عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم
3 من 8
***
من خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
في "وصف المتقين"، وهي الخطبة رقم 193 من
كتاب "نهج البلاغة"،
التي أوردتها في منشور أمس،
قال (عليه السلام):
(( نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاَءِ
كَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الرَّخَاءِ )).
***
المعنى الإجمالي:
هؤلاء الموصوفون بالتقوى، عندما يتعرضون إلى البلاء
لا يتزلزلون ولا يسقطون أمام امتحان البلاء،
بل تجدهم كما هم عندما يتعرضون إلى الرخاء.
وهذا ليس في الخارج فقط، بحيث يحافظون على هدوئهم
ويتحكمون في أعصابهم؛
كلا،
ولكنه في داخل أنفسهم،
فلا يجدون في دخائل أنفسهم اهتزازاً، من ألم أو قلق
أو خوف، نتيجة البلاء.
وهذه هي حالهم في الرخاء،
وهو مهم أيضاً، لأنه وإن كان صحيحاً أن الرخاء لا
يورث القلق والخوف والألم مباشرة، ولكنه ربما يورثه فيما بعد نتيجة الانغماس في
هذا الرخاء وتوابعه، فينقلب الرخاء إلى بلاء!
كما أن البعض يتزلزل عند الرخاء، لا سيما إذا كان
كبيراً غير معتاد، أو غير متوقع، أو أتى بعد حين من الشدة،
فربما أثر هذا الرخاء حتى على العلاقة الحسنة مع الله
تعالى.
أما سمعته تعالى يقول: ((وَإِذَا
مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ
نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ
أَندَادًا))
الزمر:8.
***
كيف نستطيع الاتصاف بذلك؟
كيف نستطيع جعل ما نتعرض له من بلاء لا يؤثر فينا،
فنبقى متوازنين هادئين وكأنما نتعرض إلى الرخاء؟
وكيف نتعرض إلى الرخاء دون أن ننسى الله تعالى بعد أن
منّ علينا بالرخاء الذي كنا نتوق إليه؟
الجواب في تلك الجملة الساحرة:
(( عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا
دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ )).
كأن علياً (ع) يقول لنا:
إن في داخل كل منكم حيزاً معيناً محدداً، يتزاحم فيه
"الخالق" و "الدنيا"،
كلما ازاد الحجم الذي يشغله " الخالق" في
ذلك الحيز كلما صغر الحجم المتبقي لـ"الدنيا"؛
فهؤلاء المتقون عندما شغل " الخالق" في
"أنفسهم" نسبة "عظيمة" من ذلك الحيز، فإنه تعالى طغى على
ذواتهم حتى صارت "أعينهم" لا ترى "ما دونه"، وهو الخارج، إلا
"صغيراً"؛
وعندما يكون "الخارج" الذي تراه "أعينهم"
صغيراً، فأي بلاء وأي رخاء، بكامل متعلقاته الخارجية من بشر وغير بشر، سيصغر معه –
وعقله سيخاطبه مباشرة: ما قيمة هذا إلى نعم الله
تعالى التي لا تحصى التي أتقلب فيها بالرغم من هذه الشدة؟
وما قيمة هذا وهو قصير الأجل في دنيا مدتها محدودة
إلى آخرة أبدية سأتقلب فيها بنعم أعظم وأعجب وأبقى؟
وبالتالي لا يهتزون ولا يسقطون، بل يبقون ثابتين على
مستوى المبدأ والتفاصيل.
***
"الخالق"، لماذا؟
لا يفوتنك ملاحظة أن علياً (ع) استخدم الاسم
"الخالق" وليس "الله"،
لأن العلاقة بين العبد والله إنما بدأت عندما
"خلقه"،
وطالما هو "الخالق"، فهو الرازق والمنعم
واللطيف والودود وسائر الصفات الحسنى للمولى عز وجل،
وكل واحدة من هذه تعين هؤلاء المتقين على
"تعظيم" الخالق في أنفسهم، ليتحقق المراد "تصغير ما دونه في
أعينهم".
***
فهذا هو الحل:
أن "نعظّم الخالق في أنفسنا"، ونزيد من ذلك
ما استطعنا،
عندها سيصغر ما دونه تلقائياً،
وفي ذلك الراحة والرضا في الدنيا والسعادة في الآخرة.
***
علاج عملي مؤقت وسريع:
عندما تتضايق أو تتألم أو تقلق أو تخاف من شيء أو
إنسان، جرب أن تستلقي أو تجلس، وتسترخي تماماً،
أغمض عينيك،
ضع هذا الإنسان أو الجماعة أو الشيء في "منطاد"
(بالون)،
وأطلق المنطاد،
تخيل كيف يطير عالياً وبعيداً،
إلى أن يصبح صغيراً جداً جداً،
عندها، تراه يتلاشى؟ تراه ينفجر؟ براحتك!
***
لكن لا تنس العلاج الدائم:
هذا العلاج العملي، وأشباهه، مؤقت ريثما تنجح في
زيادة الحيز الذي في داخلك لـ "الخالق" تعالى،
تنجزه في زيادة الذكر، أي التفكر ومحاربة الغفلة،
وتنجزه في الصلاة وتقوية الانتباه فيها،
وتنجزه في سائر القربات؛
وإلا ستبقى تعاني من بلاءات الدنيا، في نفس الوقت
تخسر الراحة مع الله تعالى؛
عظّم "الخالق" في نفسك، وعندها لن يقف شيء
– داخلها – في وجهه عز وجل، وأنى يكون ذلك؛
ولا قوة إلا بالله.
(يتبع)