بحوث
"الأمة المسلمة" في دعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)
الحلقة
25 / الذرية الأمة المسلمة – آيتا التّصدّق عند النّجوى (تسجيل 33 من 35)
رابط يوتيوب: https://youtu.be/iVtRXnI2vPg
من آيات الأمة
المسلمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل آيتا التصدق عند النجوى.
يقول تعالى في سورة
المجادلة الآية 12 ثم
الآية 13 (لأن هناك تفريقاً):
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ
الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . أَأَشْفَقْتُمْ
أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا
وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ المجادلة:12-13.
الحادثة في الآيتين
هاتان الآيتان عجيبتان!
فإن أولاهما تخبر بنزول أمر تشريعي أن الصحابي (حيث نزلت في الصحابة ثم
رفعت فلم تمتد إلى ما بعد العصر النبوي) إذا أراد أن يتكلم مع النبي على انفراد فإن عليه أن يقدم
صدقة (طبعاً هذه كانت واحدة من الطرق في نزول تلك الآية للمساعدة على الصدقة، والنبي لا يأخذها، إنما هي لأهل الصُّفّة
والمعدمين من المسلمين)...
ثم تأتي الآية
الثانية فتخبر وتقول أن الأمر رُفع، والسبب لأن هناك فشلاً، الفشل في تقديم
الصدقة عند المناجاة!
توقفوا عن سؤال النبي، وليس لعدم قدرتهم، بدليل أنه
يقول ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا﴾ أأشفقتم على أنفسكم
من أن تخسروا المال من هذا الفعل الذي وكأنه حِمل ثقيل عليكم؟! أيضاً بدليل أن
الآية الأولى التي توجب تقديم الصدقة قالت: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ﴾، ما يعني أنها فقط
للمقتدرين مالياً (ولو بشيء بسيط، فينبغي القول أنها لغير المعدمين)، فالذي لا يجد
لا عتاب عليه فيما لو لم ينفق – المقتدرون فقط يعاتبون،
وهؤلاء المقتدرون كان عندهم ولكنهم بخلوا.
والعجيب أن الآية
الأولى تحضهم حضاً شديداً ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ﴾ خيرٌ وأطهر، مع ذلك
لم يستجيبوا!
كيف نجد البيان في
السيرة، نجده في العجب من أن هذه الآية الثانية تقول أنهم فشلوا؛ فهل فشلوا
جميعاً؟
كلا. نجد أن
الروايات التفسيرية تقول أن الذي عمل بهذه الآية كان واحداً فرداً وهو علي بن أبي
طالب.. فقد أورد ابن جرير صاحب التفسير رواية عن علي أنه ((في كتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ آيةٌ ما عَمِلَ بها أحدٌ قَبلي
ولا يعملُ بها أحدٌ بَعدي)) ثم تلا الآية، قال: ((فُرِضَت ثم نُسِخَت))
يعني نُسِخ وجوبها.
علي يقول: ((ما عَمِلَ بها أحدٌ قَبلي ولا يعملُ بها أحدٌ بَعدي))،
وذلك أن المفسرين قالوا أن الآية الأولى بقي حكمها أسبوع أو عشرة أيام أو تسعة أو
ثمانية أيام لا أكثر، وذكرها الزمخشري في تفسير الكشاف أيضاً في حديث علي: ((كانَ لي دينارٌ فصَرَفْتُهُ فكُنتُ إذا ناجَيتُهُ (أي
النبي) تَصدَّقتُ بدِرهَم)).
كما ذكر الزمخشري
تأكيد ابن عمر عندما ذكر ثلاثة لعلي، أن هذه الثلاثة تكفي في منزلته الفريدة، الثلاثة التي ذكرها:
تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.
هذه القضية ذكرتها
عدة مصادر دليلاً على أنه تفرّد بها. وذكرها الواحدي (وهذا عنده كتاب مهم جداً
"أسبابُ النُّزول") أن علياً استمر على هذا الحال حتى نفد الدينار، انتهى
عنده، فنسخت الآية ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا﴾ يعني أشفقتم إلا علي.
محاولات رفع التهمة
الآن، هل هناك من
اعترض على هذا؟ لم يعترضوا ولكنهم حاولوا رفع التهمة عن هذا الفشل العجيب الملفت
للنظر من الصحابة المقتدرين وليس الجميع؛ فماذا فعلوا؟ نذكر واحدة مما قالوه ولكم
الحكم عليها وعلى غيرها:
قالوا أن الآية تؤلم
قلب الفقير الذي لا يجد فبالتالي سيكون صعباً عليه، فالله تعالى رفع الحكم! فلكم أن
تنظروا إلى عدم تحرّجهم من أن يوصلوا التهمة حتى إلى الله تعالى، كما اتهموا
رسول الله حتى يدفعوها عن صحابي؟! أو يتهمون صحابياً
أقل عندهم من أجل الثلاثة الأربعة الخمسة من الكبار، هنا وصلت التهمة إلى الله
سبحانه وتعالى! أولاً الله تعالى يقول ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ﴾، الله تعالى لم
يطلب من الذي لم يكن عنده، أصلاً لم يطلب من المقتدرين بالطلب الوجوبي، لم يقل
يجب أن تذهبوا وتتصدقوا إذا ناجيتم فقدموا صدقة والذي لا يستطيع يرفع الله عنه
ذلك.
أما في أن الله تعالى
كان جاهلاً بأن هذه الآية سوف تؤلم قلب الفقير على فرض أنها تؤلم، هي لا تؤلم لأنه
لم يوجبها عليهم، الآية تؤلم قلب الفقير؟ وبعد أسبوع أو عشرة أيام تنبه الله
تعالى إلى ذلك؟!
إنه لمن المعيب جداً (إن
لم نقل من شعب النفاق) أن يصل الأمر إلى هذا الحد – من أجل رفع التهمة
عن اثنين أو أكثر مهما بلغوا ولو كانوا ما كانوا.. نحن لا نقبل أن يتهم الله تعالى
لأجل رسول الله، فهل يُعقل هذا؟
الآيتان الكريمتان وآيات الأمة المسلمة
الآن إذا أردنا أن
نربط هاتين الآيتين المباركتين مع آيات الأمة المسلمة، فربما لا يبدو أن هناك ربطاً مباشراً، ولكنه في
الحقيقة من أجمل ما يمكن... وفي القرآن كثير من هذا.
نحن
هنا نسأل: لو قلنا أن في المدينة كان هناك ألف صحابي (وقد كانوا أكثر بعدة أضعاف)،
وأن المقتدرين منهم كانوا 10%، أي مائة منهم يستطيعون تقديم الصدقة – وجدنا أن علياً كان يقدم درهماً درهماً من الدينار حتى نفد، فما كان عنده الكثير
أصلاً. من هؤلاء المائة يأتي مرة يضع درهماً أو نصف الدرهم، من هؤلاء المائة فقط
جاء علي، تسعة وتسعون صحابياً لم يعملوا بها طيلة هذه الأيام؟! توقفت
أسئلتهم وحاجاتهم؟! لم يكونوا محتاجين لمعرفة مسألة شرعية كيف يحكم الإسلام بها؟!
طيب، لو فرضنا أن هذا
حصل فعلاً، أما كان التشجيع الإلهي ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ﴾ كافياً لدفعهم
إلى المبادرة بمناجاة النبي؟ أين هم الميسورون من
الصحابة؟ بل أين الذين كانوا يحفرون الآبار ويجهزون الجيوش ويعتقون العبيد من
الذين سمعنا عنهم مراراً؟! هل هذا الإحجام عن دفع صدقة بسيطة وأنت في لذيذ
المناجاة مع رسول الله هل هذا يتوافق مع من قالوا
أنهم يعتقون العبيد وأنهم فعلوا ما فعلوا؟! لكم الحكم.
السؤال
الثاني: بما أن الله تعالى، بما هو بالقطع واليقين من عقيدة المسلم، أنه يعلم ما
سيكون فإنه يعلم أنه سينزل الآية رقم 12 التي توجب دفع الصدقة عند المناجاة ويعلم أنه بعد
بضعة أيام سيرفع هذا الحكم لأنه يعلم أنهم لن يدفعوا – فلماذا أنزلها؟ إذاً،
لم تكن الغاية من إنزال تلك الآية هو لجمع الصدقات من أجل أن يتقوى بها النبي على مساعدة المعدمين من المسلمين،
لأن أي خطة اقتصادية لا تستمر أكثر من أسبوع أو عشرة أيام لا تنفع شيئاً. أفلا
نقول، بالتالي، أن الهدف الوحيد من هاتين الآيتين هو لإبراز علي عن الصحابة جميعاً لاسيما المقتدرين الكبار؟
السؤال
الثالث: وهو مهم قوله تعالى في الآية الثانية، بعد أن يدين موقفهم ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾، فيقول ﴿فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ –ألا يحق لنا أن نسأل،
أن نضع احتمالاً، أن المقصود بهذا هو طاعة الله ورسوله في شأن ذلك العبد المتفرّد
الذي نجح وحده من بين المقتدرين على العمل بهذه الآية التي أوجبت تقديم الصدقة؟ ألا
يحق لنا أن نقول أن الأمر بطاعة الله ورسوله إذاً بشأن هذا عندما يزكيه لهم
أنه هو الإمام وواجب الطاعة وعليهم الخضوع؟
وإلا ما معنى ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾؟ هو يتحدث مع الصحابة، ﴿أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ﴾ هذه قضايا بديهيات، قوموا بذلك وأطيعوا الله، يعني يفترض أن يطيعوا الله
ورسوله إن كانوا مؤمنين حقاً،فإذاً
هم يطيعون الله ورسوله في كذا وكذا وكذا؛
إذاً لا بد أن التركيز هنا على قضية معينة، الأمر بالطاعة، خصوصاً بالتحذير المبطن
في آخرها بعد الأمر بالطاعة ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ – ألا يحق لنا أن
نتساءل، هل هذا هو احتمال معتد به على الأقل إن لم يكن هو الوحيد؟
هذا التفرّد العلوي
ينبئك بحال الأمة المسلمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل مقارنةً بغيرهم، وينبئك
بنوعية إسلامهم حيث أن هذه الأمة تبادر، على الرغم من ضعف ظروفها المالية كما كان حال علي، تبادر إلى طاعة الله ورسوله، بينما يحجم الآخرون.
هذه هي نوعية إسلام
هذه الأمة المسلمة، هذه النوعية التي كما قلنا مراراً في هذه البحوث،
هي هذه النوعية على هذا المستوى من الإسلام الذي طلبه إبراهيم وإسماعيل إذا قالا ﴿ربّنا واجعَلْنا مُسلمَينِ لَك﴾ البقرة:128، وهما في القمة أصلاً
من الإسلام، أرادا النوعية الأعلى في الإسلام التي طلباها بعد ذلك مباشرة في
دعائهما للذرية المسلمة.