فاستمع لما يوحى 1-3 إنما أعظكم بواحدة
﴿قُلْ إِنَّما أَعِظُكُم بواحِدَة : أَنْ تَـقُومُوا للهِ مَـثــْنى وَفُرادى ثُمَّ تَـتَفَكَّرُوا﴾ سورة سبأ:46
تعتبر كلمة "إنَّما" من أقوى أدوات الحَصر في اللغة العربية، فهي تعلن أن القائل لا يريد شيئاً غير ما سيأتي بعدها، أو – وهذا هو الاستخدام الأعم – أن الأمر الذي يأتي بعدها من الأهمية بمكان بحيث كأنه لا يريد غيره فاستخدمها للإيحاء بذلك.
وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم بما يدل على هذا الاستخدام، منها قوله تعالى: ﴿إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً﴾ الأحزاب:33، فكأنه تعالى لا يريد غير إذهاب الرجس عن أهل البيت(ع) وتطهيرهم – مع أنه تعالى قطعاً يريد غير ذلك أيضاً؛ أو قوله: ﴿إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد﴾ الرعد:7، والتي تقصر مهمة النبي(ص) على الإنذار وتوحي بأن مهمة الهداية غير موكولة إليه، مع أنه(ص) كان هادياً أيضاً، لذلك فسرها بأنه هو(ص) المنذر وأن علياً(ع) هو الهادي ولكن ((بك يا علي يهتدي المهتدون بعدي)). إذاً، تريد كل من الآيتين التنبيه إلى أهمية القضية الواردة بعد "إنما".
أما آيتنا هذه ﴿قل إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا﴾ فإنها تأمر النبي(ص) بأن يقول لهم أنه لا يريد – في ذلك المقام – منهم أن يقوموا إلا بشيء واحد، وهو عملية التفكر بواحد من شكلين: التفكر الفردي الذي يقوم بها الشخص لوحده، والتفكر الثنائي الذي يقوم بها مع شخص آخر.
السؤال هو: لماذا هكذا؟ لماذا ليس ثلاثة أو أكثر؟
يبدو أن طبيعة الناس تجعل من القيام بعملية التفكر في جماعة – حتى وإن لم يزيدوا عن ثلاثة – تتعرض للمشاكل النفسية التي تضغط على الإنسان. أولها حب الظهور والرغبة في الانتصار والذي يمكن أن يتصاعد بوجود شخص ثالث يشاهد السجال بين الشخص والثاني. ثانيها على العكس، وهو المجاملة من أجل عدم إغضاب الآخر أمام شخص ثالث، أو عدم إغضاب الشخص الثالث، بسبب رأي يعرف أو يتوقع المتفكر أنه يسبب مشكلة، رغبة في عدم خسارة الآخر (لأن الكثيرين من الناس لا يستطيعون المزج بين الاختلاف مع الآخر ودوام الصداقة معه). الثالث، هو قيام نواة العقل الجمعي عند اجتماع ثلاثة فما فوق، حيث تبدأ قدرات البعض في القيادة، وربما فرض الرأي، وحتى التسلط، في الفعل، ما يضرب عملية التفكر في الصميم، الأمر الذي نعرفه في التظاهرات حيث ترتفع شعارات، أي شعارات، فيقوم الجميع بترديدها دون تفكير.
لذا، فإن الحق تبارك وتعالى أراد أن يخلصنا من نقاط الضعف هذه – وربما غيرها – عن طريق الجلوس بهدوء للتفكر بشكل منفرد، أو الجلوس مع صديق مأمون، له أن ينفع عملية التفكر ويغنيها، في سجال عقلاني يبتعد عن الذاتية والعواطف والتشنج. ولا تنس أن الإنسان مهما بلغ من قوة النظر في الحجج العقلية والمقابلة والتقييم والتحليل فإنه لا يمكن أن يحيط بكل الأفكار والآراء والإمكانيات والتفريعات، لذا فإن الشخص الثاني سيكون معيناً على فتح أبواب أخرى، كما سيكون معيناً على مناقشة آراء الأول وأفكاره ومسائله.
ولكن ثلاثة أو أربعة أو عشرة أو مائة سيأتون بأفكار أخرى وقدرات أخرى؟ صحيح، ولكن مع المشاكل النفسية التي أشرت إليها.
وعليه فإن الآية تجمع ما بين الاستفادة من الآخرين ومنع نقاط الضعف النفسية من هدم أساس التفكر.
إن هذه آية من أعظم آيات الكتاب المبين في الحث على التفكر أولاً، وفي التوجيه نحو أفضل سبل التفكر ثانياً.
أخيراً، يبدو أن هذا الأمر مما سيجد البعض فيه صعوبة، أن في القبول أو في التطبيق، بحيث أن المولى عز وجل بدأه بكلمة "قُل" التي تنبههم إلى أن الموعظة هي من الله تعالى لا من النبي(ص)، لأن البعض ربما كان لا يجد طاعة النبي(ص) ملزمة (على الرغم من بديهيتها لأي مسلم). واستخدام كلمة "قُل" كثير في القرآن وله دلالاته المهمة.