وأشرت إلى أن بعض المسؤولين عن تأسيس هذه المشكلة هم علماء السوء، ما بين أولئك الماضين الذين أسسوا تلك المشاعر نتيجة اصطفاف بعضهم مع الحاكم الظالم وجهل بعضهم الآخر بحقيقة الآخرين وخضوع بعض ثالث للضغوط وسقوط غيرهم أمام مشاعر الانعزال والانغلاق، وهؤلاء الحاضرين الذين لا يتركون فرصة لترسيخ تلك المشاعر المدمرة إلا واستخدموها. هؤلاء يستخدمون مختلف الوسائل التي تؤثر على الجمهور، ومنها الأسلوب القصصي – حتى ولو كان في معظمه يتضمن قصصاً خيالية وروايات موضوعة – من جانب وترك الأسلوب الحكيم من جانب آخر. فقد ورد عن الإمام علي الرضا (ع) (عيون أخبار الرضا ص30) القول: ((رحم الله عبداً أحيا أمرنا))، فقيل له: "وكيف يحيي أمركم؟" قال (ع): ((يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا))، فقال الراوي: "يا بن رسول الله، فقد روي لنا عن أبي عبد الله (ع) – أي الإمام الصادق(ع) – أنه قال : ((من تعلم علماً ليماري به السفهاء، أو يباهي به العلماء، أو ليقبل بوجوه الناس إليه فهو في النار))، ثم أوضح (ع) بأن السفهاء ((هم قصّاص مخالفينا)).
فالرواية تقول:
أولاً: الإمام (ع) يدعو بالرحمة لمن يحيي أمرهم (ع)، ولا أظن أن هناك أحداً يزهد بهذه الدعوة المستجابة – على الأقل لا أريد أن أكون كذلك؛
ثانياً: يفسر (ع) طريقة إحياء الأمر بتعلم علوم أهل البيت (ع) ثم تعليمها الناس، أي درسها ثم تدريسها، أو حملها ثم نقلها؛
ثالثاً: يقول (ع) أن نتيجة ذلك هو أن الناس الذين نقلت إليهم تلك العلوم سيتبعون أهل البيت (ع)، وهذا إخبار عن حالة لابد من حصولها، أو على الأقل هو توقع بحصوله مع بعض الناس؛
رابعاً: تعريف السفهاء أنهم قصّاص مخالفي أهل البيت (ع)، أي مخالفو مدرستهم الإسلامية.
وهنا ملاحظتان:
الأولى – أن الكثير من خطباء المنابر من مدرسة أهل البيت (ع) لا يأتون بهذا التفسير لكلمة ((أحيوا أمرنا)) التي وردت في أحاديث عديدة عن عدد من الأئمة (ع)، بل يأتون بتفسير أن إحياء أمرهم هو "أن يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم" وبين التفسيرين كما بين السماء والأرض! فإن التفسير الثاني يحصر المسألة في إطار المشاعر فحسب، في حين أن التفسير الرضائي الأول يجعلها تنطلق في آفاق العقل والفكر والعقيدة؛ وبما أن التفسير الثاني يدور في إطار المشاعر فلا مهرب من ترسيخ مشاعر الكره لمن يسير في خط الذين أسسوا لأحزان أهل البيت (ع)، في حين أن الأول هو طريق ملؤه الحب، وإلا لماذا تتعب نفسك في تعلم علومهم (ع) ثم تتعب نفسك في تعليمها الناس لو لم تكن تحب هؤلاء الناس؟
الثانية – ليت شعري ماذا يقول مولانا أبو الحسن الرضا (ع) لو أنه حضر بعض المنابر الحسينية وسمع ما يقوله بعض الخطباء من قصص خيالية لا يمكن تصديقها بحال لأنه تضرب بالعقل وبمنهج أهل البيت (ع) عرض الحائط؟ هل سيضم هؤلاء إلى جملة "قصاص مخالفينا"؟
إن هؤلاء، وغيرهم من الذين يجدون أنفسهم في تماس مع الجمهور، عليهم مسؤولية كبرى لدفع الشبهات التي تصل نتائجها إلى التكفير، لا أن يفرحوا بـ "حماوة" المجلس و "صلوات على محمد وآل محمد" فإن منبر أبي عبد الله الحسين (ع) لم يؤسس لهذا الغرض، بل كان ولا بد أن يكون لإيصال دعوته (ع) التي لخصها بقوله: ((إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي؛ أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير فيكم بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب)).
هؤلاء عليهم دفع ما يتهم أتباع مدرستهم (ع) بأنهم يكفرون المسلمين، أو أن أتباع المدرسة السنية يكفرون الشيعة. قال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: "بأن بعض من يظن أن الشيعة تقول أن من لا يقول بالإمامة غير مسلم، كلا ومعاذ الله؛ أو أن السنة تقول أن القائل بالإمامة خارج عن الإسلام، لا وكلا. إذاً، فالقول بالإمامة وعدمه لا علاقة له بالجامعة الإسلامية وأحكامها من حرمة دم المسلم وعرضه وماله ووجوب إخوته وحفظ حرمته وعدم جواز غيره إلى غيرها" وهذا نموذج لرأي مراجع الشيعة في الأمر.
العصبية والتكفير
لم تدع الزهراء (ع) مجالاً للمساومات، بل كانت صلبة واضحة في التصريح بما جرى من ترك أوامر الله ورسوله (ص) بعد وفاته (ص)، وعليه فإن ما يرد عنها من توصيف للشيعة والموالين والمخالفين من عموم المسلمين لا يمكن حمله على المداراة أو التقية (التي كم استخدمت لتوجيه روايات دون داع لتوجيهها). من هذه رواية لافتة عنها (ع):
فقد قال رجل لامرأته: "إذهبي إلى فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله فسليها عني: أنا من شيعتكم أو لست من شيعتكم؟" فسألتها، فقالت عليها السلام: ((قولي له: إن كنت تعمل بما أمرناك وتنتهي عما زجرناك عنه فأنت من شيعتنا، وإلا فلا!)) فرجعت فأخبرته، فقال: "يا ويلي! ومن ينفك من الذنوب والخطايا؟ فأنا إذاً خالد في النار، فان من ليس من شيعتهم فهو خالد في النار!" فرجعت المرأة فقالت لفاطمة عليها السلام ما قال لها زوجها، فقالت فاطمة عليها السلام: ((قولي له: ليس هكذا [فان] شيعتنا من خيار أهل الجنة، وكل محبينا وموالي أوليائنا، ومعادي أعدائنا، والمسلم بقلبه ولسانه لنا ليسوا من شيعتنا إذا خالفوا أوامرنا ونواهينا في سائر الموبقات، وهم مع ذلك في الجنة، ولكن بعد ما يطهرون من ذنوبهم بالبلايا والرزايا، أو في عرصات القيامة بأنواع شدائدها، أو في الطبق الأعلى من جهنم بعذابها إلى أن نستنقذهم – بحبنا – منها، وننقلهم إلى حضرتنا)) (التفسير المنسوب للامام العسكري (ع): ص308 بيان معنى الشيعة ح1).
هذه الرواية تقول:
-
أن بعض الشيعة كانوا منذ الأيام الأولى يحكمون على غير الشيعة بالخسران
-
أن الزهراء (ع) تفرق بين "الشيعي" من جهة و "المحب" و "موالي الأولياء" و "معادي الأعداء" من جهة أخرى، وعليه ينبغي للشيعي، أي شيعي، النظر في صحة إطلاق مثل هذا الوصف الكبير عليه
-
أنها (ع) تجمع بين من يصف نفسه بالتشيع ولكن لا يأتمر بالأوامر ولا ينتهي عن النواهي مع المخالفين المحبين لهم (ع) الذين لا يحملون مشاعر سلبية إزاء أوليائهم (أي من يسمون أنفسهم شيعة) كما يعادون أعداءهم، وبالتالي فأنت بين أمرين: إن كفرت المخالفين المحبين فأنت معهم، وإن حكمت على نفسك بالنجاة فهم ناجون أيضاً
-
أنها (ع) تؤكد الحكم بتفصيل واضح لما يتعرض له غير الشيعة الحقيقيين – من أتباع مدرسة أهل البيت (ع) وغيرهم – من الصعوبات الدنيوية والأخروية، حتى العذاب في أخف مكان من جهنم والعياذ بالله، إلى يشفعوا (ع) للجميع فينقلون إلى حضرتهم (ع) في الجنة.
ويؤكد الإمام الصادق (ع) هذا المعنى في قوله: ((الشيعة ثلاث: محبّ وادّ فهو منا، ومتزين بنا ونحن زين لمن تزين بنا، ومستأكل بنا الناس، ومن استأكل بنا افتقر)) (روضة الواعظين ص293)، فهو (ع) يجعل كل محب لهم (ع) من الشيعة – وهذا على الوصف العام للشيعة، لا وصف الزهراء (ع) الآنف.
أما الذين يعادون أتباع أهل البيت (ع) فيدخلون في إطار النصب، كما يحذر الإمام الصادق (ع): ((ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد أحداً يقول أنا أبغض محمداً و آل محمد، و لكن الناصب من نصب لكم و هو يعلم أنكم تتوالونا و تتبرؤون من أعدائنا)) (البحار ج72 ص131 وج27 ص233).
ومثله حديث الرضا (ع): ((إن ممن يتخذ مودتنا أهل البيت لمن هو أشد لعنة على شيعتنا من الدجال!)) فقيل له: "يا ابن رسول الله بماذا؟ قال: ((بموالاة أعدائنا و معاداة أوليائنا؛ إنه إذا كان كذلك اختلط الحق بالباطل واشتبه الأمر فلم يعرف مؤمن من منافق)) (صفات الشيعة حديث 14).
أقول: ولكن يجب ملاحظة مدى معرفتهم بالحقيقة، لأن الغالبية العظمى تعرضوا ولا يزالون لحملات التجهيل في الكتب والمنابر والبرامج. أي أن المعادي لأتباع أهل البيت (ع) يعتقد بأنه يعادي قوماً ضالين منحرفين يقدمون علياً (ع) على النبي (ص) ويعتقدون بتحريف القرآن ويحللون الحرام ويحرمون الحلال ويقومون بأنواع البوائق. لذا الواجب هو الاستيضاح ممن يتخذ مثل هذا الموضق لأنه على الأغلب لا يعرف حقيقة الشيعة؛ وأما من لا يتخذ هذا الموقف فهذا أقرب وأقرب.
ولكن كم من الأحاديث مكذوبة؟
بغض النظر عما قلته توضيحاً وتعليقاً للأحاديث أعلاه، فإن ما ينبغي على الباحثين، خصوصاً المتصدين لمسألة التقريب، الحذر من تصديق أي رواية دون تدقيق في محتواها وفي رواتها، أي المتن والسند، فإن أتباع أي مذهب يحسنون الظن بالمحدثين ثم بالذين ينقلون لهم ما رواه المحدثون، فإذا جاءت الدورة إلى الخصم انقلب الحال إلى ضده فصاروا يسيئون الظن بمحدثيهم ونقلتهم – في غياب شبه تام للعقل والتقوى، لأن مناط قبول الرواية أو رفضها إنما هو الجانب العلمي الذي ينظر في المتن وكم هو متوافق مع كتاب الله تعالى ثم مع الحديث الشريف المجمع على صحته، ولكن غياب التقوى هي التي تضرب المنهج العلمي – على علم وقصد – عرض الحائط، فيصدق الشخص، حتى من يسمى عالماً، برواية أصحابه وإن كانت مما يضحك منه المجانين، ويكذب رواية الآخرين حتى وإن كانت موافقة تماماً للكتاب العزيز ومقاصده.
إن هناك آلاف الأحاديث التي رواها المحدثون ضعفوها هم أنفسهم، ولكنهم نقلوها احتراماً للتراث النبوي أولاً، واحتراماً للمنهج العلمي الذي يترك المجال لمن سيأتي للتدقيق ثانياً إذ لربما يجد توجيهات صحيحة لها. فإن العلامة محمد باقر المجلسي ضعّف آلاف الأحاديث التي رواها الشيخ الكليني في كتاب الكافي الذي يعد أصح الكتب عند الشيعة.
ويقول الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله أنه ترك القلم وقام بعملية استقرائية سريعة لأول 30 حديثاً من الكافي فوجد منها 13 ضعيفة و 8 مرسلة و2 راويهما مجهول، والـ 7 الباقية صحيحة بشهادة المجلسي الذي يعتبره "أضبط الأصول وأجمعها وأحسن المؤلفات وأعظمها عند الإمامية".
نفس الشيء بالنسبة للمدرسة السنية، فإنهم وإن قطعوا بصحة جميع ما في مرويات صحيح البخاري وصحيح مسلم، وربما غيرهما، فإنهم صرحوا بأن آلاف الأحاديث في مسند أحمد وغيره خاضعة للنقاش العلمي. ولا شك أن القطع بصحة ما في كتابي البخاري ومسلم يوقع في مشاكل لا حل لها لوجود أحاديث واضحة البطلان لمصادمتها صريح القرآن الكريم، أو لتناقضها مع أحاديث أخرى في ذات الكتب، أو لمصادمتها للعقل – والنظر في هذا كله من واجب المتصدين إلى العملية التقريبية، من هذا الطرف أو ذاك.
الطرفان وحديث المخالفين
نقطة أخرى ربما يثيرها الطائفيون المعادون للتقريب، وهي أن كل مدرسة ترفض أحاديث المدرسة الأخرى ورواتها، ما يعني وقوع الطرف الداعية والطرف المدعو جميعهما إلى الحرج بقبول رواية المخالفين. ولكن الحقيقة ليست هكذا، فإن قول علماء الطائفتين على الضد من هذا تماماً.
فقد قال العلامة الحلي وهو من أشهر علماء الإمامية في القرون الوسطى: "الأظهر قبول أخبار غير الموثقين منهم – أي غير الإثني عشرية – فإن التثبت يحصل بتفحص حال الرجل في خبره، فإذا حصل التثبت في حاله وظهر أنه لا يكذب في خبره فهذا تثبت"، إذاً هو الصدق وليس الاعتقاد.
وقال الشيخ الأنصاري وهو من أعاظم علماء الشيعة في القرون المتأخرة: "الأخبار متواترة في الأخذ بخبر الثقة والمأمون".
وقول العالمين لا بد منه لأن إمامهم العسكري (ع) يقول عن رواية المخالفين: ((خذوا ما رووا وذروا ما رأوا)) – أي قبول الرواية لأنها نقل ورفض الاعتقادات المخالفة.
وهذا هو قسم من الأحاديث الذي يسمى "المُوَثَّق" الذي في سلسلة رواته رجال من غير الشيعة ولكنهم ثقاة في الحديث.
حذار حذار من العصبية
أعود فأورد نصوصاً تحذر تحذيراً شديداً من العصبية لأنها تخرج المسلم من دينه. فمنها قول النبي (ص): ((من تعصب فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه)).
وقول الإمام الصادق (ع): ((من تَعَصَّب أو تُعُصِّب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه).
وعنه (ع) قال: ((قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من كان في قلبه حبة خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية) (وسائل الشيعة: ج11، ص296).
ويعرّف الإمام علي بن الحسين (ع) العصبية بالقول: ((العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم)) (الكافي ج2 ص 308 رواية 7).
أقول: إن كلمة "قوم" تشمل جامعة النسب أو الوطن أو القومية أو الدين أو المذهب، أي أنها أي دائرة ينتمي إليها الإنسان. وعليه فإن الشيعي الذي يرى أن أي شيعي مهما كان شريراً مفسداً (بغض النظر عن أن صفة التشيع ستسقط عنه والحالة هذه حسب تعريف الزهراء (ع) وأولادها (ع) مما مر بعض منه) أفضل من أي سنّي مهما كان طيباً مصلحاً إنما هو رجل متعصب آثم – ومثله السني الذي يقف ذات الموقف من الجانب الآخر.
وعليه، ينبغي الحذر الشديد من تقديم أي شيء على حقيقة الإيمان بالمولى عز وجل، ومنه العصبية، التي تعني اتباع الهوى فيمن يتعصب له الإنسان بحيث يتعامل معه ومع ما يحيط به بشكل يخالف ما أمر الله به، فيكون قد أشرك بالله طاعته لهواه في تعصبه لهذه الجهة أو ذلك الانتماء. وإلا، لِمَ حكمت هذه الأحاديث على المتعصب بالخروج من الإيمان؟
لماذا كل هذه الكراهية؟!
حقاً إن المرء ليعجب ليس فقط لحجم هذه الكراهية التي يجدها في قلوب الناس بعضهم لبعض، ولكن أيضاً للسبب وراء هذه الكراهية. فإذا كانت الجامعة الإسلامية أعلى من غيرها بحيث هي التي تجعل أي خلاف بين المسلمين يدور في إطار الجهل، أو عدم الفهم الدقيق، أو الوقوع في فخ الاشتباه، أو في فخ التضليل والافتراءات، لأنها ترسم الدائرة الكبرى بكلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" التي لا شك في أنها واحدة عند الطرفين، فكيف لأي هوية أخرى داخل هذه الجامعة القدرة على نسف كل شيء بحيث تجعل من الأتباع أفراداً يحملون قلوباً سوداء على بعضهم البعض، يشكون في كل ما يقولونه، ويصدقون أي تهمة ويقبلون أي افتراء حتى ولو كان من المستحيل قبوله من أي عاقل؟
ما الذي يجنيه الناس من كل هذه الكره والحقد والبغض؟
إذا كان أصحاب الشأن الذين تأسس الاختلاف في زمانهم تعاملوا بشكل أفضل، حتى الذين نحن – كشيعة أهل البيت (ع) – نتهمهم بأنهم ظلموا أهل البيت (ع)، بل أسسوا الظلم عليهم، وجدناهم يأخذون ما أرادوا ويتركون الباقي، فلا ينكرون فضل أهل البيت (ع) بعد أن أخذوا المنصب منهم، فكيف يأتي الأتباع ليحاولوا ما وسعهم ذلك إنكار فضلهم (ع) الذي لم ينكره أئمتهم الأولون أنفسهم؟!
وإذا كان أهل البيت (ع) تعاملوا مع ذلك الظلم والإبعاد بعكسه من العدل والتعايش من أجل التقليل من الانحراف ومنع الأخطار على الأمة فكيف يأتي أتباعهم ويتعاملوا بنقيضه مع الآخرين أو أن ينعزلوا وينغلقوا دون مراعاة للمصالح العليا للأمة؟
التواصل منطلقاً مني إليك: الأسس
إنني لا أجد مشكلة في الحوار معك سواء كنت عالماً أو متعلماً أو جاهلاً، وجيهاً أو لا، صاحب مكانة سياسية أو اجتماعية أو علمية أو لا، فأنت بالنسبة إلي إنسان. فإنك لو كنت غير مسلم فإن إمامي علي بن أبي طالب (ع) علمني أن ((الناس إثنان: أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق))، فلا يهمني ما تعتقده اليوم أو غداً، ولا حتى ما ينطوي قلبك عليه من مشاعر سلبية تجاهي وحتى تجاه المقدسين عندي، بقدر ما يهمني أن أقوم بواجبي تجاهك في تعريفك بالحق الذي أعتقد أنه الحق، لأزيل ما علق في ذهنك من أفكار ربما جاءتك من الخارج من أناس غير مأمونين عليك ولا على مصلحة الأمة، وربما جاءتك من خلال جهدك الشخصي ولكنه كان مقصوراً على ما قيل عني لا ما قلته أنا عن نفسي، وهذا يحتمل الكثير من الكذب والجهل والتهم الباطلة والتشويش والتعتيم.
وإلا فأي حوار نريد إذا كنا نضع شروط القبول بالرأي الآخر والخضوع إليه؟ كلا، الحوار يعني قبولك وعدم التعالي عليك أولاً، ومحبتك ثانياً تلك المحبة التي تدفعني لأن أبين لك ما عندي مما أعتقد أنه الحق، ومحبة في الله وجنته لاعتقادي بأنه سيجزيني على قدر نيتي وجهدي المخلص في توضيح الحقائق إليك، فإن وصلت معي إلى آخر ما يمكن من الشوط بأن تابعتني على ما أنا عليه فإنه الأجر العظيم – وإني شخصياً لا أداري في أن هذه هي الأكبر من نيتي في جهودي وإلا ما معنى رغبتي في العمل بمقتضى تشجيعهم (ع) ((أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا))؟
إن من أسس العمل التقريبي، وهو ما يشمل أي عمل حواري حول أمر خلافي أو حتى حول موضوع يراد التفاهم حوله للوصول إلى آليات عمل أو غيرها، هو عدم الدخول في الحوار بنتائج مسبقة بحيث أن الداخل قد عقد النية على رفض أي رأي غير رأيه وأي نتيجة تتحدى ما هو عليه. ذلك أن القرآن الكريم علم النبي (ص) أن يدخل إلى الساحة الحوارية في جو منصف للآخر المقابل من حيث وضع الطرفين في مستوى واحد من الإحتمالات، أي أن لكل منهما درجة متساوية من إحتمال الكون على الحق – قال تعالى: ((وإنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)) سبأ:24. أي أن النبي (ص) – وهو من هو في الدرجة الأعلى من اليقين بما عنده – يجلس مع الآخر المقابل وهو يعلن أنه (ص) ربما يكون على الحق والآخر على باطل أو أنه (ص) على الباطل والآخر على الحق. بهذا الشكل فإن الآخر يشعر أولاً باحترام الطرف المقابل له، وثانياً بأن هناك إمكانية للغلبة العلمية لموقفه، ما يؤكد له صحة قناعاته، فيطمئنه، من جانب، وما يفتح الطريق أمام انفتاح الطرف المقابل على قناعاته تلك.
فإذا كان النبي (ص) يجلس مع الآخرين، وهم – حسب عقيدة المسلمين جميعاً – أدنى منه في كل شيء، وبالتأكيد في العلم والحق الذي هو عليه، ليبدأ معهم من نقطة الصفر فيما يخص النتائج، فلا نتائج مسبقة، فكيف بنا نحن – أنت وأنا – في بحثنا مثل هذه الأمور؟
إذا كان النبي (ص) ينهج هذا النهج القرآني في تحييد الشخص والتركيز على الفكرة، فلماذا نسير نحن وراء مشاعرنا التي هي نحو الشخص دون شك، لأن الفكرة من عالم العقل، والنتيجة تكون الفشل كاحتمال أكبر لأن انفعالات النفس أصعب من أن يتم ضبطها من عمليات العقل.
أكثر من ذلك: على الرغم من قناعتي التامة بأن ما عندي هو الحق الذي ثبت لدي من الدليل القاطع من قرآن وسنة وتاريخ وعقل، فإني سأجلس معك، وأنا مقتنع أيضاً، أن ما عندك لم يأت من دنيا خارج دنيا الإسلام، بل جاء من داخل الحضن الإسلامي، إلا أنه مشوب بضعف كان منشؤه طبيعياً كونه تأسس من قبل أشخاص لم يتمتعوا بالعصمة من الخطأ كما لم يتمتعوا بما تمتع به أهل البيت (ع) من عناية النبي (ص) في التعليم والتربية. فلست تريد – بقناعاتك المخالفة لقناعاتي – الكيد للإسلام أو السعي لتدمير الأمة، لأنك مقتنع تماماً أنها هي الإسلام الحق...
سأضع نصب عيني أننا من أهل "لا إله إلا الله" فلا يجوز سوء الظن من كل منا نحو الآخر.
لا يكفي الاعتقاد الحق بإسلامية الطرفين، ولا يكفي المعالجة العقلية السليمة في طريقة الحوار وآليات المناقشات، ولكن لتكن المعالجة ملؤها تفهّم موقف الآخر الذي ربما لا يتمتع بقدرة كبيرة على ضبط انفعالاته، بل ربما هو ينوء تحت ثقل دنيا كاملة من التجهيل والتضليل بموقف الآخرين ونواياهم ومن أين ينطلقون.
ثم، إذا كنت لا تحب أن تسمع رأي الآخرين في قناعاتك، عاملهم بالمثل بأن تتجاوز عن آرائك في قناعاتهم، اللهم إلا إذا كانت من صميم النقاش. فأنت إذا سمعت أن علماء من المذهب الذي أنا عليه يكفرونك وجماعتك، ويطعنون بالمقدسين عندك، فأنت إذا حاولت أن تحصرني في زاوية إعلان قناعتي في تلك المسألة فالذي تفعله إنما هو قطع الطريق على إمكانية أن نأخذ بأيدي بعضنا إلى الحق. ما الفائدة من معرفة رأيي بفلان – مهما كان مقدساً – إذا كان البحث هو لتحقيق هدف الأمة الواحدة التي ما ربطها القرآن بفلان أو غيره؟
ولو قلت لك رأيي بفلان، هل أنت على استعداد للتعامل تعاملاً عقلياً مع رأيي كي توضح لي الخطأ الذي أنا عليه مما تعتقده أنت؟
بغض النظر عن التفصيل، فإن القرآن الكريم يعطي وصفاً عاماً لطريقة الحوار، وهي ((باللتي هي أحسن))، في قوله: ((ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا باللتي هي أحسن)) العنكبوت:46. مهما كانت ((اللتي هي أحسن)) ينبغي لنا – أنت وأنا – أن نعتمدها... مع ملاحظة كلمة ((أحسن)) فهي الأحسن دائماً من بين الخيارات التي بين أيدينا.
-
نقاط الخلاف بعد نقاط اللقاء
لنبدأ بالتأكيد على نقاط اللقاء المشتركة فيما بيننا، كي نرى إن كانت كافية لتأسيس أرضية مشتركة للتقريب بحيث يمكن التعامل مع نقاط الخلاف ونحن في أمان من الانزلاق نحو العداوة. إذا كانت "لا إله إلا الله" مشتركة فهل يعقل أن تكون أي نقطة أخرى مانعة؟
وإذا كانت "محمد رسول الله" مشتركة فهل يعقل أن يكون الخلاف حول الأشخاص – مهما كانوا – مانعة؟
وإذا كانت محبة أهل البيت (ع) واحترامهم مشتركة فهل يعقل أن يكون الخلاف على درجة اتباعهم مانعة؟
وإذا كانت الغاية، وهي رضوان الله والجنة، مشتركة فهل يعقل أن يكون الخلاف على تفاصيل الآخرة مانعة؟ بل هي يعقل أن يكون الخلاف على الدنيا مانعاً.
إن هذه الأمور المشتركة الكبرى تقطع الطريق أمام كل من يريد ترسيخ ثقافة العداوة والتباعد والبغض والانغلاق، وتفتح الطريق واسعاً أمام المحبة والتقارب والتعايش التي من شأنها فتح الطريق واسعاً جداً أمام البحث في الخلافيات والتفاهم حولها وانفتاح من يريد على ما عند الآخر من الحق – بعكسه فلا شيء غير الأذى والخسارة المستمرة.
قال تعالى: ((قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)) آل عمران:64، أي أن العنوان الإسلامي ((فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)) إنما ينبع من عبادة الله وعدم الشرك به، وهو الذي عليه جميع المذاهب الإسلامية دون استثناء.
ثم هل نحن، أنت وأنا، مستعدان للتخلي عن سوء الظن؟
كيف تجلس معي وأنت تعتقد أني أضمر لك شراً، أو أني غير صادق في ما أدعيه؟
كيف ستتعامل معي بإيجابية وقد علموك أني جزء من مخطط عالمي كبير يشترك فيه جميع المنتمين إلى المذهب صغارهم وكبارهم، علماؤهم وعوامهم؟
وكيف سنستثمر الوقت الثمين القصير الذي لنا في هذه الدنيا وأحدنا يغطي ضغائن القلب بابتسامات باردة (بل إن البعض يفشل حتى في ذلك، فتنعكس ضغائن القلب إلى غضون الوجه)؟
أكيد أن تغيير سوء الظن إلى حسن الظن ليس يسيراً، بل ربما ليس صحيحاً إذا تم دون ملاحظة ما يشير إلى صدق الآخرين وخلوص نياتهم، إلا أن السؤال يبقى: ما هي المصلحة في إبقاء سوء الظن هو الفاعل؟
نعم، كما قيل "سوء الظن من حسن الفطن"، أو كما ورد عن أحد الأئمة (ع): ((إذا فسد الزمان وأهله فمن أحسن ظنه فقد غرر)) أي اغتر بالظاهر، ولكن هذا على مستوى التوقي من الفعل الخارجي، أما الحوار والتعامل بالحسنى وطرح الإشكالات من أجل الوصول إلى تفاهم فما الذي يضيره حسن الظن؟
إذا نجحتُ وإياك في أن نفعّل ما اقترحته أعلاه، عندها أمامنا وضع الأسس العملية في بحث الموضوع الذي بين أيدينا، والتي تستهدي بما ورد أعلاه، فيكون البحث منتهجاً منهجاً أسسه هي:
أولاً – طريقة التعامل بين الطرفين، تكون بالأسلوب الرقيق المحب، دائماً ((باللتي هي أحسن))، وهذا مفتوح على مصراعيه في الأخذ به حسب مزاج الشخص وطريقته العامة ودرجة هدوئه وانضباطه وضبط انفعالاته (فإن الموضوع مليء بها)... المهم هو التعامل بالحسنى، بل بأحسن ما للحسنى من معنى؛
ثانياً – طريقة البحث في الأدلة، تكون بانتهاج المنهج العلمي البحت الذي يفصل كل طرف ليس فقط عن ذاته بل أيضاً عن المشاعر الإيجابية أو السلبية تجاه شخصيات التاريخ التي ترد في البحث أو التي يدور حولها البحث، (هناك ملاحظة أنه منهج عام في مجتمعاتنا إظهار سلبيات الشخص موضوع البحث أو المنتج المعروض بمساحة أكبر من الإيجابيات، نفس الشيء في إطار الخلاف في الحوار بدلاً من ترسيخ الوحدة بشكل عام وفي داخلها خلاف يتم بحثه)؛
ثالثاً – الحاكم في النزاع هو الحق سبحانه وتعالى، من خلال كتابه العزيز ونبيه الكريم (ص) ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)) النساء:59، ثم العقل القطعي الذي يحكم باستحالة هذا أو وجوب ذاك أو وقوع التناقض في ذلك وهو الذي حث عليه الكتاب ((إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب)) الزمر:21، والسنة ((ما عُبِد الله بشيء أفضل من العقل))؛ بعكسه ندخل في الشرك الخفي ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلموا تسليماً)) النساء:65؛
رابعاً – ترك الجدال بالباطل، وذلك حرصاً على الوقت والجهد، بمعنى إعلان الطرف الذي اقتنع بوجهة النظر الأخرى ذلك دون عناد أو مداورة أو تكرار، فإن الحق تعالى يقول ((إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون . قال أولو جئتتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟)) الزخرف:23-24، فلماذا العناد ولماذا التعصب لرأي من الممكن عقلاً أنه خطأ... ولكن
خامساً – ترك الحرية للطرفين في اتباع ما تم إثباته، فإن حصول القناعة بشيء لا يعني اتباعه لأن هناك جوانب أخرى – غير العلم والاقتناع – تضغط على الإنسان فتمنعه من ذلك.
عوداً على بدء: الهدف أكبر من غيره
إذا كان الناس مستعدين لتجاوز ما في دواخل نفوسهم أو الأفكار التي نشؤوا عليها بخصوص الآخرين من أجل مصلحة دنيوية آنية كتجارة بينهم أو عمل دراسي أو مصلحة جيرة محدودة، أو من أجل الالتزام بقواعد مهنية كقسم أبو قراط الطبي الذي يقسم عليه الأطباء في أن يعاملون جميع المرضى نفس المعاملة بغض النظر عن أي شيء، فكيف لا يمكن تجاوز المشاعر والأفكار – مهما ترسخ في نفس صاحبها أحقيتها وصحتها – من أجل الهدف الأكبر وهو مصالح الأمة الواحدة، التي تحوي وتضمن مصالح الأفراد والأوطان؟
إذا وضعتَ هذا في ذهنك فإن طريقة تعاملك مع ما أقول وأطرح – مهما بدت لك – ستنهج النهج القرآني النبوي في احترام الآخر ووضعه على قدم المساواة في خصومة الرأي والتعامل معه باللتي هي أحسن. هذا النهج هو الذي يزيد احترامك حتى لنفسك وما تحمله من أفكار لأنك ستحيط نفسك بجو موضوعي هادئ يتخذ من الثقة بالنفس وبالآخر ومن النهج القرآني النبوي الذي لا خلاف عليه طريقاً للاستماع والإسماع.