(المقالة الأخيرة)
أمثلة مما عشناه على صعيد الدول
مما مر في حياتنا أمثلة لمحاولات تهدف – في ما ادعى أو يدعي أصحابها – إلى لم الشمل وتحقيق التقارب والتعاون من أجل قوة الأمة وتقدمها ورد الأخطار والاعتداء عنها. بعض هذه الأمثلة شملت مشاريع لدولتين أو أكثر، بينما شمل بعضها الآخر مجموعة من الدول، حتى جميع الدول المنضوية تحت عنوان معين. ولا يستهدف المقال تقديم تحليلات لأسباب الفشل أو النجاح – إن وجد –، كما أن المجال لا يتسع لمثل هذا ولو بالإشارة، ولكني أريد ذكر هذه المشاريع، والإشارة الخاطفة إلى نتائجها الواضحة، وأسباب هذه النتائج كما قال ويقول المهتمون والباحثون.
المشروع | النتيجة | الأسباب |
1- وحدة مصر وسورية | انتهت بعد 3 سنوات، مع عقدة من تكرارها عند قائدها نفسه | الهدف: إندماج كامل، وهو غير عملي الوسيلة: عدم التهيئة الطويلة الصحيحة بين بلدين مختلفين في الاقتصاد وطبيعة الحكم النفوس: إتهم القائد شركاءه السوريين بإضمار الانفصال وتأليب الناس على الوحدة |
2- الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب | بعد 4 سنوات فقط حاول الجنوب الانفصال وحصلت حرب شاملة بين النصفين؛ اليوم هناك الحراك الجنوبي المعارض | الهدف: منطقي، بل واجب، لأنه شعب واحد الوسيلة: عدم التهيئة المناسبة رغم اختلاف الوضع السياسي والاقتصادي النفوس: أن الشمال يريد إخضاع الجنوب وتهميشه وعدم إعطائه الفرص المتكافئة |
3- منظمة المؤتمر الإسلامي | لم تحقق شيئاً على الإطلاق، حتى ما يخص المسجد الأقصى الذي تأسست المنظمة بعد جريمة إحراقه! | الهدف: واجب كما يرى دعاة الوحدة، لكن الأهداف من المنظمة غير واضحة (غير التهمة أن المنظمة فكرة غربية أصلاً) الوسيلة: إستحالة جمع كل هذه الدول المختلفة في معظم الجوانب، والشيء الوحيد المشترك وهو غيرة شعوبها على الإسلام والأمة الإسلامية لا يهم لأن الشعوب لا قيمة لها النفوس: حكام خاضعون للأجنبي، من خلال الخضوع لشهوات السلطة والمال وغيرها، مع نزاعات شخصية – بعضها طفولية – بين "الزعماء!" |
4- جامعة الدول العربية | لا شيء، إلا قرارات مرحلية تم سحقها بأقدام الدول نفسها، ومنها ما يتعلق بفلسطين؛ ولعل ما وصلت إليه اليوم من تحكم حمد القطري (الذي يفتخر بالسياحة في إسرائيل) بأكبر الدول (حتى بتهديد بلد المليون شهيد، ومندوبها ساكت!)، بحيث تتخذ قرارات مخالفة لقوانين الجامعة نفسها، يغني عن أي كلام | الهدف: منطقي، ويمكن أن يكون مقدمة للتقارب بين الدول الإسلامية، ولكنه غير محدد فيما يخص أي تفاصيل (ناهيك عن التهمة بأن الجامعة تأسيس استعماري في الأصل) الوسيلة: جامعة دول، أي حكام متخلفون دكتاتوريون معظمهم مرتبط بالأجنبي، أن ابتداءاً أو استمرارية، مع لبس في كيفية اتخاذ القرارات، وكيفية الوصول إلى تحقيق المجالس الاقتصادية وغيرها النفوس: حكام خاضعون للأجنبي، من خلال شهوات السلطة والمال وغيرها، والصراعات الشخصية، والعقد الطائفية التي جعلتهم يحاربون أي تجربة فيها تغيير عما جرت عليه دولة الخلافة عبر القرون |
5- مجلس التعاون الخليجي | لا شيء حقيقي خارج إطار الاستعانة بالأجنبي لحماية دول المجلس (عدا الاستئساد على شعب البحرين الصغير الأعزل)؛ حتى توحيد العملة لم يتحقق رغم مرور 30 سنة؛ الخلافات الحدودية باقية | الهدف: منطقي لتقارب طبيعة المجتمعات والعادات، ولكن لم يكن هو الهدف الحقيقي بل كان الوقوف كتلة واحدة تصطف مع العراق يومها ضد إيران الوسيلة: عوائل حاكمة وليس شعوب، وفيما عدا الكويت والبحرين ليس هناك برلمان؛ طبعاً المستشار الأجنبي يمنع تحقيق أي نجاح النفوس: حكام متخلفون تحكمهم شهوة السلطة والمال وغيرها، يخشون من إعطاء الفرصة لشعوبهم التي صارت تتعلم وتكتسب خبرات، الصراعات الشخصية بين الحكام |
6- المجلس المغاربي | لا شيء مطلقاً؛ القضية الكبيرة، الصحراء الغربية، لم تتحرك لحد الآن؛ ثارت ليبيا وضربت وأسقط الحكم والمجلس المغاربي لم يذكر إسمه مرة واحدة! | الهدف: تجمع جغرافي معقول، ولكن غير محدد المعالم الوسيلة: لا تخطيط ولا تهيئة ولا اشتراك للشعوب في الموضوع، مع أن طبيعة الحكم تختلف بشكل صارخ بين هذه الدول النفوس: نفس ما قلته بحق غيره |
ولعل القارئ الآن يتساءل عن السبب في الأمثلة أعلاه وهي لا تتعلق بموضوع الوحدة الإسلامية ولا بالتقريب بين المذاهب، أي كأنها أجنبية عن الموضوع.
والجواب:
أولاً، الأمثلة ليست أجنبية مطلقاً، لأنها تشمل أوطاناً مسلمة في غالبيتها الساحقة، فشعوبها وحكامها مسلمون؛
ثانياً، ما قلته بشأن أسباب الفشل – أي الأهداف والوسائل والنفوس – تجدها هي هي في هذه المشاريع الفاشلة؛
ثالثاً، إذا كان المشاريع المحدودة، التي خصت دولتين أو نصفي شعب واحد أو بضع دول، قد فشلت فكيف بالدول الإسلامية جميعاً؟ وحتى مشروع الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، فهما وإن كانا يشملان العالم العربي كله والعالم الإسلامي كله إلا أنهما منظمتا حكومات لا شعوب، وعليه فيفترض أن العمل بين مجموعة محدودة من الحكام والوزراء (حتى ولو على ما وصلوا إليه من مستوى وضيع لم يكن متصوراً في يوم من الأيام، أن يصطفوا مع أعداء الأمة ضد أبناء الأمة) أسهل بكثير من العمل الذي يشمل عشرات الآلاف من العلماء والمفكرين والأدباء والمثقفين وقادة المجتمع، وعشرات الملايين من الشعوب – وعليه فإن الفشل هنا هو فشل صارخ أيضاً.
ولكنهم بعيدون عن الدين؟
ولكن يقولون أن هؤلاء كلهم حكام متسلطون لا يفقهون من الدين كثيراً ولا ينتهجون منهج القرآن في التعامل مع الآخر، ولذلك فشلت ولا تزال تعيش الفشل جميع هذه المنظمات أو التجارب الوحدوية. فهل أن العلماء – ولا سيما أدعياء التقريب والوحدة – على شاكلة تختلف كثيراً؟
أمثلة معاشة على صعيد العلماء
على أساس أن العلماء هم قادة الأمة في الجانب الديني، بل ينبغي أن يكونوا في المقدمة مع المفكرين والمثقفين وجميع العاملين في المجالات المختلفة في المجتمع. والمفترض، بل الواجب على هؤلاء العلماء أن يكونوا قدوة للآخرين في التعامل السوي مع قضايا الاختلاف والخلاف، وذلك بانتهاج النهج الموضوعي العلمي في البحث من جانب، وانتهاج نهج الحوار الهادئ الذي يبتعد عن سوء الظن والاتهامات والانفعال، وكل ذلك في إطار التقوى – أي أن التقوى هي التي تجعل هذا العالم، المختص بعلوم القرآن أو الحديث أو الفقه أو التاريخ والسيرة، ينتهج هذا النهج العلمي الحواري، وإلا فإنه بعيد عن منهج القرآن كما هو واضح.
الخلاف الرئيس
هؤلاء العلماء سيتناولون الخلاف الرئيسي بين المذاهب الإسلامية، وهو الخلاف حول الإمامة وإمامة أهل البيت (ع) بالخصوص. ولا بأس أن أعيد ما قلته في المقال الأول:
"الخلاف الأساسي هو حول الإمامة والخلافة والذي جعل الأمة تنفصل إلى مذاهب، ليس الشيعة الإمامية الإثنا عشرية والسنة فحسب، بل حتى الشيعة الزيدية والإباضية إنما نشئتا من جذر سياسي واضح. ويتمركز الخلاف بين الباحثين في قضايا التقريب الذين يتناولون هذه القضية، كما هو عند جميع الباحثين فيها، حول أمور:
الأول – توثيق المصادر الروائية لهذا الفريق أو ذاك، فهناك تهم شتى تكال للرواة، والكثير منهم يتعرض للتعديل والتجريح من داخل علماء مدرسته هو فكيف بالمدارس الأخرى؛
الثاني - توثيق أئمة أهل البيت (ع) فقط دون الصحابة يبدو وكأنه موقف معاد للإسلام على اعتبار أن الصحابة هم الذين حملوا إلينا الدين، أو أن توثيق الصحابة الذين تدور حولهم قضايا النزاع يعني عداء لأهل البيت (ع)؛
الثالث – تفسير وتأويل الأحداث التاريخية تفسيرات وتأويلات مختلفة تصل بعضها إلى أقصى حد من التناقض، فحادثة واحدة يعدها البعض دليلاً على إهمال أوامر إلهية صريحة بينما يعدها الفريق المقابل أنها دليل على مرونة الدين أو عبقرية المتأول؛ هذا ناهيك عن مدى سعة التأويل والمرونة وحسن الظن بهذا أو بذاك خصوصاً وأن الشخص صار مقدساً أكثر من النص المقدس كما قلنا.
هذه الأمور الثلاثة كلها تشكو مما أشرنا إليه من الذهنية والنفسية المحملة بالعقد وسوء الظن والسقوط أمام المصالح: فربما وجد الباحث عدم وثاقة راوٍ ما كما يعتقد أهل مذهبه غير صحيحة ولكنه يحجم عن الإعلان عنها؛ وربما تيقن الباحث أن الالتزام بروايات أهل البيت (ع) ليست موقفاً سلبياً ضد الصحابة بل هو عملاً بما توصل إليه الآخرون من النص الديني أو أن الصحابي الفلاني كان ثقة صادقاً على خلاف مما يعتقد أهل مذهبه ولكنه يحجم عن مصارحة الآخرين حتى من قومه؛ وربما توصل الباحث أن حادثة تاريخية ليست كما توصف، أو أنها لم تحصل أصلاً، ولكنه يحجم عن التصريح بذلك... ويبقى الجميع على ما هم عليه، الجاهل بجهله، والذي علم بإصراره على الجهل".
شكوك وظنون واتهامات
وأعيد مرة أخرى ما ذكره الشيخ شلتوت من ردود فعل إزاء جهود التقريب: "كيف أن بداية الدعوة كان الجو مليئاً بالطعون التهم والافتراءات وسوء الظن من قبل المتعصبين والمتزمتين الذين قالوا أنها محاولة لإدماج المذاهب بعضها إلى بعض، وحارب الفكرة ضيقو الأفق وأصحاب الأغراض السيئة والنفوس المريضة والنزعات الخاصة".
ومؤكد أن الشيخ رحمه الله يعني العلماء وطلبة العلم والمرتبطين بالمؤسسات الدينية لأن هؤلاء هم الذين لهم التأثير السلبي على العمل بحيث يذكرهم الشيخ، كما أن غيرهم من عامة الناس إنما ينتظرون علماءهم وقادتهم كي يكونوا رأياً حول الموضوع، وأنى لهؤلاء العامة معرفة وجود مثل هذه الجهود وهي لم تزل في بداياتها.
فهل ولّى زمن الشيخ؟
كلا! فإن الساحة الإسلامية، في جميع المناطق وعند جميع المذاهب، لا تزال تئن تحت وطأة التهم والافتراءات وسوء الظن، ولا تزال تشكو من التأثير الشديد للمتعصبين والمتزمتين وضيقي الأفق وأصحاب الأغراض السيئة والنفوس المريضة والنزعات الخاصة. ودونك وسائل الإعلام، المقروءة والمسموعة والمرئية، ودونك منابر المسلمين، ومعظمها يشكو من هذه المشاكل النفسية والأمراض الطائفية – وإن بدرجات مختلفة:
فبعضها يتعامل بذكاء خبيث، فهو يهدم بشكل يومي من خلال دعوته إلى التفاهم والحوار (مثلاً، يدعو إلى الحوار ويقيم برامج الحوار وعلى مدى إقامة هذه البرامج وقبلها وبعدها، أسابيع متصلة وأشهر طويلة، وشريط الشاشة في الأسفل لا ينفك عن إعادة قول لعالم قديم من الطائفة الأخرى يحكم بالخسران على شخصيات محترمة عند طائفته – كلمة قديمة تبث آلاف المرات لتغذية الحقد على الطائفة الأخرى وهو يدعي الحوار مع تلك الطائفة!)
وبعضها يتعامل بغباء شديد، من خلال الأقوال المتناقضة في نفس اللحظة (مثلاً، قال أحد الناطقين بلسان جماعة إسلامية هي الآن في صميم الأحداث أن أخا الحاكم السابق في بلده كان يقوم بجهود لنشر التشيع في بلده من خلال جمعية أسسها، ثم قال "وأنا لا أريد أن أجعل الأمر سنة وشيعة، ولكن هذا ما حدث، ثم لما حصل اعتراض كبير من المسلمين، أمر الحاكم بسد الجمعية" ففي نفس الجملة حكم على الشيعة بالكفر لأن الذين اعترضوا ليسوا السنة بل المسلمين، في إخراج واضح للشيعة من الملة)؛
وبعضها يتعامل بصراحة كاملة، تكفير، وحتى تحريض على إزهاق النفوس المحترمة، ناهيك عن هذا الولع الذي يجذب النظر حقاً في الاتهام بالزنا وخبث المولد وغيرها من تهم تتعلق بالجانب الجنسي (ربما بسبب الكبت في تلك الأوطان) (مثلاً، بما أن الشيعة يحللون الزواج المؤقت، أو المتعة، وبما أن الزواج المؤقت عنده حرام فإن الشيعة أولاد زنا، ليس فقط من يدخلون في مثل هذا الزواج، بل الشيعة بأجمعهم! ولو سألتهم: لا يختلف العقد المؤقت عن العقد الدائم في الأساس إلا في تحديد المدة، ولكن وطء ملك اليمين – أي الأمة التي هي مملوكة لسيدها – من دون عقد مطلقاً، لقالوا: لا شيء فيه فإن الشريعة حللته؛ ولكن دليل العقد المؤقت هو القرآن كما هو دليل وطء ملك اليمين – ولكن مع من تتحدث).
ولكن لا يهمنا جميع هؤلاء، لأن الأمة لا تزال حبلى بالعلماء دعاة التقريب والوحدة الإسلامية، الذين لن يتزلزلوا عن موقفهم المبدئي مهما كانت الضغوط... فهل هذا صحيح؟
مؤكد أن مثل هؤلاء موجودون، ولكن لم يعد هناك ضمانة مع أي واحد إذا ما وجدنا أكابر دعاة التقريب يتخذون مواقف طائفية صارخة مفاجئة تماماً. ويصبح هذا أشد مع من يتربع على منصب اتحاد علماء المسلمين، ونائبه عالم شيعي، وإذا به يخرج عليك ليس فقط باتهام الشيعة أنهم يقومون "بالتبشير" بمذهبهم في البلدان السنية، ولكن بأنهم "مبتدعة"، أي القول بإمامة الأئمة الطاهرين من آل محمد (ص).
فإذا ما ذكرنا مواقف الشيخ، هل تستطيع إلا أن تحكم أنها مما في داخل النفس التي نجحت في التستر على عللها مدة عقود من الزمن؟
- التبشير الشيعي: حذر مما سماه "التبشير الشيعي" في البلدان السنية، ونادى بعدم القيام بالتبشير أو نشر المذهب في أي منطقة سنية. وهذا فيه أمور: (1) من المعيب استخدام مصطلحات درج غير المسلمين على استخدامها وصار المسلمون يستخدمونها للتحذير من جهود أولئك في نشر دينهم في وسط المسلمين، الأمر الذي هو حاصل فعلاً في الشرق الأقصى وشمال إفريقيا، وحتى في بلدان أخرى تعتبر مراكز الإسلام الرئيسية (2) إذا توقف الناس عن التحدث بمعتقداتهم إلى بعضهم البعض فهذا يعني استمرارهم بالعيش داخل العقد الطائفية، في حين أن الحوار حولها من شأنه توضيح وجهة نظر كل فريق كي يعذر بعضهم البعض الآخر بعد أن يعلم أنه إنما بنى معتقداته على ما اقتنع به من دليل الكتاب والسنة (3) ما المشكلة في أن يتشيع بعض أهل السنة ويتسنن بعض الشيعة إذا كان الشيخ ينظر إلى الجميع أنهم مسلمون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم؟
- البدعة الشيعية: قال بأن الشيعة مبتدعة، وذلك لقولهم بالنص بالإمامة على أئمة أهل البيت (ع)، وهذا قول مفهوم كون المتكلم من أهل السنة الذين لا يعترفون بهذه الإمامة وبالنص عليها، ولكن استخدام كلمة "مبتدعة" أو "بدعة" لا يمكن إلا وأن يضرب جداراً عالياً بين الشيعة وغيرهم من المسلمين لأنك تثير هذا العنوان وتضعه نصب عين المسلم السني، فأي مجال يتبقى للتقريب وردم الفجوات وبناء الجسور؟ ثم إذا كان الشيعة جماعة ينبغي التحذير من بدعتهم ما بال الشيخ يرأس أكبر هيئة جامعة لعلماء المسلمين وفيها عدد كبير من علماء الشيعة، أحدهم هو نائب الشيخ؟! كيف يعمل معهم طيلة عقود وهو ينظر إليهم تلك النظرة؟ (والمقال ليس لتبيان فيما إذا كان الشيعة مبتدعة أم لا، وفيما إذا كانوا قد بنوا إيمانهم بالنص على أئمة أهل البيت (ع) على النصوص الواضحة من القرآن والسنة، وهو ما أشار إليه بعض علماء الشيعة في ردودهم التي أرسلوها إلى سماحة ا لشيخ الدكتور.)
- إعدام طاغية العراق: في الجمعة التي تلت إعدام الطاغية، تضمنت خطبة صلاة الجمعة، التي أم فيها الشيخ المصلين في المسجد في البلد الذي يقيم فيه، ذلك الموضوع، وما أثار انتباهي هو قوله "من كان آخر قوله لا إله إلا الله دخل الجنة" – قالها هو يرتجف غضباً –، أي حكم على الطاغية بالجنة لمجرد أنه تشهد الشهادة قبل شنقه، وهذا من أعجب العجب من شيخ عالم يعتبر مرجعاً لملايين المسلمين، فإن هذا الحديث الشريف يبشر بالجنة كل موحّد نطق بوحدانية الله تعالى قبل موته، ولكن لا بد أن يكون غير محكوم عليه بالخسران في كتاب الله، لأن القرآن هو الحاكم على غيره بلا خلاف، ولا سيما في الآيات المحكمة الواضحة التي لا يمكن محاولة استخدام الأحاديث لتأويلها على غير ما أراده المولى عز وجل – والشيخ لا بد قرأ كثيراً قوله تعالى: ((ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً)) النساء:93، وهو حكم بالنار، بل التخليد في النار، والعذاب الأليم، ولا تناله الرحمة لأن هناك لعنة تطرده من رحمة الله – فهل لم يسمع الشيخ بالكم الهائل من النفوس المؤمنة التي تعمد ذلك المجرم إزهاقها من أجل حكمه؟ طيب، لنضع الشيعة الذين قتلهم جانباً فهم مبتدعة لا يستحقون أن يشملهم هذا الحكم، ماذا عن المؤمنين من أهل السنة الذين قتلهم تعمداً من أجل الحكم ليس إلا؟ ومن هؤلاء بضعة أفراد من التنظيم المماثل للتنظيم الذي كان الشيخ ينتمي إليه في بلده؟! وماذا عن الكويتيين من أهل السنة الذين قتلوا تعمداً؟ ولكن لا، ما دام أن الطاغية قتله الشيعة فإنه أصبح مؤمناً كبيراً (شهيداً عند البعض، وربما عند الشيخ نفسه) – ولو كان الذي قتله السنة لهلل لهم، ومن لا يصدق فله المورد الأخير من عظائم هذا الرجل.
- ثورة ليبيا وثورة البحرين: لم يفرق ولا أسبوع واحد بين الثورتين، فثورة البحرين بدأت يوم 15 من شباط/فبراير وتبعتها ثورة ليبيا يوم 17، أي لم يفصل بينهما سوى يومين. مع ذلك فإن الشيخ حكم – بشكل صارخ ليس فيه ذرة حياء – على ثورة البحرين بالطائفية وأنها تتحرك من الخارج – أي إيران –، في حين حكم على ثورة ليبيا بأنه ثورة حق ضد دكتاتور طاغية (يختلف كثيراً عن طاغية العراق الذي ارتجف على المنبر لإعدامه!). والعجيب أن ثوار ليبيا – بغض النظر عن أحقية ثورتهم ضد ذلك المجرم بعد طول المحنة – حملوا السلاح وصاروا يقاتلون، ثم طلبوا التدخل العسكري المباشر من أعداء الأمة (اللهم إلا إذا صار الناتو صديقاً للأمة ولا أدري) وكانوا يطلبون، دون حرج، ضرب الأهداف بشكل محدد، في حين أن ثوار البحرين لم يحملوا ولا مسدساً واحداً، ولم يدخلوا في قتال، ولم يطلبوا تدخل أحد (لا أدري إن صغرت عقولهم وطلبوا مساعدة الجامعة العربية أم لا) – فهل أن هناك سبباً واحداً لموقف الشيخ المتناقض إلا تعصبه الطائفي الذي يئن تحته. (لا أدري إن كان الوهابيون قد رضوا على الشيخ الآن بعد مواقفه الأخيرة أما لا يزال عندهم هو ال--- العاوي؟!)
ما نعيشه في هذه اللحظة بالذات
المنهج الأعلى
قبل أن أشير إلى بعض النماذج التي نعيشها اليوم، لا بأس بالتذكير بما أسميه المنهج الأعلى، وهو ما رسمه لنا أئمة الدين من آل محمد (ص)، الذين علموا الأمة بالأقوال والأفعال كيف تتعامل فيما بينها.
أما من الأقوال فلنذكر بقول الزهراء (ع): ((شيعتنا من خيار أهل الجنة، وكل محبينا وموالي أوليائنا، ومعادي أعدائنا، والمسلم بقلبه ولسانه لنا ليسوا من شيعتنا إذا خالفوا أوامرنا ونواهينا في سائر الموبقات، وهم مع ذلك في الجنة، ولكن بعد ما يطهرون من ذنوبهم بالبلايا والرزايا، أو في عرصات القيامة بأنواع شدائدها، أو في الطبق الأعلى من جهنم بعذابها إلى أن نستنقذهم – بحبنا – منها، وننقلهم إلى حضرتنا)) (التفسير المنسوب للامام العسكري (ع) ص308 بيان معنى الشيعة ح1) .
بقول الإمام جعفر الصادق (ع): ((الشيعة ثلاث: محبّ وادّ فهو منّا، ومتزيّن بنا ونحن زين لمن تزيّن بنا، ومستأكل بنا الناس، ومن استأكل بنا افتقر)) (روضة الواعظين ص293).
هذا حكم على كل من يحب آل محمد (ص) ويفعّل آية المودة ((قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)) الشورى:23 بالفوز العظيم لأنه يكون معهم (ع). ولا شك أن هذا الجزاء الكبير لا يكون لمن كان دينه ضعيفاً بحيث لا يلتزم بالحدود الدنيا من الحلال والحرام، أو من يقترف الموبقات والكبائر.
وأما الأفعال، فهذه أمثلة على المنهاج التوحيدي لأهل البيت (ع):
1- مساندة علي (ع) لأبي بكر في خلافة الأخير، الحديث المعروف ((فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله، فخشيت إن لم أنصر الدين وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منهما ما كان كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين و تنهنه))
2- يوم رد علي (ع) أبا سفيان الذي جاء يحرضه وعمه العباس على التمرد على أبي بكر الخليفة
3- خلافة عمر وكيف أن علياً (ع) سانده بعد أن بويع بنص من أبي بكر في اتفاق واضح بينهما تجاوزه (ع)، من ذلك أنه نصحه بعدم الخروج لقتال الفرس بنفسه بعد أن أشار غيره من الصحابة بالعكس
4- يوم الشورى بعد بيعة عثمان وقوله المعروف ((لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة))
5- محاولاته (ع) فك الاشتباك بين عثمان والثوار
6- صلح الحسن (ع) وتنازله لمعاوية حقناً للدماء حتى تعرض إلى الاتهامات والتجريح والتهجم من بعض أنصاره
7- حل الباقر (ع) الإشكال الاقتصادي الذي وقعت فيه دولة بني أمية بابتزاز الروم في قضية سك النقود لأنه رأى أن الأمة الإسلامية هي التي كانت تتعرض للخطر.
وأما العلاقة مع المسلمين المخالفين، أي غير الشيعة، فأذكر بقول الصادق (ع): ((عليكم بتقوى الله وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الصحبة لمن صحبكم وإفشاء السلام وإطعام الطعام؛ صلوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم واتبعوا جنائزهم ...)) (صفات الشيعة للصدوق حديث 39). وهذا تشجيع – إن لم يكن أمراً – بالصلاة في مساجد أهل السنة، أي عدم الانعزال، وبعيادة مرضاهم، أي إشاعة الروح الإسلامية الحقيقية، واتباع جنائزهم، أي القيام بواجب المسلمين المخالفين إلى آخر محطة من حياتهم.
أما واقع الناس...
فليس موافقاً لما ورد أعلاه، ليس عند عامة الناس، فهم في معظمهم يغلبون الروح الإسلامية ويقومون بواجب المسلمين المخالفين، ولكن الانعزال والانغلاق من جهة وعلماء التعصب والكراهية والبغضاء من جهة أخرى يجعل من التفعيل الحقيقي الواسع لذلك المنهج الأعلى غير موجود بما يؤثر التأثير الحاسم على أحوال الأمة في مواجهتها لمشاكلها الداخلية والخارجية.
فإن هناك الكثير من البغضاء التي يشيعها من في قلوبهم مرض، بل أمراض، كما عبر الإمام الرضا (ع): ((إن ممن يتخذ مودتنا أهل البيت لمن هو أشد لعنة على شيعتنا من الدجال)) ثم أوضح: ((بموالاة أعدائنا ومعاداة أوليائنا؛ إنه إذا كان كذلك اختلط الحق بالباطل واشتبه الأمر فلم يعرف مؤمن من منافق)) (صفات الشيعة حديث 14).
وكما هو الحال عند من يحكمون على الآخر بالخسران حتى لو فعل ما فعل من أنواع العبادات والقربات التي يقوم بها بصدق، لأنه لا يعتقد باعتقاد معين أو لأنه لا يتبع مدرسة معينة، مع أن هذا الصادق في دينه إنما يفعل ما يفعله هو ويمتنع عن فعل ما أفعله أنا لأن الدليل دفعه إلى ذلك، فهو بريء الذمة ومقبول إن شاء الله، بل لا يقبل عمله إلا إذا كان وفقاً للمذهب الذي ثبت له صحته، وإلا لكان الدليل شيء وما قرر فعله شيء آخر.
العجب مما نشهده اليوم
البحرين وليبيا: ذكرت موقف أحد علماء المسلمين الكبار المشاهير من الثورتين، الموقف المتناقض بحيث حكم على الأولى بالباطل والثانية بالحق، وما ذلك إلا لأن الأولى يقودها الجمهور الشيعي الذي يشكل غالبية سكان البحرين، الغالبية المظلومة التي تعاني من التمييز الواضح، مع أن المعارضة المشتركة في الثورة التي تطالب بإصلاحات واسعة تضم بعض أهل السنة من النشطاء السياسيين المعروفين، ولأن الثانية شعبها سني كله، وربما لأن الذين ثاروا عليه كان على النقيض من الحركات الإسلامية من جانب والدول الخليجية – التي ينعم الشيخ فيها – من جانب آخر.
ولكن الأمر ليس منحصراً بالشيخ، فهو يبقى فرداً مهما كان تأثيره على أتباعه، بل وجدناه سائداً بشكل صارخ مؤسف لا يكاد يصدق. فالقنوات الفضائية التي عقدت العزم على دعم الليبيين حتى إسقاط الحكم هناك، بحيث رفع الثوار علم الدولة التي تنتمي إليها (مع علم فرنسا قائدة النجدة الأطلسية) سواء بسواء، سكتت بشكل كامل عن ثورة البحرين على الرغم من أنها كانت في نفس الوقت تماماً، وعلى الرغم من التعامل المتناقض للعرب معها، بحيث أنهم – في جامعة دولهم العربية – طلبوا رسمياً تدخل قوات الناتو لدعم الليبيين في حين أنهم قاموا بإرسال القوات السعودية لقمع البحرانيين! واستمر القمع في السجون والمستشفيات، وصارت قنابل المسيل للدموع ترمى على البيوت، وقتل الأطفال، وهدمت المساجد، وأحرقت نسخ من القرآن... كل هذا، والقنوات العربية على ما هي عليه...
فأين الشارع العربي؟ صمت ولم يتكلم.
فإذا ما توجهت تلقاء المحطات الشيعية، كالمنار والعالم والكوثر، فإنك تجد التغطية اليومية لأحداث البحرين، وما ذلك إلا لأنهم لا يشكون المشكلة الطائفية مع شعبها، فهم شيعة مثلهم. ولكن ينبغي أن نثمن موقف هذه القنوات لأنها تجاوزت العقد الطائفية، فقد غطت، ولا تزال، أحداث ليبيا مع أحداث البحرين، سواء بسواء، في نشرات الأخبار وفي البرامج الأخرى.
وأما في العراق، فإن نواباً شيعة في مجلس النواب العراقي تكلموا في نصرة شعب البحرين وأعلنوا عطلة تضامناً، وبما أن هذا الموقف لم يحصل مع شعب ليبيا فإنه كان واضحاً في اصطفافه الطائفي، الأمر الذي أشار إليه بعض الإعلام العراقي الطائفي في الجانب الآخر.
أحداث سورية: بما أن الحاكم في سورية من الطائفة العلوية، وهي فرقة محسوبة على الشيعة، تعتبر من الأقليات في سورية، فإن عداء الطائفيين من السنة للحكم هناك سيكون متوقعاً، فكيف إذا كانت أغلبية الشعب السوري من الطائفة السنية؟ وكيف إذا كانت وسائل إعلام معينة وجماعات سياسية معينة، خصوصاً في لبنان والأردن والخليج، مرتبطة مع جماعة الإخوان المسلمين السورية التي تعيش عداء مع الحكم السوري منذ ثلاثين سنة؟ لذا، فإن الانحياز ضد الحكم من نفس الذين اصطفوا ضد ثورة البحرين سيكون مفهوماً. ولكن غير المفهوم هو هذا التوافق الذي لم نسمع بمثله بين هؤلاء والقوى الدولية المعادية – قديماً وحديثاً – للأمة الإسلامية، والذي أدى إلى تشويه صورة الثورة السورية في مطالباتها العادلة بإصلاح الأوضاع السياسية وغيرها، تلك المطالبات التي اعترف بأحقيتها الحكم هناك. والعجيب هو الإصرار على عدم إعطاء فرصة ولو قصيرة للنظر فيما إذا كان الحكم صادقاً في تشريعاته الجديدة بخصوص الأحزاب والنظام الانتخابي والإعلام وغيرها، بما يوحي أن الإصلاح ليس مرحباً به من قبل أولئك الذين يريدون استلام الحكم بأي ثمن. هذا مع أن أغلبية الشعب السوري تخشى من أن يحصل في سورية ما حصل في العراق من التشرذم والدمار والقتل المريع والفتنة الطائفية، الأمر الذي بدأت علائمه في بعض المناطق السورية.
نفس الشيء، تجد فصلاً طائفياً في مواقف الطائفتين إزاء الوضع في سورية، وهو فصل أشد ما يكون في بعض بلدان الخليج العربي التي يعتبر إسلاميوها – حسب رأيي – من أشد الإسلاميين تطرفاً في الوطن العربي.
ولا شك، أن العلاقة القوية للحكم السوري مع إيران لها دورها في تشديد مواقف هؤلاء وهؤلاء، الأمر الذي جعل من العلاقة مع تركيا، التي تمثل السند السني لأهل السنة قبال السند الإيراني الشيعي للشيعة، معياراً لاتجاه الأحداث.
تركيا وإيران:
قامت إيران بعد الثورة بما لم تقم به لا تركيا ولا معظم البلدان العربية من دعم للقضية الفلسطينية. وفي السنوات القليلة الماضية، قامت إيران بدعم حكومة حماس في غزة بشكل حاسم ساعد على بقائها واستمراريتها رغم الحصار الإسرائيلي العربي الفلسطيني. ولكن: تمنح إيران مئات الملايين لغزة وحكومتها من أجل الصمود فإنها تتهم بالتآمر على العرب والمسلمين والفلسطينيين بالذات، في حين لا يحتاج رجب أردوغان سوى أن يغضب من عدم إعطائه المجال للكلام في منتدى دافوس وهو جالس مع شمعون بيريز نفسه وإذا بالمظاهرات المؤيدة وصوره على مواقع الانترنت وهي تسميه البطل الخ، في نفس المواقع ونفس الصفحة ربما تجد صورة الرئيس الإيراني وهو يشتم في كاريكاتير أو غيره!
هذا، مع أن العلاقة التركية الإسرائيلية لا تزال تتضمن الاتفاقيات الاستراتيجية التي منها عسكرية، من مناورات وغيرها، لا شك أن بعض من اشترك فيها من الاسرائيليين قام بذبح أعداد غفيرة من أهالي غزة وفلسطين. ومع أن الدور التركي فيما يخص أحداث سورية يصطف مع الموقف الغربي المعادي (ولا نريد أن نقول المتآمر وإن كانت المؤامرة واضحة حتى للأطفال) ويتحرك معه يداً بيد.
ولا نريد أن نذكر كيف أن المقاومة اللبنانية التي حققت أعظم الانتصارات، دون مساومة أو اتفاقيات من تحت الطاولة، على إسرائيل، تجد التهجم الصارخ من الجهات الطائفية في كل مكان، إلى درجة التشكيك في عدائها لإسرائيل!
وأما الاعتداءات الإيرانية والتركية على الأراضي العراقية فهي توصف حسب انتماء الجهة السياسية أو الإعلامية. فعندما دخلت القوات الإيرانية منطقة الفكّة جنوب شرقي العراق أقامت الجهات السنية الطائفية الدنيا على الاعتداء الإيراني في حين سكتت الجهات الشيعية الطائفية، بعضها بشكل تام وكأن الأمر لم يحدث. وعندما كانت المدفعية الإيرانية تقصف مناطق من كردستان العراق وفي نفس الوقت كانت القوات التركية تدخل الأراضي العراقية لتلاحق مقاتلي حزب العمال الكردي فإن تغطية الأخبار اتخذت نفس الطابق – منها ما يصل إلى درجة النكتة لشدة تحيزه، فقد جاء الخبر الأول في نشرة أخبار واحدة من أشهر القنوات الفضائية العراقية بعنوان "الاعتداءات الإيرانية على الأراضي العراقية" ثم تبعه مباشرة الخبر التالي: "ملاحقة القوات التركية للمتمردين الأكراد" في الأراضي العراقية! فحتى الغيرة على الأوطان اصطبغت بالثوب الطائفي.
مساحات مضيئة
ولكننا نعيش مساحات مضيئة في مناطق مختلفة من العالم العربي والإسلامي. فبالإضافة إلى ما وصلت إليه المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية من قوة في قدراتها القتالية والاستخباراتية والفنية عموماً، ما جعل العدو الإسرائيلي يعتبر القضاء عليها أمراً لم يعد ممكناً بعدما كان يعمل لأجل ذلك (بالتعاون مع المتآمرين العرب ولاسيما في لبنان وفلسطين والخليج)، هناك الشيء الجديد من الجيل الجديد الذي تحرك بشكل مفاجئ للجميع. فبغض النظر عما يقال عن التدخل الغربي أو الصهيوني فيما يسمى الربيع العربي، وهو تدخل لا بد منه لأنهم يرسمون الخطط والخطط البديلة ويتهيئون لجميع الاحتمالات، فإن الحكام العرب الذين سقطوا ما كانوا ليتقبلوا السقوط من أجل عيون هذا الرئيس الأوروبي أو الأمريكي أو ذاك. وعليه، فإن قول بعضهم – كمحمد حسنين هيكل – أن ما نشهده هو سايكس بيكو جديدة ليس صحيحاً – حسب رأيي – لأن هذا يعني وكأن الشعوب العربية لا تعاني مشاكل خطيرة تستدعي التغيير، أو أنها مشلولة إلى درجة لم تعد تنجب أجيالاً تقوم بالتحرك وتنجح فيه. وعلى أية حال، قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): ((وتخلع العرب أعنّتها)) الذي روي فيما يحصل في المستقبل أصدق من قول هيكل وغيره ممن يشككون بقدرة العرب على التغيير (الأولى بهم أن يتركوا الحديث من تلك القنوات المشبوهة، بل المدانة بعملها الأساسي في تطبيع العرب مع إسرائيل).
شباب مصر: فاجأ الشباب المصري مصر والعالم بتلك الثورة السلمية المتواصلة التي لم تتعب حتى حققت الهدف الأساس وهو رحيل الرئيس مبارك. الجميع عاش ما حصل لذا لا داعي لذكره هاهنا، ولكن ما أريد الإشارة إليه هي تلك الروح الشبابية الخلاقة في طريقة تظاهرها، وطريقة تعبيرها، وخفة دم شعاراتها التي امتزجت فيها روح الدعابة الذكية المصرية مع طلب الحق. وعندما هوجموا بالحجارة لم يردوا إلا بنفس الحجارة، وعندما حاول الرئيس والأعوان سحب البساط من تحت أقدامهم بشكل أو بآخر لم ينخدعوا ولم يتزلزلوا، ثم عندما قرروا مغادرة الميدان بعد خلع الرئيس قاموا بتنظيفه وصبغ أرصفته، وهو ما لم يقم به ثوار قبلهم. واليوم، بعد تسعة أشهر، لا يزالون واعين للمخاطر، خصوصاً من طرف دعاة التدين السلفي الذين كانوا ضد الثورة كمسألة مبدأ لأنه خروج على الحاكم، بل كانوا يحرمون التظاهر فحسب، ثم ركبوا الموجة (ربما بأمر من جهتهم العليا في شبه الجزيرة العربية، وإلا لماذا رفع العلم السعودي في إحدى الجمعات)، وسيكونون عنصر تخريب للمجتمع المصري ونسيجه المتآخي بسبب تلك الروح الطائفية التي عندهم – فإن الطائفية إذا كانت في مجتمع متعدد المذاهب فهي ضد الآخر من المذهب الآخر، وإذا كانت في مجتمع متعدد الأديان فهي ضد الآخر من الدين الآخر –، وهؤلاء هم أشد أعداء الشيعة في المجتمعات التي تضم مواطنين شيعة وأشد أعداء المسيحيين في المجتمعات التي تضم مواطنين مسيحيين.
المهم هنا هو أن الشباب المصري أرانا أن الأمة من الممكن بعث الروح في الأمور الثلاثة التي ذكرتها مراراً: الهدف والوسيلة والنفس – فقد كان الهدف واضحاً عندهم، وكانت الوسائل وسائل جديدة ناجحة وكلها وسائل سلمية، وكانت نفوسهم سخية في التضحيات حتى الموت كما كانت نفوساً محبة للآخر.
شباب البحرين وشباب اليمن: هؤلاء أثبتوا أنه من الممكن الثبات على استخدام الوسيلة السلمية حتى مع استمرار الاستفزازات من رجال الأمن، ثم بداية القمع، ثم اشتداده حتى سقوط الجرحى والقتلى. ولعل الأمر في حالة اليمن أكثر وضوحاً، فإن شعباً يلبس السلاح في كل وقت، وعنده عشرات الملايين من قطع السلاح، وهو بعدُ شعب عشائري، يستطيع البقاء تسعة أشهر إلى الآن على ذات الطريقة السلمية التي تنادي برحيل الرئيس وتغيير النظام إلى نظام ديمقراطي حقيقي، لهو شعب حي بدأ عهداً جديداً لا شك في ذلك. ولا عجب أن يتحقق هذا بعد أن قال النبي (ص): ((الإيمان يماني والحكمة يمانية))، ولا عجب بعد اليوم من قول الإمام (ع) عن أنصار الإمام المهدي المنتظر (ع)، وهو يعدد الخراساني والمصري والمغربي واليماني، فيقول: ((وليس هناك أهدى من راية اليماني)).
وأما شباب البحرين، فقد ذكرنا أنهم استطاعوا الاستمرار بصبر عجيب، ليس على القمع المستمر لقوات البحرين والقوات السعودية وغيرها الخليجية (التي استأسدت على الشعب الصغير الأعزل)، ولكن أيضاً على الإهمال الواضح المؤلم جداً لأشقائهم العرب من حكومات وسياسيين وإعلام، ما عدا الشيعة الذين تعاطفوا معهم معرفة منهم بمظلوميتهم، وهو ما من شأنه تغذية الشعور الطائفي عند البحرانيين، الأمر الذي نرجو أن لا يحصل، بل أن يستمروا بانتهاج ذلك المنهج الأعلى لأئمتهم وسادتهم من آل محمد (ص) الذين عضوا على الجراح من أجل وحدة الأمة وقوتها والحفاظ على مقدراتها.
المؤمنون إخوة - خاتمة
أخيراً، يقول تعالى في كتابه العزيز: ((إنما المؤمنون إخوة)) الحجرات:10. هذه الجملة القصيرة تستحق وقفات ووقفات، في صياغتها اللغوية وفي معناها وفي الآفاق التي تفتحها. فهي تستخدم كلمة الحصر "إنما" التي تشير إلى شدة أهمية الأمر بعدها، فكأنها تحصر حقيقة "المؤمنون" بصفة "إخوة"، وعليه فلا معنى لوجود مناوئة ولا عداوة ولا عقد ولا حواجز ولا غيرها مما لا ينبغي أن تكون موجودة بين الإخوة.
من الممكن أن يكون المؤمن جار المؤمن، أو صديقه، أو زميله في العمل، أو قريبه، أو صهره، أو رئيسه، أو مرؤوسه، أو ما شئت من العلاقات الاجتماعية، ولكن القرآن الكريم استخدم أخوته له، وهي نفس الأخوة التي وجدنا النبي (ص) يعبر بها جميع العلاقات الأخرى بينه وبين علي (ع) – أي القرابة، فهو ابن عمه، والمصاهرة، فهو زوج ابنته، والرئاسة، فهو مرؤوسه، والقيادة، فهو جندي تحت قيادته، والتابعية، فهو تابع له، والتربية، فهو ربيبه، والسر، فهو صاحب سره، وغيرها من العلاقات المتميزة لعلي (ع) بالنبي (ص) – ويؤاخيه (ع) بنفسه الزكية (ص)، وذلك في المؤاخاة الأولى بين المسلمين في مكة، ثم المؤاخاة الثانية بين المسلمين في المدينة عندما آخى بين كل مهاجر وأنصاري، ولكنه (ص) استخلص علياً (ع) لنفسه مع أن الاثنين مهاجران...
إذاً، القرآن يصف المؤمنين بصفة، ويجعلها حصرية، هي الأعلى بين الصفات – صفة الأخوة.
وعليه، فإن الذي ينظر إلى المسلم المؤمن الآخر على أنه عدو وليس أخاً إنما يدير ظهره لهذه الآية الكريمة، بعبارة أخرى، هو يرفض قول الحق تبارك وتعالى. لذا، ينبغي لكل مؤمن النظر في دخيلة نفسه عندما ينظر إلى المؤمنين الآخرين.
ولكن، تبقى نقطة، - والمتعصبون لا يتركون أمراً وشأنه! ما هوتعريف الإيمان؟
قال المتعصبون من أهل السنة أن من يتناول الصحابة منافق، وعللوا ذلك أن الصحابة هم الذين حملوا إلينا الدين وعليه فمن ينتقصهم وينتقدهم يريد هدم الدين فهو منافق، إذاً فهو غير مؤمن – وبالتالي فلا تنطبق عليه الآية الكريمة.
وقال المتعصبون من الشيعة أن من لا يؤمن بإمامة علي (ع) وأولاده الأئمة (ع) مسلم وليس مؤمناً، لأن الإيمان لا يتم إلا بولاية الأئمة (ع)، وعليه فإن السني هو مسلم وليس مؤمناً – وبالتالي فلا تنطبق عليه الآية الكريمة.
والحقيقة – فيما يراها كل من طالع آراء العلماء، عدا الآراء الشاذة – غير هذا. ومن لم يطالع آراء العلماء، أو لا يريد، أقول له الآتي:
إن الشيعي لا ينتقص جميع الصحابة، بل إنه – حاله حال السني – لا يعرف الغالبية العظمى من الصحابة، فهم بعشرات الألوف، ولكن ينتقص وينتقد ويناوئ ويعادي قلة قليلة، ليس دون سبب، وإلا يكون معادياً للدين منافقاً فعلاً، ولكن لأنهم ما بين غاصب لحق علي (ع) في تبوأ مكان الإمامة السياسية، أي الخلافة، بعد وفاة النبي (ص) مباشرة، ومعين لهم على ذلك، وساكت عليه؛ وهم يقفون هذا الموقف بعد أن دلهم الدليل من القرآن والسنة على إمامة أهل البيت (ع)، ودلهم الدليل من قرآن وسنة وتاريخ على ما جرى في التاريخ مما يدعم رأيهم.
إن الشيعي لم يخسر علوم الدين عندما ترك الصحابة والأحاديث التي جاءت عنهم، وذلك لأنه أخذ العلوم من النبي (ص) والأئمة (ع)، أيضاً عن طريق أصحابه (ص) وأصحابهم (ع)، وإلا كيف وصلت إليه العلوم التي يسير على هديها في العقيدة والشريعة؟ بل أنه وجد القرآن والحديث يأمران بعدم الذهاب إلى طريق آخر غير طريق أئمة أهل البيت (ع) فخضع للأوامر.
إن الصحابة لا مدخلية لهم في الدين من ناحية العقيدة أو الشريعة، بمعنى أن الإنسان المسلم إذا قضى مدة عمره وهو لا يعرف اسم صحابي واحد فإن ذلك لن يؤثر على صحة عقيدته وأدائه الفروض الدينية، ولكن أهل البيت (ع) لهم مدخلية كونهم المؤتمنين على الشريعة حسب الدليل الذي ثبت عند الشيعي. وحتى عند السني، فيمكن أن يعيش عمره كله يقيم الفروض الدينية وهو لا يعرف اسم صحابي واحد ولكنه مجبر على أن يصلي على آل محمد (ص) في كل صلاة يومية، مهما كان علمه محدوداً وأنى كانت لغته أو قومه أو مكانه أو زمانه – وإني سأعجب إذا ما فعل المرء ذلك ولم يسأل عن هؤلاء الذين يصلي عليهم كل يوم في كل فرض.
وأما في الجانب الآخر، فإن علماء الشيعة قالوا بأن من كمال الإيمان الاعتقاد بإمامة الأئمة الإثني عشر من آل محمد (ص)، ولكن لا ينتفي الإيمان بعدم الاعتقاد بهم إذا لم يثبت للمسلم ذلك. أي، إذا درس الأمر ولم يقتنع حقاً وصدقاً بالدليل الذي يقدمه الشيعة – من قرآن وسنة وتاريخ وسيرة وعقل – فليس عليه شيء، ولكنه لن يحصل على الثمرات العليا للإيمان؛ أما إذا اقتنع ولكنه بقي معانداً لا يعترف به فلا شك في أن هذا يشرك بالله لأنه يرد الدليل القرآني والحديثي وبالتالي فإن إيمانه مشكوك فيه. مع ذلك، يبقى من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم.
وقد صرح علماء الشيعة (كالشهيد الثاني، أو السيد الخوئي من المعاصرين) بأن كلمة "المؤمن" في القرآن تعني المسلم الذي يؤمن بالله ورسوله (ص)، وعليه فإن الآية الكريمة تنطبق على المسلم السني (الذي لم يطلع على دليل إمامة أهل البيت (ع) أو الذي يطلع ولم يقتنع حقاً)، وأن تخصيص صفة المؤمن بمن آمن بولاية أهل البيت (ع) إنما كان بعد زمان النبي (ص)، أي كأنه المصداق الأصح للمؤمن لأنه يؤمن بالله ورسوله (ص) وبإمامة آل محمد (ص) أيضاً، (وإن كان البعض قال بأن الإمامة بعد فرضها صارت لازمة لصفة الإسلام).
وما قلته قبل قليل من أن الفارق هو في درجة الإيمان يدل عليه أحاديث كثيرة، منها تفسر القرآن، كآية ((وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى)) طه:82، والتي فسرها الإمام الصادق (ع) بأن ((ثم اهتدى)) تعني الاهتداء إلى ولاية علي وأولاده (ع)، على أساس أن التوبة والإيمان والعمل الصالح هي من لوازم المسلم عموماً، ثم تأتي الهداية إلى الولاية لتحقق هذه المغفرة المتواصلة من المولى عز وجل – والشاهد هنا هو أن الإمام (ع) يؤكد أن ((من تاب وآمن وعمل صالحاً)) هو المسلم غير الموالي، فيكون الإيمان منطبقاً عليه، وإن بدرجة أقل.
أو حديث النبي (ص): ((من مات على حب آل محمد مات شهيداً)) إلى قوله (ص): ((ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان))، والشاهد كلمة ((مستكمل الإيمان)). (مع نقطة تستحق البحث، وهي "حب آل محمد" التي ذكرتها في العديد من أحاديث أهل البيت (ع)، ذلك الحب الذي يجعل المسلم الشيعي غير الملتزم بالإطار الديني الذي يتوجب لشيعة آل محمد (ص) مشتركاً مع المسلم السني في الحال، وهي عدم الانطباق الحقيقي لصفة التشيع عليه، ولكن صفة المحبة والمودة، والتي من شأنها انقاذه في الآخرة – حاله حال السني المحب لأهل البيت (ع) الذي لا يبغض شيعتهم وهو يعلم أنهم شيعتهم.)
إضافة إلى كلمات بعض كبار العلماء، كالشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: "فمن اعتقد بالإمامة بالمعنى الذي ذكرناه فهو عندهم – أي الشيعة – مؤمن بالمعنى الأخص، وإذا اقتصر على تلك الأركان الأربعة فهو مسلم ومؤمن بالمعنى الأعم تترتب عليه جميع أحكام الإسلام من حرمة دمه وماله وعرضه ووجوب حفظه وحرمة غيبته وغير ذلك لأنه بعدم الإعتقاد بالإمامة يخرج عن كونه مسلماً (معاذ الله)، نعم يظهر أثر التدين بالإمامة، في منازل القرب والكرامة يوم القيامة، أما في الدنيا فالمسلمون بأجمعهم سواء وبعضهم لبعض أكفاء، وأما في الآخرة فلا شك أن المسلمين تتفاوت درجاتهم ومنازلهم حسبت نياتهم وأعمالهم، وأمر ذلك وعلمه إلى الله سبحانه ولا مساغ للبحث به لأحد من الخلق " (أصل الشيعة وأصولها ص60).
فليتق المسلمون الله في أنفسهم وإخوانهم في الدين – وهم كل مسلم شهد لله بالوحدانية ولمحمد بن عبد الله (ص) بالنبوة والرسالة والخاتمة وآمن باليوم الآخر – فلا يخرجوا من يشاؤون من الإيمان فيهدموا ما بناه الله ورسوله (ص) وأئمة الدين (ع) وصلحاء المسلمين عبر التاريخ، ولا سيما في العصر الأول، ولا يساهموا في ترسيخ الضعف والتمزق في أمتهم، بل ليسهموا في محاربة هذا الضعف وإنهاء هذا التمزق، لتحقيق النهوض الذي لا بد وأنه في مخيلة كل مسلم غيور على دينه حريص على أمته يعاني لمعاناة المسلمين، بل الناس أجمعين، ممن ظلمهم اتباع الهوى والجشع والبعد عن الله ورسوله (ص) ودينه الخاتم، حتى صارت البشرية تئن اليوم من ثقل الأوزار، وتتطلع إلى المخلص الذي يقودها – بدين الله الحق – إلى الخلاص...
نسأل الله تعالى أن يعجل فرج وليه الأعظم من آل محمد (ص) إنه سميع مجيب...