ما يبنيه الدين لا تهدمه الدنيا 4
هذا البناء الذي فرعه في
السماء لا تهدمه دنيا المنصور!
بالرغم من علم أبي جعفر المنصور العباسي
بعلم الإمام الصادق (عليه السلام)، ليس فقط في الفقه، ولكن في علوم أخرى لا يعرفها
الآخرون، كعلم "الجفر" الذي كان منه ما أخبره هو به قبل سقوط الأمويين
بسنوات أن الملك سيكون لأبي العباس السفاح ثم "لذي القباء الأصفر" ثم
"لولده من بعده"، وكان المنصور يلبس قباء أصفر، فلحقه بعد الاجتماع
وسأله فأخبره (عليه السلام) أنه من كتاب "الجفر" للإمام علي (عليه
السلام).
بالرغم من هذا، أو ربما لأجل هذا، فإنه
عندما جاءه الملك صار أشد ما يخشى منه هو الإمام (عليه السلام) لأنه يعلم أنه يمكن
أن يأسر القلوب في لحظة، ناهيك عن علمه وصلته بالنبي (صلى الله عليه وآله) – فكان
يتشكى بالقول "هذا الشجى المعترض في حلوق الخلفاء"!
لهذا حاول إسقاطه بعدة طرق، حتى القتل،
نذكر منها اثنتين:
(الأولى) إسقاطه علمياً أمام الناس
وهذه استخدم فيها الإمام أبا حنيفة النعمان
(رحمه الله)
قال أبو حنيفة: "ما رأيت أفقه من
جعفر بن محمد الصادق، لما أقدمه المنصور بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة، إن الناس قد
فتنوا بجعفر بن محمد فهييء له من المسائل الشداد، فهيأت له أربعين مسألة.
ثم بعث إليّ أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته، فدخلت
عليه، وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما بصرت به، دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد
الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور، فسلمت عليه، وأومأ إليّ فجلست ثم التفت
إليه فقال: يا أبا عبد الله، هذا أبو حنيفة.
قال جعفر: نعم، قد أتانا، كأنه كره
ما يقول فيه قومه أنه إذا رأى الرجل عرفه، ثم التفت المنصور إليّ فقال: يا أبا
حنيفة ألق على أبي عبد الله مسائلك، فجعلت أُلقي فيُجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا
وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا، فربما تابعنا وربما تابعهم وربما خالفنا
جميعاً حتى أتيت على الأربعين مسألة، ...
ثم قال أبو حنيفة: ألسنا روينا أن
أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟!"
(الثانية) ضرب أتباعه المؤتمين
بإمامته
وهذه استخدم فيها الإمام مالك بن أنس (رحمه الله)
فقد قال له أبو جعفر المنصور وهو بمكة: "إجعل
العلم يا أبا عبد الله علماً واحداً.
قال مالك فقلت له: يا أميرالمؤمنين إن أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله تفرقوا في البلاد فأفتى كل في مصره بما
رآه إن لأهل هذه البلاد قولاً ولأهل المدينة قولا ولأهل العراق قولاً تعدوا فيه
طورهم!
فقال أما أهل العراق فلست أقبل منهم صرفاً ولا
عدلاً! وإنما العلم علم أهل المدينة فضع للناس العلم".
وفي رواية يقول مالك: "فقلت له إن أهل
العراق لا يرضون علمنا.
فقال أبو جعفر: يضرب عليه عامتهم بالسيف وتقطع
عليه ظهورهم بالسياط!"
وفي رواية أخرى، قال مالك: "أصلح الله الأمير،
إن أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرون في عملهم رأينا.
فقال أبو جعفر: يُحمَلون عليه، ونضرب عليه
هاماتهم بالسيف، ونقطع طيَّ ظهورهم بالسِّياط، فتعجل بذلك وضعها!"
فما الذي حصل؟
فشل المنصور، وغيره من بعده وإلى اليوم، في طمس
علم الصادق (عليه السلام)، فقد انتشر في الآفاق كلها حتى صار مترسخاً، وكيف لا
وأصله من تلك الشجرة الطيبة التي ((أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل
حين بإذن ربها)).
ولو لاحظت حال أهل العراق منذ عصر المنصور وحتى
اليوم لوجدتهم بين شيعي متبع لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) وحنفي وشافعي، ولم
يتبع مذهب مالك بن أنس – الذي أراد المنصور فرضه على العراقيين بحيث "نقطع طي
ظهورهم بالسياط" – إلا عشيرة واحدة هي آل السعدون الكرام الذين كانوا حكام
الناصرية وذلك للعلاقة الممتدة بالمدينة المنورة.
فتأمل ذلك لتعلم صدق قول عامر بن عبد الله بن
الزبير:
"ما يبنيه الدين لا تهدمه الدنيا".
يلخص عبد الحليم الجندي (كتابه
"الإمام الصادق") العلاقة العلمية بين الإمام (عليه السلام) ورؤساء
المذاهب بقوله:
"ولئن كان مجداً لمالك أن
يكون أكبر أشياخ الشافعي، أو مجداً للشافعي أن يكون أكبر أساتذة ابن حنبل، أو
مجداً للتلميذين أن يتلمذا لشيخيهما هذين، إن التلمذة للإمام الصادق قد سربلت
بالمجد فقه المذاهب الأربعة لأهل السنة، أما الإمام الصادق فمجده لا يقبل الزيادة
أو النقصان. فالإمام مبلغ للناس
كافة، علم جده عليه الصلاة والسلام. والإمامة مرتبته وتلمذة أئمة السنة له تشرف
منهم لمقاربة صاحب المرتبة".
الإمامة الجامعة
هنا، أحب أن ألفت إلى قضية مهمة جداً:
بينما نجد رؤساء المذاهب الأربعة وغيرهم، وشيوخهم
وتلامذتهم، يختصون بعلم واحد كأبي حنيفة الذي كان فقيهاً وحسب أو الأشعري الذي كان
متخصصاً بالعقائد، أو علمين كأحمد بن حنبل الذي كان فقيهاً ومحدثاً، فإن الأئمة من
آل محمد (صلى الله عليه وآله) كل واحد منهم هو العلم في جميع المعارف الإسلامية.
أي أن إمامتهم (عليهم السلام) إمامة جامعة، وهذا
ليس غريباً لأنه من صلب وظيفتهم في قيادة الأمة وولاية أمرها، وإلا كيف يأمرنا
الله بطاعة ((أولي الأمر منكم)) بالإطلاق دون تفصيل موارد الطاعة إن لم تكن شاملة
لجميع ما تحتاجه الأمة؟
والحمد لله رب العالمين.