وعلي بابها 3-4: ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً
((ولقد قَرَنَ اللهُ بهِ مِنْ لَدُن أنْ كانَ فَطِيماً أعظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلائِكَتِهِ يَسلُكُ بهِ طَرِيقَ
المَكارِمِ، ومَحاسِنَ أخلاقِ العالــَم، لَيلَهُ ونــَهارَه)) الإمام علي(ع)
روي عن أمير المؤمنين(ع) (نهج البلاغة، الخطبة 192 المعروفة بالقاصعة) ذكرٌ للعناية العظمى التي أولاها الله تعالى لنبيه وصفيه محمد(ص) التي مطلعها: ((الحَمدُ لله الَّذِي لَبِسَ العِزَّ وَالكِبرِياءَ، وَاختَارَهُما لنَفسِهِ دُونَ خَلْقِهِ))... فيها يقول:
((وَلَقَد قَرَنَ اللهُ تَعالى بِهِ (صلى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ أَنْ كانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ))، فهي عناية خاصة مركزة بدأت منذ وصوله(ص) سن الفطام – ولعله سنتان عند حليمة(رض) في بني سعد –، وهذه غير العناية التي بدأت منذ انعقاده(ص) نطفة في رحم أمه(ع)، ما يدلّك عليه ما كانت(ع) تشعر به وتراه مما لا يعرف للمرأة الحامل؛ وساعة نزل إلى الدنيا إذا بالمعاجز النبوية تبدأ كما روى المؤرخون؛ وهكذا حتى سن الفطام. إلا أن علي(ع) يخبرنا أن العناية الإلهية اتخذت شكلاً آخر عندما بلغ ذلك السن، فقد أوكل الله تعالى مسؤولية التربية ليس لأحد الملائكة، ولا لأحد الملائكة المقربين، ولكن لأعظم الملائكة. هذه المسؤولية هي التربية المباشرة، وإلا فإن الأصل هو العناية الإلهية، وذلك قوله(ص) ((أدّبَني ربّي فأحسَنَ تأدِيبي)).
وينبغي الانتباه إلى كلمة ((قرن به))، فإن الملك العظيم هذا لم يكن يعطي دروسه – لو أردنا أن نعبر بلغة التربية المعروفة عندنا – في أوقات ما من اليوم، بل كان "قريناً به" ملازماً له في كل لحظة من حياته(ص). وذلك من أجل أن ...
((يَسلُكُ بِهِ طَرِيقَ الـمَكارِمِ))، طريق الشمائل الكريمة في حركاته وسكناته وجميع طريقته ...
((وَمَحاسِنَ أَخلاقِ العالَمِ))، الأخلاق الحسنة مما تعارف عليه الناس، من الصدق والوفاء والكرم والحلم والمحبة والإنصاف والعطف وجميع الأخلاق الحسنة التي ستفيض من شخصيته المقدسة في حياته كلها ...
((لَيلَهُ وَنَهارَهُ))، بمعنى في كل وقت من الليل والنهار – لأن التعبير يدل على الاستمرارية.
ولا شك أن هذه العناية العظمى أوصلت النبي(ص) إلى الكمال الإنساني. فهل أن هذا له وحده بحيث لا ينبغي التفكير في محاولة اتباعه في ذلك؟
أكيد أن المستوى الأكمل للكمال الإنساني الذي وصله النبي(ص) كان متفرداً، كما أكد أئمة الهدى من آل محمد(ص) في أحاديثهم الصحيحة، ناهيك عن اختياره من بين الخلق لتبليغ الشريعة الخاتمة بكتابها المبين وبالحكمة التي آتاها معه ما يعني أنه كان وحده المؤهل لتلقي ذلك التنزيل الهائل ((إنّا سَنُلقِي عَليكَ قَولاً ثَقيلاً)) المزمل:4. إلا أن محاولة اتباعه حث عليها الكتاب نفسها ((لقد كانَ لَكُم في رَسولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَة)) الأحزاب:21، ثم حث عليها النبي(ص) نفسه، وأول ذلك في عنايته لربيبه ووصيه وخليفته من بعده علي(ع)...
فقد نبه علي(ع) بعد ذكره عناية الله بنبيه(ص) إلى مسألة الاتباع، لا الاكتفاء بذكر تلك السيرة العطرة، فيقول:
((وَلَقَد كُنتُ أَتَّبِعُهُ اتِّباعَ الفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرفَعُ لي فِي كُلِّ يَوم عَلَماً مِن أخلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقتِداءِ بِه))، فهو اتباع وصل الغاية في التزام طريق التأسي بسيد البشر(ص) – كما يتبع ولد الناقة أمه... في تعاهد من النبي(ص) بحيث أنه يُري علياً(ع) كل يوم شيئاً من أخلاقه وشمائله، ثم يأمره بالاقتداء، أي السير وفقاً لذلك الخلق.
ولا شك أن النبي(ص) سيفرح أشد الفرح يوم أن يلقى المسلم المؤمن من أهل دينه في الآخرة وقد ملئت صحيفته من العمل وفقاً لشمائله وأخلاقه(ص) رغبة في اتباعه(ص)، وانتظاراً للدخول في مرضاة الله وعطائه من باب الخلق النبوي العظيم.