عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم
8 من 8
***
من خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه
السلام)،
في "وصف المتقين"، وهي الخطبة رقم 193 من
كتاب "نهج البلاغة"،
التي أوردتها في منشور قبل ستة أيام،
قال (عليه السلام):
(( يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ
عَلَيْهِ ))
***
المعنى الإجمالي:
سبحان الله، ما أعز هذه الصفة!
البعض تضع له الحق في أذنه اليسرى، فيزوغ منك، فتذهب
إلى اليمنى فتملأها منه، فيهز رأسه صداعاً! وطبعاً، "المصدّع" يخرج منه
أي شيء ما عدا "يعترف بالحق"!
وإلا لماذا يهرب من الأسئلة المحرجة لولا أنه يجدها
من الحق؟
هذا من جاءه الحق وأُشهِد عليه، وفشل...
أما "المتقون" فإنهم لا ينتظرون حتى يُشهَدون
على الحق، ولكن يبادرون إلى ذلك،
فيعلنون أن هذا الكلام هو "حق" حتى قبل أن
يطلب منهم رأيهم أو موقفهم هذا.
***
لماذا طعم "الحق" مرٌّ على الكثيرين؟
نفس "العركة" على الدنيا، في مالها
ومناصبها وعلاقاتها الأسرية والاجتماعية والحزبية؛
هذه "الدنيويات" أعظم من الخالق،
فانقلبت المعادلة، وصارت: "صغر الخالق في أنفسهم
فعظم ما دونه في أعينهم"!
أمثلة من واقعنا:
- قرآن وسنة
/ البعض يقولون لا حاجة لنا إلى السنة النبوية فالقرآن يكفي "حسبنا كتاب
الله"، فنسألهم عن قوله تعالى ((وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى
الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً)) النساء:61 وكيف أنه فرّق بـ "واو
العطف" بين "ما أنزل الله" وهو القرآن قطعاً و "الرسول"
فلا بد أن يكون السنة، ونحذرهم من التهديد الرهيب آخر الآية... الجواب: سكوت! عدم الاعتراف
بالحق حتى بعد الإشهاد!
- مشكلة علي
(ع) / نسأل الإخوة عن قول النبي (ص) لعلي (ع) ((أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا
أنه لا نبي بعدي)) الذي رواه البخاري، نقول: أنتم تصرون أن جميع أحاديث البخاري
صحيحة وأنه يجب العمل بها، وهذا هارون (ع) هو ثاني أمة موسى (ع)، فهل من عنده شيء
من العقل، حتى البليد، يفهم من هذا غير أن علياً (ع) هو ثاني الأمة المحمدية بعد
نبيها (ص)، وعندها فهو أفضل من الجميع؟ الجواب: سكوت! عدم الاعتراف بالحق حتى بعد
الإشهاد!
- أحداث
الحاضر / في أسبوع واحد من شهر شباط/فبراير 2011 تنهض 3 شعوب عربية ضد أنظمتها
الحاكمة، البحرين يوم 14 وليبيا يوم 17 واليمن يوم 20، وإذا بالتعامل العربي، من
الشعوب وليس فقط الحكومات، الطلب من الغربيين قصف ليبيا لإنقاذ الشعب الليبي وفي
نفس الوقت السكوت الراضي قطعاً عن الغزو السعودي للبحرين لإخضاع الشعب البحريني!
نسألهم: أليس هذا الكيل بمكيالين عند الغرب الذي تصرخون منه؟ ما السبب في هذه
المفارقة المخزية غير المشاعر الطائفية؟ الجواب: سكوت! عدم الاعتراف بالحق حتى بعد
الإشهاد!
هذه
الأمثلة، ومثلها الكثير جداً، تعني أن الشخص الساكت قد ألزمته الحجة واقتنع بالحق
ولكنه يعاند ويعاند؛
وعليه،
فإن الحق عصيّ على نفسه؟
لماذا؟
لأن الحق
صغير في النفس والباطل كبير فيها؛
"الخالق"
صغير في النفس، و "ما دونه" كبير فيها.
***
كيف يصبح طعم "الحق" حلواً
لماذا لا ينتظر المتقون الإشهاد، بل يبادرون إلى الاعتراف
بالحق؟
لأن "عظم الخالق" في أنفسهم جعلهم
"أنصاراً للحق"، وهل الخالق إلا الحق ((ذلك بأن الله هو الحق وأنه الله
هو العلي الكبير))...
كأن هذه العلاقة الصحيحة بينهم وبين الخالق تعالى
تدفعهم تلقائياً للاعتراف بالحق:
يقيمون الشهادة لله + يكثرون من أنصار الحق + ينشرون
الحق.
هذه الصفة الكبيرة فيهم
((عَظُمَ الخَالِقُ فِي أنفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا
دُونَهُ فِي أَعيُنِهِمْ))
جعلتهم ينطقون بالحق وكأنهم يتذوقون عسلاً مصفّى.
ولا نهاية لهذه العلاقة مع الحق، فكل منا يمكن أن
يتصاعد فيها ونصب عينيه وصف النبي (ص) لعلي (ع):
((عليٌّ مع الحقّ، والحقُّ مع عليٍّ، يدور معه كيف
دار))،
فلو حققنا جزءاً من هذا الاندكاك العلوي بالحق، فقد
سعدنا وفزنا.
***
هذا هو الحل:
أن "نعظّم الخالق في أنفسنا"، ونزيد من ذلك
ما استطعنا،
عندها سيصغر ما دونه تلقائياً.
نعم، ربما سيكون هناك صعوبات وآلام ومشاكل،
ولكنها "الخالق" سيعين عليها، وسيجعل طعمها
حلو المذاق في الدنيا يأتي بالرضوان في الآخرة.
***
تذكر قوله تعالى:
((قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبنَاؤُكُمْ
وَإِخوَانُكُمْ وَأَزوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَموَالٌ اقتَرَفتُمُوهَا
وَتِجَارَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيكُم مِّنَ
اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتِيَ اللهُ
بِأَمرِهِ وَاللهُ لا يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ)) التوبة:24
أليست هذه "الدنيويات"
هي التي تعيقك عن "الاعتراف" بالحق؟
قل لنفسك:
"إذا كان المتقون
"يعترفون" بالحق بالمبادرة، فعلى الأقل دعني أبدأ بالاعتراف بالحق
"بعد" الإشهاد عليه؟
وأسأل الله تعالى أن
يعينني على أن أصبح مبادراً للاعتراف بالحق،
عسى أن أكتب في
المتقين".
هذا وأشباهه يجعلك تنجح في زيادة الحيز الذي في داخلك
لـ "الخالق" تعالى،
تزيده في زيادة الذكر، أي التفكر ومحاربة الغفلة،
وفي سائر القربات ؛
عظّم "الخالق" في نفسك، وعندها لن يقف شيء
– داخلها – في وجهه عز وجل، وأنى يكون ذلك؛
ولا قوة إلا بالله.
(إنتهى والحمد لله رب
العالمين)