمه والسيوطي في الجامع الصغير.
من هم الإئمة الإثنا عشر:
الأئمة الإثنا عشر الذين نعتقد بأنهم هم الأئمة المنصبّون من قبل الله تعالى خلفاء لخاتم رسله(ص) هم:
أبو الحسن علي بن أبي طالب، ويخلفه ولداه: الحسن ثم أخوه الحسين، ويخلفه ابنه علي (السجاد زين العابدين)، ثم ابنه محمد (الباقر)، ثم ابنه جعفر (الصادق)، ثم ابنه موسى (الكاظم)، ثم ابنه علي (الرضا)، ثم ابنه محمد (التقي الجواد)، ثم ابنه علي (النقي الهادي)، ثم ابنه الحسن (الزكي العسكري)، ثم ابنه محمد (المهدي أو الحجة القائم) عليهم السلام أجمعين.
فأول هؤلاء الأئمة هو ابن عم النبي(ص) وربيبه وحامل لوائه وناصره وزوج بضعته الزهراء(ع) وأبو نسله الطيب ورأس الشجرة المباركة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، ثم يأتي بعده ولداه من فاطمة(ع) الحسن السبط، ومن بعده أخوه الحسين، ثم تسعة كل واحد منهم والد الإمام الذي يليه.
الأدلة على إمامة الإثني عشر من أهل البيت:
تنقسم الأدلة على إمامة هؤلاء الإثني عشر من أهل بيت رسول الله(ص) إلى قسمين: نقلية وعقلية.
1- الأدلة النقلية:
أولاً: حديث رسول الله(ص):
بعد أن حدد عدد الأئمة الذين يخلفونه على أمته وعلى الخلق أجمعين كونهم يخلفون الرسول الخاتم المرسل للناس أجمعين، والقوّام على الشريعة الخاتمة النازلة للناس أجمعين وإلى قيام الساعة، نص رسول الله(ص) عليهم بأسمائهم وكما ذكرنا أعلاه.
وإليك شذرة من شذرات أحاديثه المقدسة في هذا الباب.
قال(ص) كما في ينابيع المودة للقندوزي الحنفي باب 77 من حديث جابر بن سمرة: ‹‹بعدي اثنا عشر خليفة›› ثم أخفى، أي النبي(ص)، صوته، فقلت لأبي: ما الذي أخفى صوته؟ قال: قال:‹‹كلهم من بني هاشم››. فلعل هذا هو الحديث الصحيح، ولكن كلمة (بني هاشم) استبدلت بكلمة (قريش) وذلك إما في زمن الأمويين أو في زمن العباسيين كي يدخلوا في نص الحديث كونهم من قريش، وذلك لأنه لو كان هناك كلمة (قريش) لاستند إليها أبو بكر وصاحباه في السقيفة عندما كانوا يحاججون الأنصار بعيد وفاة النبي(ص) على الرغم من أنهم استخدموا حقيقة أنهم من قريش التي هي عشيرة النبي(ص).
وروى صاحب الينابيع أيضاً، والشافعي في فرائد السمطين حديثه(ص): ‹‹أنا سيد النبيين وعلي سيد الوصيين وإن أوصيائي بعدي اثنا عشر أولهم علي وآخرهم القائم المهدي››.
وروى صاحب الينابيع أيضاً، والخوارزمي الحنفي في مقتل الحسين ما حدث به سلمان(رض) قال: دخلت على النبي(ص) فإذا الحسين على فخذيه وهو يقبل خديه ويلثم فاه ويقول: ‹‹أنت سيد، ابن سيد، أخو سيد، أنت إمام إبن إمام أخو إمام، أنت حجة إبن حجة أخو حجة أبو حجج تسعة تاسعهم قائمهم المهدي››.
وأخرج الشافعي في فرائد السمطين قوله(ص): ‹‹أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون››.
وفيه أيضاً قوله(ص): ‹‹إن أوصيائي حجج الله على الخلق بعدي إثنا عشر أولهم أخي وآخرهم ولدي›› قيل: "يا رسول الله من أخوك؟" قال: ‹‹علي››، قيل: "من ولدك؟" قال: ‹‹المهدي››.
وفي ينابيع المودة أيضاً حديثه(ص) عن جابر بن عبد الله الأنصاري(رض): ‹‹يا جابر إن أوصيائي وأئمة المسلمين من بعدي أولهم علي، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف بالباقر، ستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم القائم اسمه اسمي وكنيته كنيتي ابن الحسن ابن علي، ذلك الذي يفتح الله تبارك وتعالى على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذلك الذي يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان››.
هذا وجاء ذكر الأئمة الإثني عشر(ع) من أهل بيت النبي(ص) في أحاديث كثير جداً في كتب أهل السنة مثل كتاب البيان للحافظ الكنجي ومناقب أمير المؤمنين للمغازلي الشافعي وحلية الأولياء لأبي نعيم والفصول المهمة لابن الصبّاغ المالكي.
ثانياً: حديث الأئمة(ع) أنفسهم:
صحيح أن شهادة الإنسان لنفسه لا تعد دليلاً، إلا أن هذا لا ينطبق على هذه الحالة لأن الأئمة عليهم السلام اتفقت الأمة على عدم اقترافهم للكذب مطلقاً مما يجعل شهادتهم لأنفسهم لا غبار عليها. هذا ناهيك عن ثبوت حديث الكساء الذي جاء لتفسير آية التطهير الواردة في سورة الأحزاب، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، فجمع النبي(ص) بين نفسه المقدسة وعلي وفاطمة والحسنين تحت كساء خيبري وتلا الآية الكريمة. وبما أن الله تعالى يعلم أن أعداء أهل البيت(ع) سيحاولون التشويش على دلالة الحديث عليهم(ع) فيفتروا أن آية التطهير لا تخصهم وحدهم بل تعم نساءه(ص)، كان حكمته تعالى أن جعل أم المؤمنين أم سلمة(رض) تحاول الدخول مع الخمسة الأطهار(ع) تحت الكساء، فجذبه النبي(ص) ومنعها، وقال لها (كي لا تضيق نفسها وتعلم أنها مرضي عنها): ‹‹إنكِ على خير››.
لذا، فإننا نقبل قول علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام دون حاجة إلى من يشهد لهم، لأنهم معصومون، بنص هذه الآية، من الكذب.
وقد صرّح هؤلاء السادة بأنهم الأئمة المنصبون من قبل النبي(ص) عملاً بأمر الله، وقد أخذ لهم النبي(ص) البيعة من المسلمين قاطبة يوم الغدير، 18 من ذي الحجة سنة 10هـ قبل أن يودّع النبي(ص) الدنيا بأسابيع، حيث نصّب علياً(ع) إماماً على الخلق أجمعين، من حضر في ذلك اليوم السعيد ومن لم يحضر، ومن شاء ومن أبى، وبالتالي فإن من ينص علي(ع) على إمامته لا نشك بكونه إماماً لأنه من نص عليه هو مطهّر من اقتراف الكذب أولاً، وهو الإمام المنصوب من قبل الرسول(ص) ثانياً.
وبالفعل فقد نصّ علي(ع) على ابنه الحسن(ع)، ولهذا بايعه الناس بعد استشهاد أبيه يوم 21 رمضان سنة 40هـ، واستمر في كرسي الإمامة وخلافة رسول الله(ص) لمدة سبعة أشهر، تنازل بعدها لمعاوية بعد أن خذله الناس وفقد الناصر، وحقناً لدماء شيعته، وهو بحث طويل ليس هاهنا محله، ومع ذلك، وافق معاوية على شروط الصلح التي نصّت على أن الخليفة بعده هو الحسن(ع) ومن ثم الحسين(ع). فلماذا هذا الشرط وموافقة الناس ومعاوية عليه لو لم تكن إمامتهما عليهما السلام أمراً مسلّماً به؟
هذا، وكان كل إمام ينص على الإمام الذي يليه من ولده بأحاديث رواها شيعتهم، وكذا بعض أصحاب التواريخ.
أضف إليه ادّعاء الزهراء(ع) زوج الإمام الأول وأم الأئمة الآخرين بالإمامة لزوجها في حديثها في مسجد أبيها بعد وفاته.
أما أمير المؤمنين علي(ع) فقد ورد عنه أحاديث كثيرة تنص على تقدم أهل البيت(ع) على الأمة وقيادتهم لها. فقد جاء في نهج البلاغة، وهو الكتاب الذي جمعه الشريف الرضي من خطب ورسائل وكلمات الإمام علي(ع) ما يلي:
‹‹وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم، وهم أزمّة الحق وأعلام الدين وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ورِدوهم ورودَ الهِيم العطاش››.
‹‹أنظروا أهل بيت نبيكم فألزموا سمتهم واتبعوا إثرهم، فلن يخرجوكم من هدى ولن يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدوا وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلوا ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا››.
‹‹وخلّف (يعني النبي(ص)) فينا راية الحق، من تقدمها مرق، ومن تخلّف عنها زهق، ومن لزمها لحق››.
‹‹نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة ومعدن العلم وينابيع الحكم؛ ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة››.
‹‹وعندنا أهل البيت أبواب الحكم وضياء الأمر››.
‹‹نحن الشّعّار والأصحاب والخزنة والأبواب، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمّي سارقاً››.
ثالثاً: أقول السلف:
ومنها أقوال أولياء الأئمة(ع) والمنصفين ومنها أقوال أعدائهم. أما أقوال أوليائهم فمن الشعر ما يأتي:
قال الصحابي البدري أبو الهيثم بن التيّهان يوم الجمل:
قل للزبير وقل لطلحة أننا نحن الذين شعارنا الأنصارُ
إن الوصيّ إمامنـا ووليّنـا برح الخفاء وباحت الأسرارُ
وقال خزيمة بن ثابت، ذو الشهادتين، يوم الجمل:
أعائش خلّي عن عليّ وعيبهِ بما ليس فيه إنما أنت والدهْ
وصيّ رسـول الله مـن دون أهلـهِ وأنتِ على ما كان من ذاك شاهدهْ
وقال الأشعث بن قيس يوم صفّين:
أتانا الرسول رسول الإمامِ فسُرّ بمقدمـــه المسلمونــــا
رسول الوصي وصيّ النبيِّ له السبق والفضل في المؤمنينا
وقال أمير المؤمنين(ع) نفسه:
يا عجباً لقد سمعت منكرا كذباً على الله يشيب الشَّعرا
ما كان يرضي أحمداً لو أخبرا أن يقرنوا وصيّـــه والأبترا
أما علماء السلف، فقد أوردنا ذكرهم أئمة أهل البيت(ع) بأسمائهم في أعلاه.
وقال بعضهم أقوالاً تؤكد أن كل واحد منهم(ع) كان الأعلى من الجميع علماً وديناً.
قيل للفقيه ابن أبي ليلى: "أكنت تاركاً قولاً قلته وقضاء قضيته لقول أحد؟ قال: لا إلا رجل واحد، قيل: من هو؟ قال: جعفر بن محمد الصادق".
وقال أبو حنيفة عنه بعد أن أورد الإمام الصادق(ع) الآراء الفقهية لجميع المسلمين عندما امتحنه أبو حنيفة بأمر المنصور العباسي: "أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس".
وسأل رجل أبا حنيفة عن الإمام المستحق أن يوقف المال له، فقال: "المستحق جعفر بن محمد الصادق لأنه هو إمام الحق".
وعن زيد بن علي(ع)، قال: "في كل زمان رجل منا أهل البيت يحتج الله به على خلقه، وحجة زماننا ابن أخي جعفر بن محمد".
ويقول ابن العماد الحنبلي عن الإمام الباقر(ع): "قيل له الباقر لأنه بقر العلم وتوسع فيه وعرف أصله وهو أحد الأئمة الإثني عشر".
وأخيراً، فمن الملاحظ أن جميع علماء المسلمين وكتّابهم وباحثيهم عندما يذكرون الخلفاء الراشدين الأربعة فإنهم لا يطلقون لقب الإمام إلا على علي(ع)، وهذا إقرار واضح بأن منصب الإمامة ليس إلا له(ع). وفعل ذلك عباس محمود العقاد الأديب المصري الراحل، حيث سمّى عبقرياته كالآتي: عبقرية الصدّيق، عبقرية الفاروق، عبقرية عثمان، عبقرية الإمام.
2- الأدلة العقلية:
أولاً: إن عدد الإثني عشر خليفة الذي أثبتنا تواتره عن رسول الله(ص) بما يقطع بصحته، لا ينطبق إلا على أئمة أهل البيت(ع)، فإن الخلفاء الراشدين أربعة أو خمسة (إذا عدّ الحسن(ع))، والأمويون أكثر من اثني عشر، وكذا العباسيون، أما العثمانيون فليسوا من قريش أصلاً. فإذا صرفنا النظر عن أئمة أهل البيت(ع) يبقى هذا الحديث الصحيح المتواتر دون تفسير.
ثانياً: إن اضطهاد الملوك الأمويين والعباسيين لهؤلاء الإثني عشر يقطع بأنهم كانوا ينافسونهم الخلافة، وهذا لا يكون إلا بمعرفة هؤلاء الملوك بإمامة هؤلاء، كما ويثبت أن هؤلاء المضطهدين الأئمة(ع) كانوا يصرّحون بكونهم الأئمة مفترضي الطاعة، وأنه كان هناك بعض المسلمين، وهم شيعة أهل البيت(ع)، يعتقدون بإمامة هؤلاء الأمة(ع) ويساندونهم بما يشكل خطورة على هؤلاء الملوك. وأذكر هنا كلمات قصار في هذا السياق:
قال أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي عن الإمام الصادق(ع): "إن جعفر بن محمد من السابقين بالخيرات ومن الذين اصطفاهم الله من عباده وأورثهم الكتاب".
قال هارون الرشيد العباسي لأولاده عن الكاظم(ع):" هذا إمام الناس وحجة الله على خلقه وخليفته على عباده". وعندما سأله ابنه "يا أمير المؤمنين أليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟" قال: "أنا إمام الجماعة الظاهر بالغلبة والقهر وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله مني ومن الخلق أجمعين".
وقال المأمون العباسي للعباسيين عندما عاتبوه على تزويجه الإمام محمد الجواد(ع) من ابنته أم الفضل: "ويحكم! إن أهل هذا البيت خُصّوا من بين الخلق بما ترون من الفضل وإن صغر السن لا يمنعهم من الكمال؛ أما علمتم أن رسول الله(ص) افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) وهو ابن عشر سنين وقَبِل الإسلام منه وحكم له به ولم يدعُ أحداً في سنّه غيره؟ أما تعلمون ما خصّ الله به هؤلاء القوم وأنهم ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري لأولهم؟".
ثالثاً: إن المتتبع لأحوال الإثني عشر فيما روته كتب الحديث والتاريخ عنهم يخرج بنتيجة واحدة وهي أن هؤلاء قوم "خُصّوا من بين الخلق بما ترون من الفضل" حسب ما قال المأمون العباسي، وإلا فمن غير هؤلاء الإثني عشر(ع) من لم يتعلم إلا من مدرسة أبيه فكان الناس في حاجة إليه وهو مستغن عنهم؟
ومن غير هؤلاء الإثني عشر سئل ولم يقل: لا أدري، أو لم يطلب فرصة للتفكير أو المراجعة، ثم كان كل ما يقوله صحيحاً لم يستطع النقّاد والحسّاد والأعداء، على كثرتهم، أن يردّوه؟
ومن غير هؤلاء الإثني عشر من جرى عليهم ما جرى من صنوف المحن والعذاب والاضطهاد والسجن والسم والقتل والظلم، وعلى شيعتهم وأوليائهم، ثم استطاع أن يقابل ظالميه وأعوانهم بكظم الغيظ والعفو على الناس وبما يُرجى منه الإصلاح والإرشاد؟
ومن غير هؤلاء الإثني عشر من لم يؤثر على مقدرتهم العلمية صغر السن، فكان الإمام منهم وهو ابن ثماني سنين فحسب يأتي إليه أكابر علماء عصره من المسلمين وغيرهم ليناظروه في مجالس أعدائه الملوك الظالمين ثم يفحمهم ويخرج منتصراً عليهم؟
رابعاً: وأخيراً، وليس آخراً، فليس هناك أطروحة غير أطروحة أئمة أهل البيت الإثني عشر(ع) توفر لمن يؤمن بها الأمن من الموتة الجاهلية التي نص عليه الحديث النبوي: ‹‹من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية››.
فإن كان المسلمون المنحرفون عن أهل البيت(ع) طيلة العهود الأولى يستطيعون الزعم بأن أئمة أزمانهم هم خلفاء بني أمية أو العباس أو حتى بني عثمان (وإن كانوا ليسوا من قريش فلا تجوز لهم الخلافة حسب الأحاديث الواردة أعلاه)، فإنهم لن يجدوا مصداقاً لمنصب الإمام في زماننا هذا غير إمامة أهل البيت(ع) وذلك لأن حكام المسلمين اليوم لا يدعون الخلافة من رسول الله(ص) أو الإمامة، وبالتالي فإن على المسلم، أي مسلم، أن ينتقل من هذا الوضع المهدد بالميتة الجاهلية إلى الأمان الذي يوفره الإيمان بإمامة الإثني عشر من آل محمد(ص).
ولكن، رب قائل يقول: ولكن أين هم الأئمة الآن؟
والجواب: أن ثاني عشرهم موجود وهو الإمام الحجة محمد بن الحسن، وهو المهدي المنتظر الموعود، وإن كان غائباً عن الأنظار لأنه سيكون مطلوباً من قبل جميع الحكام وذلك لأن ظهوره يعني بدء العملية الإصلاحية الكبرى التي تستهدف تأسيس الدولة الإسلامية العالمية التي وعد بها جده رسول الله(ص) بقوله المشهور المتواتر الذي يعده جميع المسلمين دون استثناء من ضرورات الدين: ‹‹يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي إسمه كإسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وذلك هو المهدي››.
وقال(ص) كما في صحيح الترمذي: ‹‹لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلاً من أهل بيتي يواطئ إسمه إسمي››.
فإذا كان ممكناً أن يطوّل الله تعالى يوماً واحداً لكي يخرج المهدي فمن الممكن أيضاً أن يطوّل الله القدير عمر المهدي(ع) حتى تتهيأ الظروف لظهوره المبارك.
وعلى أية حال فإن لنا موعداً مع إمامنا المهدي عليه السلام في حلقة قادمة من هذه الزاوية إن شاء الله تعالى.