في أي مشروع من المفيد أن يتم الانتباه منذ البدء إلى مواطن الضعف التي يمكن أن تؤدي إلى الفشل من أجل إدراجها في جدول العمل ذاته، وإلا ستضيع جهود كبيرة ووقت طويل وأموال يمكن أن توظف لما هو أفضل. ولا يخرج مشروع التقريب بين المذاهب الإسلامية، بمعنى بين أتباع المذاهب الإسلامية (راجع مناقشتي للمصطلح ذاته في حلقات سابقة)، عن هذا.
فإذا قمنا بذلك، فنظرنا إلى ما يمكن أن يعرقل جهود التقريب نجده أيضاً يتشابه مع غيره. خذ مثلاً مجموعة من الأصدقاء ينوون تأسيس مطبعة لطباعة الكتب السياسية والاجتماعية والدينية – الذي يبحث في المعرقلات الممكنة فإنه يجدها في الأمور الثلاثة الواردة في التعريف: الأصدقاء والمطبعة ونوعية الكتب. ذلك لأن الأصدقاء لهم أمزجة مختلفة وذهنيات مختلفة ونفوس ربما انطوت على عقد أو مشاكل كامنة غير ظاهرة حتى باتجاه الآخرين الذين ينوون مشاركتهم في المشروع. أما المطبعة فإنها يمكن أن تحمل معها جملة من المشاكل الفنية والاقتصادية سببها اختلاف أساس التصنيع والمنشأ والقدرات الطباعية وما تحتاجه من مواد وما تحتاجه من صيانة وقطع غيار وما ربما تحتاجه من تدريب أولي للعمال وغيرها. الكتب التي ينوون طباعتها فيها محددات سياسية خصوصاً إذا كان المشروع في بلد يحكمه التسلط ومنع الرأي الآخر، ومحددات اجتماعية تمنع حرية تناول بعض المواضيع الحساسة أو التي تثير الرأي العام، ومحددات دينية تمنع المس بالمقدسات أو ما يعتبره المجتمع أو بعض أفراده من المقدسات، وهكذا. بعبارة أخرى، أن المعوقات الممكنة تتمثل في النفس والوسيلة والهدف.
أسباب الفشل
ولا يخرج موضوع التقريب عن هذا، فإن المعوقات هي:
-
في نفوس المساهمين في عملية التقريب، وأيضاً في نفوس أصحاب ردود الفعل على العملية
-
في وسائل العمل من مؤتمرات وندوات ولقاءات وإعلانات وكتابات
-
في الهدف من التقريب – هل هو دمج المذاهب في فكرها وعقائدها، أم تقريبها في فكرها
وعقائدها، أم تقريب أتباع المذاهب وإزالة التباعد والتباغض وإحلال المحبة وروح التعاون؟
والآن، لو تناولنا هذه المعوقات واحداً واحداً فإننا سنجدها كلها تدور حول السبب الأول وهو ما في النفوس، أي الجانب الشخصي.
وهذا هو الآخر مورد تماثل مع غيره من المشاريع. فإن مشروع المطبعة المذكور مثالاً أعلاه سيجد أن ما يتعلق بالمطبعة نفسها سيتم الوصول إلى قرارات وحلول حوله بحيث ستعمل المطبعة كما يجب، وأن ما يتعلق بالكتب سيمكن التعامل مع محددات سوقها بتجنب طباعة ما يمكن أن يمنع أو يثير الحساسيات، إلا أن أي مشاكل في داخل نفوس الأصدقاء أصحاب المشروع ربما يبقى كامناً ولا يؤدي إلى ضرر بالمشروع نفسه، ولكنه من الممكن أن ينفجر في أي مرحلة من مراحل تنفيذ المشروع، حتى في بدايته في خلافات على الأمرين الآخرين: المطبعة والكتب، أي الوسيلة والهدف. نعم، كثرما يصادف الشركاء مشاكل تنبع من اختلاف العقليات، ولكن هذه يمكن تجاوزها إذا خلصت النيات وتجاوز الشركاء الأنانية والكبر والأثرة، وهي المشاكل النفسية التي تندرج في الأمر الأول.
إلا أن موضوع التقريب أعقد كثيراً لأنه يمس المقدسات ويمس علاقة الإنسان المسلم بربه، وبالتالي فإن ما في النفوس سيكون من الصعب التعامل معه لأنه حرارة المواضيع ذات العلاقة أشد من أن يحتمله الناس، فإن احتمله الخاصة المتصدون أو المهتمون، فإن العامة لا تحتمله وستؤثر بدورها على الخاصة، بل أن بعض الخاصة المعارضين المشككين المتزمتين المتعصبين سيثيرون العامة لإبداء المعارضة عالية الصوت لإفشال المشروع.
الأساس هو الفشل على المستوى الشخصي
المفروض أن العلماء سيتعاملون مع الأمر بعقلية علمية تنظر إلى الدليل والحجة وتبحث فيما عندها وما عند المقابل، ولكن الواقع هي أنهم يعيشون أسرى العقد الطائفية التي تأسست من أقوال علماء سابقين وضعوا الطرف المقابل في إطار إما خارج عن الإسلام بالكلية أو إطار الانحراف والفسق.
إن التوجيه القرآني ((إدفع باللتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)) يردف ذلك بالقول ((ولا يلقاها إلا الذين صبروا، ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم)) فصلت:34 ليقول لنا أن تجاوز الإحساس بالظلم الذي أوصل الطرفين إلى درجة العداوة بحيث يتم التعامل مع الآخر المعادي ليس وكأن شيئاً لم يكن، ولكن كولي، بل ولي حميم، يقول لنا أن هذا يحتاج إلى صبر وحظ عظيم بهدي من الله ورحمة، وما ذلك إلا لأن النفس ستكون عصية على الإنسان في اتخاذ مثل هذا الموقف الذي يسيطر على الحالة العدائية حتى ولو كان مظلوماً.
هؤلاء العلماء المشاركون في جهود التقريب، كم منهم يتحدث بصراحة مع الطرف المقابل؟ كم منهم يضع على الطاولة جميع أحاسيسه وعقده تجاه المقابل كي يدرج في جدول الأعمال؟ فإذا لم يفعلوا ذلك، وهم لا يفعلون ذلك مطلقاً، فهل أنهم غافلون عن دور هذه الأحاسيس والعقد الطائفية، أم أن الشجاعة تعوزهم، أم يمارسون المجاملات فحسب وعندما ينتهي المؤتمر أو الندوة يعودون إلى مواقعهم وهم كما هم؟
ولكن كيف نطلب من هؤلاء التصريح بما في نفوسهم في الحوار عبر المذاهب إذا كان العلماء داخل المذهب الواحد والحركة الواحدة يفشلون فيه؟ كم نسمع أن العالم المرجع الفلاني عنده موقف سلبي من فلان أو من القضية الفلانية، ثم يتوجه الناس بالسؤال إليه فينكر، ثم يعود معاونوه للتأكيد على موقفه السلبي ذاك، فلا يدري الناس هل أن الخبر صحيحاً أم لا؟ فإذا كان صحيحاً فلماذا أنكر؟ وكيف ينكر بينما يؤكد الأعوان ذلك؟ هذا عالم واحد وخبر واحد، فكيف بالتقريب بين مذاهب تعيش هذا الحال من التباعد وسوء الظن.
مسألة أخرى: الخلل في الأولويات، أو في سلم الأهمية. القرآن ذاته يفتح المجال أمام الحوار حول كل شيء وبضمنه وجود المولى عز وجل، وبأنواع الطرق الجميلة في حججها وتعبيرها، ولكن أصحاب المذاهب يجدون من الصعوبة بمكان الحوار حول رجال ونساء من السلف صار بعض الأمة يقدسهم والبعض الآخر يطعن فيهم، مع أن المعنيين أنفسهم لم يكونوا يرون في أنفسهم تلك القداسة. بل أن البعض يذهب إلى الحوار العلمي مع من لا يؤمن بالله تصريحاً أو تلميحاً، ولكنه لا يستطيع الدخول في جهد تقريبي مع من يؤمن بالله ويقوم بالتكاليف الشرعية لأنه يطعن في بعض الأفراد من السلف، فكأن هؤلاء الأفراد صاروا أهم من المبادئ. وحتى إن قبل في الحوار فإنه وضعه النفسي يكون في حالة أخرى ملؤها التشنج والتوتر والعيون الحمراء.
التكفير
إننا لا نستطيع أن نلوم هذا الشخص كثيراً إذا كان لا ينظر إلى الطرف المقابل أنه جزء من المسلمين. وهذا لم يزل المسلمون يعيشونه منذ بدأ تيار التكفير الخارجي أيام الإمام علي (ع)، وكان يشتد ويضعف حسب الظروف السياسية غالباً، ولكن أيضاً إذا ما ظهرت شخصيات نفوسها انطوت على الحقد والكراهية ولم تكن تجد موانع شرعية من رمي الآخرين بالكفر لأقل شبهة، بل حتى بالافتراء الواضح أحياناً.
أنظر إلى الطرفين في هذه الرواية (تفسير فرات الكوفي سورة ص) التي تقول أن الإمام جعفر الصادق (ع) سأل رجلاً عن مخالطيه من المذاهب الأخرى، فقال: "جعلت فداك لنحن عندهم أشر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا!" ثم طلب إعادة قوله فأعاده، فقال (ع): ((أما والله لا يدخل النار منكم اثنان، لا والله ولا واحد، والله إنكم الذين قال الله تعالى: "وقالوا مالنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار إن ذلك لحق تخاصم أهل النار)) ثم قال: ((طلبوكم والله في النار والله فما وجدوا منكم أحداً)). الشيعي الذي يقرؤها ويسمعها يشعر بالظلم من المسلمين الآخرين الذين يضعونه هذا الموضع، وربما سمع ذلك من قبل فيتركز في نفسه، ولكنه يرتاح لتطمين الإمام (ع) له ووعده بالجنة، ثم يجد الإمام (ع) يعد أولئك التكفيريين بالنار من خلال الآية الكريمة.
رواية أخرى (صفات الشيعة للصدوق حديث 29) عن الصادق (ع) يصف شيعته ويصف الآخرين: ((همكم معالم دينكم، وهم عدوكم بكم وأشرب قلوبهم لكم بغضاً، يحرفون ما يسمعون منكم كله و يجعلون لكم أنداداً ثم يرمونكم به بهتاناً فحسبهم بذلك عند الله معصية)). فهي تمدح الشيعة وتقول لهم بأن أعداءهم همهم في عداوتهم لهم، وأن نفوسهم امتلأت لهم كراهية؛ أكثر من ذلك، نتيجة الكراهية والبغض أنهم يحرفون ما يقوله الشيعة ثم يجعلونه تهماً لهم بالباطل. إذاً، تركز حالة العداوة في الطرف الآخر للشيعة، وسوف تجعل الشيعي يفكر كثيراً قبل أن يمد يده للآخر لأنه لا يدري على ما انطوت نفسه.
طبعاً، هذه الاتهامات من الطرف إلى الطرف الآخر ليست وقفاً على السنة ضد الشيعة، بل هي منتشرة بين الجميع. فطالما أن السنة يحبون بعض مناوئي أئمة أهل البيت (ع) إذاً هم لا يحبون أهل البيت (ع)، مع أن أهل السنة إنما يحبون أولئك الخصوم جهلاً منهم بحقائق الأمور حسبما تراه الشيعة، كما أن الناس تسير مع توجيهات العلماء الذين ذكرنا كيف أن الكثير منهم أسرى الحساسيات والرواسب والجهل والمصالح.
أشد تأثيراً ربما هم الخطباء والوعاظ، ومنهم من لا ينتخب في تواصله مع الناس إلا ما يثير الحساسيات والمخاوف وسوء الظن وكراهية الآخرين. فمثلاً، إن من يوصل إلى الناس أمثال الأحاديث الواردة أعلاه لا يوصل إليهم أحاديث أخرى تدعو إلى النظر إلى الآخرين على ضوء المعيار القرآني الصحيح. مثال على ذلك رواية (بحار الانوار مجلد 65 ص164) تروي عن زرارة (وهو من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (ع)) قوله: "دخلت أنا وحمران على أبي جعفر (أي الباقر) عليه السلام فقلنا: إنا نمد المطمر، فقال: ((وما المطمر؟)) قلنا: الذي من وافقنا من علوي أو غيره توليناه، ومن خالفنا برئنا منه من علوي أو غيره؛ قال: ((يا زرارة قول الله أصدق من قولك، فأين الذين قال الله: إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً)) أين المرجون لأمر الله؟ أين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً؟ أين أصحاب الأعراف؟ أين المؤلفة قلوبهم؟)) فقال زرارة: إرتفع صوت أبي جعفر وصوتي حتى كان يسمعه من على باب الدار، فلما كثر الكلام بيني وبينه قال لي: ((يا زرارة حقاً على الله أن يدخلك الجنة))".
فهذه الرواية تبين: أولاً أن المخالفين يدخلون في أقسام مختلفة منها من صاروا في المخالفين عن جهل ومنهم من أمره إلى الله فلا يجوز إعطاء رأي حاسم بشأنه ومنهم من خلط عمله السيء في مخالفة أهل البيت (ع) بأعماله الصالحة وغيرهم؛ ثانياً أن بعض شيعة أئمة أهل البيت (ع) أشد على المخالفين من أئمتهم (ع) وهذا لا يكون إلا نتيجة غلبة العاطفة وتوجع القلب على ما جرى عليهم (ع) على التقييم العقلي المطلوب. على أية حال، مثل هذه الرواية تخفف من حدة التوتر عن طريق التذكير بالمعايير القرآنية، والتي أخذت من تطبيق المعصوم (ع) نفسه وليس من اجتهاد مجتهد.
أما أسباب هذا التوجه فهي الجهل بما يقوله الآخر أو ما يقصده، فيتوجه الناس إلى رمي الآخر بالانحراف أو البدعة أو الفسق وحتى الكفر، وكل ذلك دون حاجز من تقوى وكأنهم لا يقرؤون قوله تعالى ((يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن)) الحجرات:12. حتى مسألة التقية التي يرمى بها الشيعة دائماً من أجل نسف إمكانية اللقاء (على أساس أن اللقاء لا بد أن يعتمد على الصدق فإذا كان الشيعة يقولون شيئاً وهم يكتمون غيره فلا داعي لإضاعة الوقت معهم) إنما هي مبدأ إنساني قرآني عام هدفه حفظ النفس، ولطالما كان الشيعة – ولا يزالون – عرضة للقتل لتشيعهم. ولكن السني الذي يملؤون رأسه بهذه التهمة ضد الشيعة لا ينتبه إلى أنها مبدأ عقلائي أقره القرآن الكريم (كما في قصة عمار بن ياسر المعروفة)، ولا ينتبه إلى أنه هو نفسه يمارسها للحفاظ على نفسه، وإلا ما هذا النفاق والتزلف المنتشر للحكام بل حتى لشرطتهم ومخبريهم إن لم يكن لحفظ المال والنفس والعرض من تعدي هؤلاء الذين لا يقيمون للإنسان وزناً؟ ولا ينتبه إلى أن الشيعة صاروا ينشرون أفكارهم في كل مكان، فأين التقية من كل هذا؟ ولكنه أحد المعاول لضرب محاولات بناء الجسور.
النتيجة: الانعزالية والانغلاق
نتيجة تلك الاتهامات وتلك الروايات – حتى على صحتها، وبعضها صحيح لا شك في ذلك – هي ابتعاد كل فريق عن الفريق الآخر إلى درجة الانعزال، شبه التام أحياناً، والانغلاق على النفس، بحيث يشمل معظم أتباع المدارس المختلفة حتى الذين لا اهتمام لهم في هذه القضايا أو الذين لا تعصب فطري عندهم أو مزاج متواءم مع هذا النهج. ولا يشعر فرد من هؤلاء بهذا الواقع المؤسف إلا عندما يجد نفسه على مقربة من غيره من المدرسة الأخرى، سواء في ساحة دراسية أو وظيفية أو علاقة اجتماعية أو علاقة عمل، فيشعر بأن روافد تكوينه تختلف في الكثير منها عن روافد تكوين ذلك الآخر، فيذهل عن حقيقة أن أهم روافد ذلك التكوين هي المشتركات من إيمان بالتوحيد والنبوة والمعاد، والاشتراك في وطن واحد أو قومية واحدة أو نشأة متشابهة في مجتمع واحد.
وليس هناك بيئة أفضل لنمو الافتراءات والتهم، ثم تصديقها، ضد الآخر من بيئة الانعزال والانغلاق، لأن الآخر غير موجود ليرد على ما يتهم به ويفترى عليه، ما يؤدي إلى اشتداد الاتجاه بعيداً عن هذا الآخر، في تجاف يصل إلى الكراهية التي ستؤثر قطعاً على التقييم العقلاني المطلوب.
على أن هناك من لا يجد في الانعزال والانغلاق مشكلة، بل يجد أنه هو الالتزام الحقيقي بالدين لأن الآخرين ليسوا سوى منحرفين فأي اقتراب منهم هو اقتراب من الانحراف، فيكون مزعجاً ومضيعاً للوقت لمن لا يخشى عليهم التأثر، وخطيراً على من يمكن لهم أن يتأثروا بالانحراف. لذا، لا يجد هؤلاء حرجاً من التركيز على الاختلافات وإهمال المشتركات، ولما كانت الاختلافات في الحالة الإسلامية، أي بين المذهب السني والشيعي، نشأت نتيجة الخلاف بين المسلمين في الصدر الأول فإن من المنطقي أن يكون التركيز على أولئك الأشخاص لا ما يمثلونه من قيم يؤمن بعلوها هؤلاء أو هؤلاء. ويصل الحد إلى درجة ضعيفة من نوع الالتزام بالهوية بحيث تصبح تسمية مولود أو متجر باسم هذه الشخصية أو تلك ليس فقط من باب الاعتزاز بها ولكن أيضاً من باب ضرب الآخر بسهم من بعيد!
ويقوم بعض العلماء بدورهم في هذا النهج الانعزالي الانغلاقي التمزيقي وذلك بنسف أي إمكانيات لمد جسور التفاهم أو تخفيف حدة التوتر. مثلاً يجعلون من "خالفوهم" مبدأً فقهياً، فتكون السنّة هي التختّم باليمين فتصبح بالشمال لأجل المخالفة ليس إلا، أو أن تأتي رواية تقول أن صلاة المغرب تحين عند سقوط القرص من المغرب وأخرى تقول أنه عند غياب الحمرة المشرقية فيتم تفضيل الرواية الثانية لأنها فيها عزلاً للأتباع عن الآخرين. حتى شكل اللحية صار عنواناً لهذا المذهب أو ذاك مع أنها أمر ثانوي تماماً.
وإذا ما جوبه أمثال هؤلاء بأنه على الرغم من أن بعض أمور الخلاف رئيسية إلا أن الكثير منها ثانوية فإنهم يبدؤون بتعداد نقاط الخلاف في أصول الدين ذاتها، من حيث الاختلاف في الله تعالى – الصفات والذات – والعدل الإلهي وعصمة النبي (ص) ورؤية الله في المعاد وتفسير بعض آيات القرآن، لينتهوا إلى أن الخلاف أكبر من أن يعالج.
ولا شك أن شخصاً مثلي بحث في الخلافيات بين المدرستين وتوصل إلى وجود اختلافات في جميع هذه الأمور لا يحتاج إلى "تشجيع" على الانعزال والانغلاق، ولكن النظر في أمرين:
الأول، هو نقاط الاتفاق الأساسية في كل من الأمور الخلافية في الأصول تبقى أكبر، فإن الإيمان بوجود الله وتوحيده توحيد الألوهية والربوبية والحاكمية والرازقية وغيرها يبقى أهم من جميع الاختلافات حوله سبحانه؛ كما أن الإيمان بنبوة محمد (ص) وكونه خاتم المرسلين وسيد الخلق أجمعين المتفق على البخوع لأوامره ونواهيه – حسب ثبوتها من مصادرها – وأن قوله وفعله وتقريره حكم لازم للمسلمين حيثما كانوا وفي أي زمان عاشوا يظل أكبر من الخلاف حول الأمور الأخرى؛ حتى الإمامة فإن الاتفاق على أصل الإمامة ثم على لياقة أهل البيت (ع) للإمامة يظل عنصراً هاماً في تهدئة النفوس التي تحترق لظلامة أهل البيت (ع) وتلك النفوس التي تحترق للنيل من الصحابة... وهكذا؛
الثاني، هو النظر في "فوائد" الانعزال والانغلاق مقابل "فوائد" التواصل والانفتاح، وذلك فيما يخص تطور الأمة الذي تحتاج لأجله الهدوء والسلم الأهلي وإشاعة روح المحبة والتعاون، وما يخص الدفاع عنها ضد أعدائها ومؤامراتهم وهجماتهم المستمرة.
فشل المفكرين
ربما يظن البعض أن هذا الفشل لا ينطبق على المفكرين الذين يفترض أن العنوان ينطبق عليهم تماماً لا جزافاً، سواء أكانوا مفكرين إسلاميين أم علمانيين أم لا دينيين. فالجميع تجدهم – أو معظمهم – يفشلون في التخلص من رواسب التنشئة الطائفية التي تفعل فعلها في التقييم العقلاني المنتظر منهم والذي يقدمونه للناس في جهودهم الفكرية. يبحث الواحد منهم في قضية خلافية أو القضية الطائفية بالخصوص فتجده يحاول منذ اللحظة الأولى إثبات أن وجهة نظره هي الحق وأن الآخر باطل؛ فإذا ما كان أكثر إنصافاً مع الحق فصارع دخيلة نفسه وحاول طرح حجج الآخر فإنه إنما يفعل ذلك لكي يفندها؛ فإذا وجد أن هذه الحجج قوية فإنه إما أن يقلل من شأنها أو يأتي بأجوبة لها ويعلن أنها تثبت وجهة نظره حتى وإن كانت الأدلة غير مقنعة، أو أن يلغي حجة الآخر بالتشكيك في أصالتها أو مصدرها.
أما إذا وجد شيئاً يدين الآخر فإنه الصيد الثمين الذي يجعله يصول ويجول لتسقيط الآخر، حتى وإن كان هذا رواية مشكوك في صحتها عند الآخر نفسه، أو لها دلالات غير التي ذهب صاحبنا إليها، أو هناك ما يعارضها ولكنه غفل أو تغافل عنها؛ وحتى لو كانت وجهة نظر الآخر فهو يجعلها مبدأً من مبادئ المذهب الآخر ويؤسس عليها حكماً على جميع أتباع ذلك المذهب.
وكل ذلك في غياب للتقوى التي ينبغي أن تعين صاحبنا على تحري الدقة وعلى الإنصاف حتى مع المخالفين، بل الأعداء، كما نعلم ويعلم هو من خلال التوجيهات القرآنية الواضحة في اجتناب الظن وفي تحري العدل حتى مع الذين نحمل لهم الشنآن وعلى عدم القول إلا بعد التأكد لأن السمع والبصر والقلب مسؤولون أمام المولى عز وجل. وكل ذلك في غياب الذهنية العقلانية التي تنتظر من "مفكر".
على أن هناك نقطة مهمة: إن هؤلاء "المفكرين" ليسوا أحراراً فيما يفعلون كما عامة الناس الذين يطلق الواحد منهم القول دون تدقيق ودون الحرص على مشاعر الآخر أو على ما يمكن أن تفعله الكلمة في المجتمع، بل هم مسؤولون لأن المعرفة التي عندهم تضعهم في دائرة المسؤولية، فإذا ما كان أحدهم يشغل موقعاً مؤثراً – في الإعلام أو السياسة أو الأدب أو الفن أو غيرها – فإنه يصبح مسؤولاً عن كل كلمة يقولها. إن الشعور بالتعالي على المجتمع الذي يجعل البعض من هؤلاء يشعر بأن من حقه قول أي شيء يساهم بشكل أو بآخر في التمزق والتشتت والانعزال والانغلاق في الجانب المذهبي.
فشل ونجاح
على الرغم من أن جهود التقريب لا تحقق إلا القليل، هذا مع أنها ضعيفة في الأساس – وهكذا فإن القليل الضعيف لا ينتظر منه الكثير، ولكن ما تحقق حتى أقل مما ينتظر من هذا القليل، وذلك للضعف في النفس والوسيلة والهدف كما قلنا أولاً، إلا أن الجهد ليس ضائعاً تماماً، بل أن هناك أمراً في غاية الأهمية تحقق وظل متحققاً يقاتل من أجل الترسخ، وهو كسر المعوق الأول وهو عدم اللقاء.
إن اللقاء يعد بحد ذاته نجاحاً، وهذا ليس من قبيل جبر الخواطر ومحاولة طمأنة النفس أن هناك أملاً في مثل هذه الجهود النبيلة، ولكنه إيمان حقيقي بأن اللقاء أمر مهم لأنه يعالج أول الأمور التي ينبغي علاجها، ألا وهو الانعزال والانغلاق وعدم الانفتاح على الآخر. مجرد اللقاء يعني:
قبول الآخر بدرجة ما من القبول؛
يعقبه الاتفاق على العمل من أجل التقريب وهذا يعني الاعتراف بثقل ووزن ما عند الآخر، سواء في الفكر أو الوجود في الخارج؛
ثم التشاور في أطر الموضوع وهذا يعني مد اليد حقاً على طاولة البحث.
فلماذا الفشل إذاً؟
لأن الأمر يتوقف عند ذلك الحد نتيجة الضغوط الذاتية النفسية، والتي تؤثر على الفرد المشارك إما بسبب الحواجز النفسية الكبيرة عنده والتي كانت أكبر من قدراته على الصراع الداخلي الذي نجح في الخطوات الأولى فحسب، أو التي تؤثر نتيجة الخوف على مصالحه، أو نتيجة الإقبال على دنيا يشار له بها. ولا شك أن البعض عندهم موقف عقلاني متأسس من فهمهم لما عند الآخر بحيث يرون حقاً أن اللقاء مع الآخر لا ضرورة له، بل لا مبرر، بل ربما فيه خطورة على أتباعه كما ذكرنا سابقاً.
أسس النجاح
إن التفاصيل ربما تغرق الباحثين والمتصدين لقضايا التقريب والوحدة بحيث يتم إهمال – حتى دون قصد – القضايا الكبرى موضوع البحث. لذا، فإن تركيز العين على الأسس لمثل هكذا جهود يعد أمراً لا غنى عنه من أجل محاولة تحقيق ولو شيء من الهدف. إذاً، فإن الأسس هي أطر عامة بدونها لا يمكن تحقيق شيء من الهدف، بل لا يمكن القيام بعملية تقريبية ذات معنى. وإلا، هل أن التفاصيل الخاصة بقاعة المؤتمرات والموائد العامرة واستخدام أحدث وسائل الاتصال وانبثاق اللجان ونشر المقررات في أفضل المطبوعات يعني شيئاً إذا كان الحقد والبغضاء يملأ قلوب الحاضرين أنفسهم وكانت اللجان تقوم بعملية مجاملات؟
أول تلك الأسس: هو اتخاذ الإسلام قاعدة انطلاق البحث، أي أن يكون الإسلام كعقيدة وشريعة وأخلاق هو المحرك لكل من المشتركين في مثل هذه العملية، سواء في المؤتمرات والندوات أو في الجهود الفردية أو الجماعية الأخرى. ومعنى هذا هو أن يعقد المرء عقداً بينه وبين ربه أن يكون الحق الذي يتبين له هو مبتغاه، فلا يكون الإطار هو ((إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)) لأنه لم البحث أصلاً إذا كان كل متمسك بما عنده دون نظر وبحث وتفكر ونقاش؟
ثاني تلك الأسس: هو إذا كان الإسلام هو القاعدة فإن منهج القرآن في البحث والحوار والنظر يجب أن يكون هو المتبع، وهو منهج يوضح وجهة النظر بهدوء واحترام للآخر، ويعطي الآخر حقه في توضيح وجهة نظره والرد والنقاش، لينتهي إما إلى حالة اتفاق أو حالة بقاء الخلاف وفي الحالتين لا يخدش الاحترام ولا التعايش.
ثالث الأسس: أن تكون مصلحة الإسلام والمسلمين العليا مقدمة على غيرها، وهذا مبدأ إسلامي أصيل ينبثق عن مبدأ الأمة الواحدة، وتم تطبيقه من قبل أئمة الهدى من أهل البيت (ع). فإضافة إلى ما أشرنا إليه أعلاه في كيفية تعاملهم (ع) مع الآخرين، أذكر توضيح هذا المبدأ وهذا المنهج بأجلى صوره في شرح علي (ع) لموقفه بعد استخلاف أبي بكر – قال (ع): ((فما راعني إلا انثيال الناس على فلان – أي أبي بكر – يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه)) نهج البلاغة جزء 2 كتاب 62.
رابع الأسس: ما يستفاد من أعلاه، وهو الانتباه المستمر الراصد بدقة كاملة لما يقوم به الأعداء من محاولات الدخول إلى الأمة عن طريق نقاط ضعفها، ومن أشد هذه النقاط ضعفاً هي التفرق والتمزق، على شاكلة محاولة أبي سفيان ضرب الإسلام من الداخل عندما عرض على علي (ع) والعباس بن عبد المطلب النصرة لإسقاط أبي بكر، فكان انتباه علي (ع) أولاً في رده، ثم انتباه العباس عندما عرضها عليه فرده هو الآخر، ذلك المنهج الذي ينظر إلى مصالح الإسلام من زاوية رد محاولات الأعداء.
خامس الأسس: التخطيط السليم لمثل هذه الجهود كي لا تكون جهوداً استعراضية من أجل إسقاط الفرض كما يقال.
سادس تلك الأسس: أن يحيط العمل بمختلف جوانب الموضوع الخارجية، فيشمل كيفية نظرة كل جانب إلى الآخرين والتي يجب تحويلها مباشرة إلى الجماهير، كي تشيع روح المحبة والاحترام واحترام الدماء والأموال حتى مع الاختلاف؛ ويشمل المنع من قبول أي تنازل عن المصالح المشتركة للمسلمين في كل مكان سواء في داخل البلدان الإسلامية أو خارجها؛ ويشمل توجيه الدعاة والخطباء والمفتين وحتى الكتاب والشعراء أن يراعوا مصالح الأمة ومصالح المسلمين فيما يقولون ويوجهون فيتصرفون من موقع المسؤولية الإسلامية الإنسانية جاعلين نصب أعينهم هم ونصب أعين من ينصت إليهم أو يقرأ لهم أو يلتزم بتوجيهاتهم المصالح العليا للأمة بحيث يكون بحث موارد الخلاف بذات المنهج القرآني الهادئ الذي يحترم الآخرين كائناً من كانوا؛ كما يشمل الاهتمام بالجوانب العملية التي يمكن لها أن تلعب دوراً في بناء الجسور، فكم من مشروع اقتصادي أو اجتماعي أو علمي أدى إلى انفتاح الناس على بعضهم وزوال الكثير من الحقد والجهل.
سابع تلك الأسس: الحرية، فإنها تكاد تكون غائبة في ذهنيتنا ومناهجنا التعليمية والسياسية والاجتماعية، وما ذلك إلا لترسخ القهر السياسي السلطاني عبر القرون أولاً، ولضعف الثقة بالنفس ثانياً، وهذا من أسباب خوف البعض من دعوة الآخرين إلى مذاهبهم بحيث يصمونها بأنها تبشير – بدون الحرية لا يستطيع حتى المجتمعون في مؤتمرات التقريب مهما كان مستواهم العلمي ومهما كانت مراكزهم في المجتمع أن يفعلوا الكثير لأنهم هم أنفسهم ليسوا أحراراً.
ثامناً: الوضوح والدقة في تحديد الأهداف مرحلة مرحلة، لأننا نجد أن معظم من يدعون إلى وحدة المسلمين يفعلون ذلك على شكل شعارات وأمنيات تربط الناس بالماضي دون وضوح ولا تجسير لذلك الماضي بالحاضر، مثلاً كتب البعض يقول: "ولا سبيل لصد العدوان ومواجهة مخططات التفرقة، إلا بأن تعتصم الأمة بكتاب ربها وسنة نبيها على فهم الصدر الأول، فهم سلف الأمة من الصحابة ومن بعدهم من خير القرون، الذين فقهوا عن الله مراده، وعن الرسول (ص)، وبذلك نهضوا فكانوا أمة واحدة، شرقت وغربت ففتحت الآفاق، ونشرت الضياء... فهلا اجتمعنا مؤتسين بهم، متبعين طريقهم؛ لنسود كما سادوا، فبهذا تصلح الأحوال"، فهذا همه الإشادة بالسلف من الصحابة والتابعين، وهدفه إنجاز الفتوح من جديد، فلا عمارة الأرض ولا النهوض بالإنسان، ولا القضاء على الظلم، ولا إزالة ما انطوت عليه النفوس، دون تحديد لا للمنهج ولا للروح، لأن الدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة على فهم الصدر الأول يعني فهم الماضي البعيد، بل فهمه هو لذلك الفهم! لذلك ترى الكثيرين من هؤلاء يتمنى الطريق السريع فينادي على خالد أو صلاح الدين أو غيرهما ليحققوا له المعجزة!
تاسعاً وأخيراً: أن تتم جميع هذه الخطوات على أساس العلم، وهو ما ربما يبدو بديهياً ولكن الحقيقة هي أن معظم الأمور التي ذكرناها أعلاه إما يتم إهمالها أصلاً نتيجة الجهل بأهميتها أو الجهل بتعليمات الإسلام حول الآخر والنظرة إليه، وإما يتم البدء بها ولكن دون توفير المستلزمات الضرورية من العلم بها وأسسها وأطرها وتفاصيلها. لذا من الضروري جعل العلم من أسس تلك الأسس كي يبدأ العمل بالشكل الصحيح – كما ينبه الشيخ عبد المجيد سليم رحمه الله (من رواد التقريب الأزهريين) إلى الآية الكريمة ((يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)).