كيف نتدبر القرآن
السبت 1/6/2013
الفارق بين التدبر والتفسير والتأويل والبيان
التفسير هو أن يكون في الكلام لبس وخفاء، فيؤتى بما يزيله. فالتفسير هو البيان والكشف
القرآن لم يأت بلفظ "تفسير"، إلا في موضع واحد فقط:
"وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا" (الفرقان/، 33)
أما التأويل: فهو الرجوع إلى الأصل (الأول)، هو رد الشيء إلى الغاية الواردة منه:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" (النساء/59) .......... هنا "العلم من الله والرسول هو أحسن تأويلاً"
"وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً۬" (الاسراء/35). هنا، عملية الكيل دون بخس والوزن بالعدل "أحسن تأويلا".
وقالوا: التفسير والتأويل بمعنى واحد. والتأويل: تفسير/توضيح ما يؤدى إليه الشيء،
المهم هو أن التأويل هو الوصول إلى الهدف من التنزيل، وهذا ليس متاحاً لكل أحد:
"هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ" (3آل عمران/7)،
ثم هناك "بيان الآيات":
"بيان الله للقرآن" كما ورد في الآيات: "ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" (75القيامة/19)،
بيان النبي محمد (ص)
"وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (16النحل/44)
ولام "لتبين" لام التعليل، أي أن الهدف من التنزيل هو البيان.
بل كأن التنزيل ما كان إلا لغرض تبيان الأمر في الاختلاف:
"وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (16النحل/64)
ثم هناك آية فيها شيء من الدقة:
و"وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (16النحل/89)،
ربما يفهم البعض أن قوله تعالى "تبياناً لكل شيء" أن القرآن فيه كل شيء؛
ولكن الآية تقول "نزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء"، إذاً فإن "الإنزال عليه (ص)" هو تبيان لكل شيء، وهذا أقرب لجهة فهم أنه:
(1) لا يمكن أن يكون معنى "كل شيء" حرفياً لأن القرآن محدود الحجم
(2) لأن القرآن نفسه أرجعنا إلى النبي (ص) كما في الآيات الفائتة
"وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"
"وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"
فحتى لو كان المعنى أن "الكتاب فيه كل شيء" فإن هذا بمعنى وجود الأطر العامة التي وضعها، ومنها:
مرجعية الله تعالى من خلال القرآن في الآية الصريحة / وهذا هو دليل الكتاب
مرجعية النبي (ص) من خلال بيانه (ص) / وهذا هو دليل السنة
مرجعية أولي الأمر / وهذا هو دليل الكتاب والسنة معاً، لأن "أولي الأمر" استلموا الكتاب كما استلمناه نحن لأنه محفوظ + استلموا السنة دون خطأ
وهنا تأتي الآيات التي تقول بذلك:
((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)) النحل:43
((ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)) النساء:83
ومن هنا علمنا أن "أولي الأمر" الذين أمرنا بطاعتهم في الآية المتقدمة ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ))...
وإلا، فعلى قول أن "أولي الأمر هم حكام المسلمين" تصبح مهزلة – تصوروا حكام المسلمين يستنبطونه!
التدبّر
أما التدبر فهو للجميع:
+ قال تعالى: ((كتاب أنزلناه إليك مبارك، ليدبروا آياته، وليتذكر أولو الألباب)) ص الآية 29.
لام التعليل في "ليدبروا" تعني أن الهدف من التنزيل، أو بعض أهدافه، هو التدبر.
بل إن التدبر أمر حث عليه القرآن حثاً شديداً، حتى قرّع الذين لا يقومون بذلك ((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)) محمد:24
فما معنى التدبر؟
التدبّر مشتق من د ب ر، ومنه الإدبار، ودبر الشيء، كما في قوله تعالى:
((... وقدّت قميصه من دبر ...)) يوسف
(( ... فلا تولوهم الأدبار ... ومن يولهم يومئذ دبره إلا .....))
فهذا يعني أن "التدبّر" الذي تحث عليه الآيات هو التوصل إلى ما ينتهي إليه الشيء بحيث كأنك ترى نهايته... وهذا يعني أن القرآن يحثنا على أن نحاول تلمس ما تريده الآيات، حتى ولو لم نكن سنقطع بالمعنى...
ثمرة التدبر:
هذا الحث ا لشديد من أجل تحقيق أهداف متعددة:
(1) ربط قارئ القرآن بالله تعالى – قول محمد إقبال لابنه "إقرأ القرآن كأنه أنزل عليك"
(2) ربط المسلم قارئ القرآن بالمصدر الأول للدين بشكل إجمالي
(3) ربط قارئ القرآن بجميع المعارف بشكل تفصيلي
(4) تقوية الإيمان من خلال: الإعجاز الفريد للقرآن، بمعنى أن هناك أكثر من جانب إعجازي في وقت واحد، وهذا عسير جداً على غيره، حتى ما نجده في حديث النبي (ص) أو نهج البلاغة أو الصحيفة أو غيرها... إعجاز لغوي، علمي، تشريعي، تاريخي، نفسي الخ.
كيف نتدبر القرآن؟
كيف نقرأ القرآن قراءة تدبر؟ وهل هناك جوانب مختلفة للتدبر؟
التدبر في هذه الآية الكريمة وغيرها مطلق، وعليه فهو يشمل جميع جوانب الآية، في معناها العام، ومعاني كلماتها، والعلاقة بين الاثنين، والسياق، واللغة المستخدمة في بلاغتها وسبكها، وفيما إذا كانت من المتشابه الذي يجب رده إلى المحكم، وفيما إذا كان ينبغي الرجوع إلى الأحاديث التفسيرية لها، كما العقل القطعي من البديهيات...
تحذير وتنبيه: الفارق بين "التدبر" و "التفسير"
ولكن البعض قال أن هذا هو التفسير، ولكن الحقيقة لو كان هو التفسير لما جاء الحث على التدبر عاماً للجميع، في حين جاء التفسير ليقول ((فاسألوا أهل الذكر)) والقرآن هو الذكر، أو ((ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم))...
لأن علومي محدودة ولست متخصصاً فإن الامتداد إلى مساحة إعلان التفسير أو التأويل، ومنه التوصل إلى الحكم الشرعي في مسألة عقدية أو فقهية، لا يجوز إلا لمن امتلك الأدوات اللازمة لذلك...
التحذير ورد ((من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)) وغيرها مما يحذر من العذاب الأخروي.
"التدبر" هو في الممكن حسب القابليات
فبالجمع بين "التدبر" العام و"اختلاف القابليات والظروف المحيطة بالشخص" نستطيع القول بأن "التدبر هو فيما يمكن القيام به" لأن النتيجة تكون: "الاستفادة مما يقرأه الإنسان".
ولا شك في أن لـ "المزاج" دوره في ذلك – المزاج الأدبي، أو العلمي، أو اللغوي، أو التاريخي، سيقود القارئ المتدبر إلى النظر في هذا الجانب دون ذاك... وكل ذلك فيه الخير الكثير...
أدوات أو جوانب التدبر
هذه الأمور المذكورة أعلاه:
المعنى العام . معاني الكلمات . العلاقة بين الاثنين . السياق . اللغة المستخدمة في بلاغتها وسبكها . المحكم والمتشابه . الأحاديث التفسيرية . العقل القطعي من البديهيات...
سأتناولها في لقاءات قادمة إن شاء الله على شكل أمثلة توضح كيفية التدبر والفائدة التي ستتحقق...
ولكن لنأخذ الآن لغة القرآن التي نزل بها، اللغة العربية:
"كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " فصلت/3
فصلت آياته: الفصل هو إبانة أحد الشيئين من الآخر حتى يكون بينهما فرجة، ومنه قيل المفاصل
إذاً، من يقرأ اللغة العربية قد تيسر له أول باب إلى التدبر
مثال واحد من الآيات التي نقرأها كثيراً:
أصغر سورة في القرآن الكريم "سورة الكوثر"
قال تعالى: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ . إِنَّا أَعطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ . فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ . إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ الكوثر:1-3.
الكوثر: ......... أقرب كلمة هي "الكثرة"، إذاً "إنا أعطيناك الشيء الكثير".
ربك: .... لماذا ليس إلهك؟ / لأن الإلوهية بمعزل عن الخلق، بمعنى أن الله تعالى هو الإله قبل الخلق، أما الربوبية فهي الصفة التي تلحظ العلاقة بالمخلوقين، فهو الرب الذي يديم الحياة والنعمة على خلقه (كما هي كلمة تربية ومربّ وأمثالهما). إذاً، العطاء من "الرب" المنعم المفضل، الذي أعطاك الشيء الكثير، وبذا فـ "صلّ لهذا الرب المنعم وانحر".
إنحر: هذا يفعله الذي يحتفل أو يشكر على النعمة / نحر الأضحية، نحر العقيقة ...
شانئك: الشنئان الشانئ هو المبغض...
الأبتر: أقرب كلمة "البتر"، وهو القطع...
إنتبهوا إلى "هو" الأبتر، وليس "الأبتر" / فلو قال "إن شانئك الأبتر" فإنها مجرد صفة – شانئك الأبتر؛ ولكن لما أضاف "هو" فقال ((إن شانئك هو الأبتر)) فهو يقول: "إنه هو الأبتر" أي يشير "هو وليس أنت" بضميمة أن الخطاب مع النبي (ص) وأن الأمر بالصلاة والنحر شكراً له (ص)...
فالمعنى الكامل هو: "إنا أعطيناك الشيء الكثير، فقم بالصلاة والنحر شكراً على هذا العطاء، فإن الذي يرميك بأنك أبتر هو الأبتر"...
وهذا تؤيده الروايات المتظافرة كلها دون أن تشذ واحدة، منها عن يزيد بن رومان قال: "كان العاص بن وائل السهمي إذا ذكر رسول الله(ص) قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله تعالى في ذلك ((إنا أعطيناك الكوثر))".
فحتى على الاحتمالات، فإن القارئ يستطيع التفكير في أن هذه الآيات المباركة تتعلق برمي النبي (ص) بأنه لا أولاد ذكور له وبالتالي فلا عقب له لأنهم لم يكونوا يعدوا أولاد البنات أولادهم (الأمر الذي لا يزال قائماً!).
ولكن الغريب هو قول بعضهم أن "الكوثر" ذلك الشيء الكثير هو: نهر في الجنة، أو الحوض في الجنة، ثم ربطوا القولين بأن النهر يصب في الحوض....
ولكن: ما علاقة هذا بالسورة؟
الفهم الواضح هو: أن الله تعالى يقول بأن العكس هو الذي سيكون لأننا سنعطيك ما سيكثرك – وهم الأولاد – بينما سينتهي عقب هؤلاء الشانئين بحيث لن يعود هناك من ينتمي نسباً إليهم.
والدليل على ما أقول هو: أنه لو كان المقصود ليس "أبتر الولد" فإن التعويض يجب أن يكون في الدنيا وليس في الآخرة لأن لا منافسة هناك بينه(ص) وبين شانئه. أي إذا كان هو الحوض فإن النبي(ص) يبقى أبتر حسب تهمتهم له، وهذا يرده القرآن.
فإن التفسير المعقول هو: الكوثر هو الذرية عن طريق الزهراء(ع) لأن الله تعالى سيعطيه الكثير الكثير من الذرية – ذكوراً وإناثاً – عن طريق هذه النسمة المباركة، فاطمة(ع)، وهي أنثى؛ فلا يضرها كونها أنثى أن يخرج منها الكثير الكثير من الذرية. هذا، في الوقت الذي ستنقطع ذرية الشانئين فلا يعود هناك من ينمى إليهم. وقد تحقق هذا وذاك.
فلماذا ذهابهم إلى أن الكوثر هو الحوض أو النهر؟
أرى التالي: بما أن هناك حوض النبي(ص) الذي ورد في أحاديث عديدة أخبر هو(ص) فيها أن رجالاً من أصحابه سيُذادون عنه، فيمنعون من الشرب ثم يقذف بهم إلى النار، فإن المدافعين عن الصحابة بقضهم وقضيضهم وجدوا أن الربط بين الحوض وبين اسم الكوثر طريقة جيدة، بل ممتازة، لضرب عصفورين بحجر واحد: إبعاد الشبهة عن بعض الصحابة، وإبعاد الفضل عن فاطمة(ع).
يمكن مراجعة الروايات في مقالة من مقالات "دعوة للتفكر"على موقعي "العودة إلى الأصل"، من ضمن عدة دعوات للتفكر نفتح بها الباب أمام بعض الأمور واضحة البطلان، أو أن احتمال بطلانها كبير، عسى أن يتدبر الناس فيها...
وهذا التفكر هو في سياق "تدبر" القرآن الكريم...
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على نبينا محمد وآله الأطهار.