عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم
4 من 8
***
من خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه
السلام)،
في "وصف المتقين"، وهي الخطبة رقم 193 من
كتاب "نهج البلاغة"،
التي أوردتها في منشور قبل يومين،
قال (عليه السلام):
(( الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْهُ
مَأْمُونٌ ))
***
المعنى الإجمالي:
من أين يأتي الخير؟ ومن أين يأتي الشر؟
الأول من الله وتحرك النفس ضمن "نجد
الخير"، والثاني من الشيطان وهوى النفس التي تتحرك ضمن "نجد الشر"؛
وبما أن هذين النجدين متاحان أمامه في حرية لاختياره
((وهديناه النجدين)) البلد:10،
فإن "الموصوف بالتقوى" قرر السير ضمن
"نجد الخير" وعدم السقوط ضمن "نجد الشر"؛
النتيجة: الآخرون يتوقعون منه كل خير، وهم في أمان من
أن يأتيهم الشر من جهته.
***
كيف نستطيع الاتصاف بذلك؟
كيف نستطيع دفع إنفسنا باتجاه الخير على الدوام، وكبح
جماح أهوائها باتجاه الشرور التي تؤذينا والآخرين؟
مرة أخرى، الجواب في تلك الجملة العبقرية:
(( عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا
دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ )).
كلما ازداد الحجم الذي يشغله " الخالق" في داخلك كلما صغر الحجم المتبقي
لـ"الدنيا"؛
فهؤلاء المتقون شغل " الخالق" في
"أنفسهم" نسبة "عظيمة" فطغى على ذواتهم حتى صارت
"أعينهم" لا ترى "ما دونه" إلا "صغيراً"؛
وبما أن "دوافع" الشر إنما تدور حول الدنيا
والمنافسة فيها، وهذا كله في "الخارج" الذي تراه "أعينهم" صغيراً، فإن قوة
"دوافع" الشر ستصغر معه.
على العكس من ذلك – "دوافع" الخير، تجمع
بين الدنيا والآخرة:
أما الدنيا، فلأن عمل الخير يريح الإنسان ويرضيه عن
نفسه وهذا جميل مفيد،
كما أنه ربما يأتي للإنسان بالنفع الدنيوي أيضاً؛
وأما الآخرة، فأعظم وأعظم، لأن الذي وعد بالأجرة على
عمل الخير في الدنيا هو الله الذي لا يخلف الميعاد، لأنه لا يملك أحد منعه من
تحقيق الميعاد.
ولكن بما أن نفع الدنيا غير مضمون، وأن نفع الآخرة هو
المضمون،
فإن "الموصوف بالتقوى" سيقول: ما قيمة هذا كله
إلى ثواب الآخرة الذي لا يأتي عن طريق الشر، ولكن عن طريق الخير؟
وما قيمة هذا المحدود قصير الأجل إلى ذلك الخالد
الأكبر ((وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً)) الإسراء:21.
***
فهذا هو الحل:
أن "نعظّم الخالق في أنفسنا"، ونزيد من ذلك
ما استطعنا،
عندها سيصغر ما دونه تلقائياً،
وفي ذلك الراحة والرضا في الدنيا والسعادة في الآخرة.
***
علاج عملي مؤقت وسريع:
عندما تجد نفسك أمام فرصة "عمل خير" حاول
أن تتصورها بحجم الدنيا + ثوابها متحقق آنياً؛
مثلاً، جاءك إيميل أو إعلان على فيسبوك أو غيره يدعوك
إلى التبرع للأيتام،
أغمض عينيك وتخيل أنك تمشي في حديقة خضراء تحيطها
الزهور الملونة الجميلة،
حاول أن تشم عبق ما يخرج من هذه الأزهار،
وما أن مددت يدك في جيبك وأخرجت المال ثم أطلقته في
سبيل الخير،
إلا والعديد من الأيتام الصغار يحيطون بك بكل محبة،
يضحكون، يلعبون،
يمسكون بيديك ليأخذوك إلى جنة الله تعالى.
وهكذا بما يشبهها من فرص.
وأما في حالة الشر، عندما تجد نفسك تشجعك على عمل
وأنت تعلم أنه من "الشر"،
وأكثر هذا مما يدركه الإنسان لأن ((الإنسان على نفسه
بصيرة . ولو ألقى معاذيره)) القيامة:14-15،
فتخيل الأمر معكوساً، في أي مكان قذر كريه الرائحة،
مخيف ربما،
ومن يوسوس لك بالعمل أقبح ما يكون،
ثم انظر إلى أين يذهب بك؟
(فائدة صحية: بشكل مشابه، مثلاً منعك الطبيب، أو أنت
تريد الامتناع عن تناول طعام أو شراب ما، تخيله أمامك والديدان والحشرات تخرج منه،
كريه المنظر والرائحة، وما أن قضمت منه لقمة أو احتسيت منه شيئاً إلا ودخلت هذه
المخلوقات في فمك، وعندها ستشعر بالغثيان منها – إن شاء الله!)
***
لكن لا تنس العلاج الدائم:
هذا العلاج العملي، وأشباهه، مؤقت ريثما تنجح في
زيادة الحيز الذي في داخلك لـ "الخالق" تعالى،
تنجزه في زيادة الذكر، أي التفكر ومحاربة الغفلة،
وتنجزه في الصلاة وتقوية الانتباه فيها،
وتنجزه في سائر القربات، لا سيما في فرص العطاء،
التي يقول عنها النبي (ص): ((من فتح له باب من الخير فلينتهز، فإنّه لا يدري متى يغلق عنه))؛
وإلا ستبقى تجد الصعوبة في الإسراع إلى عمل الخير،
والصعوبة في تفويت الفرصة على الشيطان والنفس الأمارة بالسوء في القيام بما يريدان؛
عظّم "الخالق" في نفسك، وعندها لن يقف شيء
– داخلها – في وجهه عز وجل، وأنى يكون ذلك؛
ولا قوة إلا بالله.
(يتبع)