عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم
2 من 8
***
من خطبة لأمير المؤمنين، أمير البلاغة، علي بن أبي
طالب (عليه السلام)،
في "وصف المتقين"،
وهي الخطبة رقم 193 من كتاب "نهج البلاغة"
الذي جمع فيه الشريف الرضي (رحمه الله) من خطب ورسائل وكلمات مولانا أمير المؤمنين
(ع) ما حارت العقول في سموّه وعمقه ومعانيه ومراميه وتنوّعه، فلا يصدر إلا منه (ع).
ولا عجب، بعد أن أعلمنا هو (ع) كيف كان النبي (صلى
الله عليه وآله) يصنع معه:
((وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه))،
لا عجب أن تنور العالم كلماته ومواعظه عبر القرون،
كما عبر السيد مصطفى جمال الدين (رحمه الله):
هَدَرَتْ حولهُ بكوفانَ يوماً ** ثمّ قرّتْ، وما
يزالُ الغديرُ
وسيبقى يهُزُّ سمعَ الليالي ** منبرٌ من بيانِهِ
مسحورُ
***
أورد الخطبة في هذا المنشور، ثم نحاول في المنشورات
الـ 6 اللاحقة الاستفادة من بعض كلماتها في واقع حياتنا، والتي يمكن جعلها كلها
ضمن العنوان الأكبر:
عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا
دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ.
***
روي أنّ صاحباً لاميرالمؤمنين (عليه السلام) يقال له
همّامٌ كان رجلاً عابداً، فقال له: "يا أميرالمؤمنين، صف لي المتقين كأني
أنظر إليهم".
فتثاقل عن جوابه، ثم قال (عليه السلام): ((يا همّامُ، اتقِ اللهَ وأحْسِنْ فَـ
((إنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)).
فلم يقنع همّامٌ بِذَلِكَ القول حتّى عزم عليه.
***
قال: فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبي (صلى
الله عليه وآله)، ثم قال (عليه السلام):
((أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى ـ خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً
مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لاَِنَّةُ لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلاَ
تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ،
وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ.
فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ:
مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ
الاْقْتِصَادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ.
غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا
أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ.
***
نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاَءِ
كَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الرَّخَاءِ.
لَوْلاَ الاَْجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ
لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْن، شَوْقاً إِلَى
الثَّوَابِ، وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ.
عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا
دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ،
وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ.
***
قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ،
وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ.
صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً
طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مَرْبِحَةٌ، يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُم.
أَرَادَتْهُمُ الْدُّنْيَا وَلَمْ يُرِيدُوهَا،
وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أُنْفُسَهُمْ مِنْهَا.
***
أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ،
تَالِينَ لاَِجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً، يُحَزِّنُونَ بِهِ
أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا
مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ
نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا
مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ،
وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ
لِجَبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ، وَأَطْرَافِ
أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللهِ فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ.
***
وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ،
أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ، يَنْظُرُ
إِلَيْهمُ الْنَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض،
وَيَقُولُ: قَدْ خُولِطُوا ! وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ
عَظِيمٌ!
لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، وَلاَ
يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ، فَهُمْ لاَِنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ
أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ.
***
إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهْمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا
أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي، وَرَبِّي أَعْلَمُ مِنِّي بِنَفْسي! اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي
بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا
لاَ يَعْلَمُونَ.
***
فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ
قُوَّةً فِي دِين، وَحَزْماً فِي لِين، وَإِيمَاناً فِي يَقِين، وَحِرْصاً فِي
عِلْم، وَعِلْماً فِي حِلْم، وَقَصْداً فِي غِنىً، وَخُشُوعاً فِي
عِبَادَة، وَتَجَمُّلاً فِي فَاقَة، وَصَبْراً فِي شِدَّة،
وَطَلَباً فِي حَلاَل، وَنَشاطاً فِي هُدىً، وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَع.
يَعْمَلُ الاَْعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى
وَجَل، يُمْسِي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ، يَبِيتُ
حَذِراً، وَيُصْبِحُ فَرِحاً، حَذِراً لَمَّا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَفَرِحاً
بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ.
إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيَما تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا
سُؤْلَهَا فِيَما تُحِبُّ.
***
قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيَما لاَ يَزُولُ، وَزَهَادَتُهُ
فِيَما لاَ يَبْقَى، يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمَ، وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ. تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ، قَلِيلاً زَلَلُهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ،
قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً أَكْلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهُ،
حَرِيزاً دِينُهُ، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ،
مَكْظُوماً غُيْظُهُ.
الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْهُ
مَأْمُونٌ.
إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي
الذَّاكِرِينَ،
وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ.
***
يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ،
وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ.
بَعِيداً فُحشُهُ، لَيِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً
مُنْكَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَيْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ.
فِي الزَّلاَزِلِ وَقُورٌ، وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ، وَفِي
الرَّخَاءِ شَكُورٌ.
لاَ يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، وَلاَ يَأْثَمُ
فِيمَنْ يُحِبُّ.
يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ.
***
لاَ يُضَيِّعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلاَ يَنْسَى مَا
ذُكِّرَ، وَلاَ يُنَابِزُ بِالاَْلْقَابِ، وَلاَ يُضَارُّ بالْجارِ، وَلاَ
يَشْمَتُ بالْمَصَائِبِ، وَلاَ يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ، ولاَ يَخْرُجُ مِنَ
الْحَقِّ.
إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحِكَ
لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتّى يَكُونَ اللهُ هُوَ
الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ.
نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاء، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي
رَاحَة.
أَتْعَبَ نفسه لاِخِرَتِهِ، وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ
نَفْسِهِ.
بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ
وَنَزاهَةٌ، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنَهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ
تَبَاعُدُهُ بِكِبْر وَعَظَمَة، وَلاَ دُنُوُّهُ بِمَكْر وَخَدِيعَة)).
***
قال: "فصعق همّام رحمه الله صعقةً كانت نفسُه فيها.
فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): ((أَمَا وَاللهِ لَقَدْ
كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْه)).
ثُمَّ قَالَ: ((هكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ
البَالِغَةُ بِأَهْلِهَا؟))
فقال له قائل: "فما بالك يا أميرالمؤمنين؟"
فقال (عليه السلام): ((وَيْحَكَ، إِنَّ لِكُلِّ أَجَل
وَقْتاً لاَ يَعْدُوهُ، وَسَبَباً لاَ يَتَجَاوَزُهُ، فَمَهْلاً، لاَ تعُدْ
لِمِثْلِهَا، فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ!))
(يتبع)