أعود مرة أخرى وأذكّر بأنه ينبغي على الباحث والمتصدي لمسألة التقريب بين المسلمين النظر في الجوانب الثلاثة: الأهداف، والوسائل، وما يعتمل في النفوس التي هي من يقوم بتحديد الأهداف واستخدام الوسائل وصولاً إلى تلك الأهداف. دون التعامل مع القضية النفسية، بما في النفس من مشاعر مضادة للآخر نشأت من بيئة معادية تجهل حقيقة الآخر، وترسخت من خلال التعليم المستمر والتوجيه السلطوي المستمر، سواء أكان سلطة الدولة أو سلطة المؤسسة الدينية أو سلطة العائلة والمجتمع، فبنيت فيها حواجز عالية، بل شاهقة، لا بد من التعامل معها لإزاحتها من الطريق، أو أن الفشل هو النتيجة الحتمية، وهو المشاهد من حال جهود التقريب.
التكفير
وإذا كانت الحواجز النفسية من بنات الاتهامات المتبادلة التي لا تصل إلى حد الإخراج من الملة من الصعوبة بحيث لم يزل المسلمون يكتبون ويبحثون ويتناقشون لإثبات أو نفي البدعة الفلانية أو الانحراف الفلاني داخل الملة، وكلها دون فائدة كبيرة على مستوى الجماهير العريضة، فلم يستفد من كل تلك الجهود إلى القليل، فكيف بالحواجز النفسية التي بناها الرمي الصريح بالكفر والإخراج من الأمة؟
فإذا لم يتم التعامل مع هذا التكفير الذي لم يزل ينتشر منذ ما يقرب من المائة عام، تحديداً منذ أن سيطرت الفئة الوهابية على الجزيرة العربية ثم ما لبثت أموال النفط أن جرت في أيديها، فصارت تنفقها على نشر مذهبها الذي عنوانه العريض هو تكفير المسلمين على أساس أن الكثير من ممارساتهم هي ممارسات شركية تخرج من الملة، وأعانهم على ذلك الحلف غير المعلن، ولكن الموجود كما يعلمه أطفال المسلمين، بينهم وبين أعداء الأمة (والذي بدأ الآن يتخذ شكله النهائي الفاضح بالتحالف مع الصهيونية في أيامنا هذه بالتحديد)، إذا لم يتم التعامل مع هذا التكفير فإن كل جهد للتعامل مع أي شيء آخر أقل شدة من شأنه السقوط في دائرة الفشل لأن هذه الفئة الصغيرة عدداً القوية مالاً وتحالفاً (مع قبيلة الغرب والناتو والصهيونية) تهاجم، دون تردد ودون مساومة، هذه الجهود على أساس شرك الطائفة الأخرى – وهي الشيعة – فلا داع للجهد أصلاً.
فمن جاء هذا التكفير؟
حديث الثلاث وسبعين فرقة
من أهم أسلحة التكفير بيد جميع المسلمين هو حديث الفرقة الناجية الذي ورد في أحاديث جميع المسلمين، والذي ينسب فيه القول إلى النبي (ص) أن أمته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلهن في النار إلا واحدة، وطبعاً جاء الذيل في بعض الروايات أنه (ص) أوضح أن الفرقة الناجية هي ((ما عليه أنا وأصحابي)). وطبعاً ادعت كل فرقة أنها هي الناجية وأن الآخرين في النار، في سهولة عجيبة.
وقد نوقش الحديث من نواح متعددة، منها:
أن العدد لم يتم إحصاؤه وعليه فهذا طعن في المعلومة الأساسية فيه؛
أن الفرق الهالكة هي التي خرجت من أساسيات الاعتقاد وليست الطوائف الملتزمة بها؛
أن الهلاك في الحديث هو تعبير عن فساد أعمالها فحسب، ولكن يرد عليه قوله (ص) أنها في النار؛
حتى هذا، فإنها يمكن أن تنالها الرحمة بالشفاعة وغيرها، لا سيما وأن الأحاديث مستفيضة أن الأمة الإسلامية أمة مرحومة وأنها أكثر أهل الجنة؛
أن الهلاك متعلق برؤساء الفرق لأنهم هم الذين يضلون الناس، أو أنهم ضلوا عن علم، في حين أن الأتباع لم يتحقق عندهم ضلال فرقهم.
أقول: عندي ملاحظتان بشأن الحديث:
الأولى هو أنه يقول أن اليهود افترقوا إلى إحدى وسبعين فرقة وأن النصارى افترقوا إلى اثنتين وسبعين فرقة – السؤال هو: هل استطاع أحد إحصاء هذه الفرق اليهودية وتلك الفرق النصرانية؟
الثانية هو ما ذيلت به بعض الروايات من أن الفرقة الناجية هي ما عليه النبي (ص) وأصحابه، والتي أراها مستحيلة على النبي (ص)، لأن المعيار هو النبي (ص) نفسه وليس الأصحاب مهما علا شأنهم، فإن الله تعالى لم يقمهم أسوة حسنة معه (ص) بل كان (ص) وحده الأسوة الحسنة ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)) الأحزاب:21، فكيف يقول لهم أن النبي (ص) لهم أسوة حسنة ثم يصيروا هم الأسوة الحسنة لغيرهم؟
ولئن كان بعضهم أسوة حسنة لمن بعدهم في حسن الاتباع فإن ذلك لا علاقة بقضية ((ما عليه أنا وأصحابي)) الذي يضعهم معه (ص) سواء بسواء.
هذا، ناهيك عن اعتقادي بأن الصحابة لم يكونوا كلهم عدولاً، بل أنهم كانوا ثلاثة أقسام: مؤمنون ومنافقون ومن في قلوبهم مرض، وهذا بنص القرآن – ومن يُرِد أن يَرُدّ على القرآن فهذا شأنه.
وعليه، فينبغي على المسلم أن يتقي الله في المسلمين فلا يسرع إلى تكفير هذا أو ذاك، وأسوأ منه إلى تكفير طوائف بأكملها، بناء على شبهات واتهامات، لا سيما وأن المكفِّر هذا ربما لم يحط إلا بأقل القليل من العلم عن الدين وعن الذي يكفره.
هذا الحديث وأمثاله أسس للنهج التكفيري في الأمة، فرويت الروايات في كل مدرسة ضد أتباع المدارس الأخرى.
من ذلك، ما ورد عند الشيعة من تكفير أهل السنة من جانب، واتهامهم بتكفير الشيعة من جانب آخر . مثلاً، رويت الروايات أنه لا ينفع أحداً شيء من اعتقاد بالله ورسوله (ص) واليوم الآخر والعمل الصالح مدة عمره ما دام غير ملتزم بولاية علي (ع)، حتى نظم ذلك شعراً تجده في شتى كتب الدعاء مما يرسخ هذا التكفير للآخرين:
لو أن عـبداً أتى بالصـالحـات غداً وودّ كـــلّ نـّــبي مـرســـــل وولي
وصام مـا صام صـوّاماً بلا ضجرِ وقام ما قـام قـــوّامـاً بـــــلا مـــلل
وحجَّ ما حجَّ من فـرضٍ ومن سننِ وطاف ما طاف حـافٍ غير منتعلِ
وطــار في الجـو لا يـأوي إلا أحدِ وغاص في البحر مأموناً من البلل
يكســـو اليتــامى من الديباج كلهّمُ ويطعم الجائعين البـّــر بالعســـــلِ
وعاش في النــاس آلافــاً مـــؤلفـةً عارٍ من الذنب معصوماً من الزللِ
ما كان يوم الحشـر عند الله منتفعاً إلا بحـــب أميــر المـــؤمنين عليّ
هذا، مع أن مثل هذا العبد من المستحيل ألا أن يكون محباً لأمير المؤمنين (ع)!
ولو فرضنا وجود مثل هذا العبد فإنه يكون مخبولاً أو يشكو من مرض نفسي خطير، حيث يود الأنبياء والأولياء جميعاً ثم لا يود علياً (ع)!
وهذا، مع أن الروايات الصحيحة أكدت أن المشكلة ليست في عدم الاتباع جملة بل في عدم الاتباع بعد وضوح الرؤية والتيقن من إمامة علي (ع) وأولاده (ع).
وألاحظ – مرة أخرى – أن المناط في الأبيات الشعرية أعلاه هو "حب" علي (ع) وليس "الاتباع"، وهذا دليل على عدم جدية الموالي إذا كان على هذه الشاكلة، لأن الحب دون اتباع يصبح أمراً عاطفياً فحسب.
ومن ذلك ما ورد من تكفير أهل السنة للشيعة، كما في رواية عن الإمام الصادق (ع) أنه قال لأبي بصير: ((يا أبا محمد لقد ذكر كم الله إذ حكى عن عدوكم في النار بقوله: "وقالوا مالنا لانرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار؟ أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار؟" والله ماعنى الله ولا أراد بهذا غيركم، صرتم عند أهل هذا العالم شرار الناس وأنتم والله في الجنة تحبرون، وفي النار تطلبون)) (تفسير فرات الكوفي سورة ص عن روضة الكافي حديث 32). وفيها تأكيد تكفير أعداء الشيعة لهم، والحكم على أولئك بالنار. ولما كان عنوان "أعداء الشيعة" يطلقه البعض على جميع غير الشيعة فإن الرواية تحكم على الجميع بالخسران.
ومن ذلك، ما ورد عند السنة من تكفير الشيعة من جانب، واتهامهم بتكفير أهل السنة من جانب آخر...
مثلاً، يوردون الروايات التي تنطق بما يشبه الأبيات الشعرية المارة أعلاه أو الرواية أعلاه، كما يوردون الروايات التي تحكم بالخسران على أئمة أهل السنة من كبار الصحابة الأولين، كونهم تقدموا على علي (ع) بالغصب والقوة في مخالفة واضحة لأمر الله ورسوله (ص)، وعليه فهم في النار، ويتبعهم أولياؤهم وأتباعهم – في حكم بالجملة على من عمل ولم يعمل، من علم ولم يعلم، وعلى اختلاف الدرجات والنيات والآثار.
كما يوردون تكفير بعض علماء أهل السنة للشيعة، وإن كان بإخراج فيه شيء من الفن، حيث وجدوا صعوبة في تكفير "الشيعة" لأنهم وجدوا المدح الشديد للشيعة في بعض الروايات (كما في تفسير سورة البينة في قوله تعالى ((إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)) فقال النبي (ص) لعلي (ع): ((هم أنت وشيعتك)))، فعمدوا إلى استخدام لفظة أخرى هي "الرافضة"، بمعنى أنهم رفضوا خلافة الخلفاء الثلاثة قبل علي (ع) (مع أنهم يجعلون جذورها رفض قبول زيد بن علي بن الحسين (ع) لموقف الشيعة من خلافة الثلاثة وأنهم اعتزلوه وسُمُّوا الرافضة)... فصارت كلمة الرافضة تملأ الفضاء على شبكة الانترنت بعدما ملأت الصحف قبل ذلك...
وإن كان الحزب الوهابي أكثر جرأة، فهو يعادي الشيعة كشيعة، وليكن من أمر الروايات النبوية ما يكون!
الأحاديث الموضوعة
وأذكر بأن علماء الحديث عند المسلمين جميعاً يقرون بوجود الآلاف من الأحاديث المكذوبة الموضوعة، وعليه فلا ينبغي قبول أية رواية، بل يجب عدم قبول أية رواية، تكفر أي مسلم إذا وجد أقل ما يمكن التمسك به على إسلامه، أي أن يتلفظ بكلمة الكفر أو يعلن خروجه من الملة أو يعلن رفضه لما تصافق المسلمون على ضرورته من قبيل وجوب الصلاة ووجوب التوجه نحو القبلة الشريفة ووجوب صيام شهر رمضان ووجوب العقد الشرعي للجمع بين رجل وامرأة وحرمة الغيبة وحرمة الكذب وأمثالها. وحتى من فعل ذلك فإنه لا يحكم عليه بالخسران لأن لا يزال في حياته متسعاً للتراجع، وهذا وراء حكم "الاستتابة" من أجل إفساح الطريق أمامه لإعادة النظر.
ما ينتظره المتصدون
وأذكر بأن الأمر في غاية الصعوبة، ليس بسبب الحواجز النفسية عند المتصدين أنفسهم، وبسبب الجهل، أو قل قلة الدراية، بالإدارة والتخطيط، وقلة الإمكانيات المادية لا سيما وأن الحكومات تحارب هذه الجهود الطيبة، ولكن أيضاً بسبب الحواجز النفسية وغلبة المصالح عند المعنيين من غير المتصدين. وقد ذكرت ما قاله الشيخ محمود شلتوت رحمه الله شيخ الأزهر في الستينات وكيف أن الجو – أيام بداية دعو التقريب في الأربعينيات من القرن العشرين – كان "مليئاً بالطعون التهم والافتراءات وسوء الظن من قبل المتعصبين والمتزمتين الذين قالوا أنها محاولة لإدماج المذاهب بعضها إلى بعض"، وكيف "حارب الفكرة ضيقو الأفق وأصحاب الأغراض السيئة والنفوس المريضة والنزعات الخاصة".
ضيقو الأفق وأصحاب الأغراض السيئة والنفوس المريضة والنزعات الخاصة، مع المتعصبين والمتزمتين، الذين ذكرهم الشيخ رحمه الله يحاولون سد الطريق وإعاقة العمل في داخل مذاهبهم هم، فإن هؤلاء، كما يحاربون التقريب بين المذاهب لأنهم يحاربون أي نظر وفكر وتحليل وتدقيق وإعادة نظر داخل مذاهبهم ذاتها، فهم يحاربون التقريب لأنه يفتح الباب أمام تحديات فكرية ليسوا بحجم مواجهتها، أو يخشون من تأثيرها على أتباعهم – سواء نتيجة حرص حقيقي صادق على نقاء العقيدة التي يعتقدون أو حرص نابع من المصالح الخاصة.
أبعاد الموضوع: الطائفتان
أعيد ما قلته في مقالة سابقة تحت عنوان "نظرة الطائفتين إلى التقريب والوحدة الإسلامية" بخصوص المواقف المختلفة لكل من الطائفتين تجاه التقريب والتقارب مع الطائفة الأخرى.
أما أهل السنة، فهناك موقفان:
الأول أنه يعترف بإسلام الشيعة وعليه فإن مذهبهم من المذاهب الإسلامية موضوع البحث في قضية التقريب، ولكنه يخشى من تسرب عقائد الشيعة إلى المسلمين السنة، وعليه فلا حاجة للتقريب معهم، بل ربما صار للتقريب إشكالاً شرعياً. إلا أن هؤلاء لا يمتنعون عن الاستجابة إلى دعوات المؤتمرات والندوات واللقاءات الإعلامية ويبدون وجهاً آخر فيدعون رغبتهم في التقريب وحرصهم على الوحدة، ولكن لا يتقدمون خطوة في هذا الاتجاه.
الثاني يؤمن بالوحدة ويدعو إلى تفعيل جهود التقريب برغبة صادقة ويشارك في تلك الجهود من أجل إنجاحها، ذلك أن الشيعة عنده هم مسلمون كغيرهم وأن الخشية من أفكارهم لا مبرر لها لاسيما بلحاظ الهدف الأكبر من جهود التقريب، وهو دفع الخطر عن الأمة بأسرها والسير نحو تقدمها بمجموعها.
ولم أذكر الوهابية في أهل السنة لأنهم – ببساطة – ليسوا من أهل السنة، فإنهم يخالفونهم في العقيدة في الله تعالى نفسه، وفي النظرة إلى النبي (ص)، كما في مركزية الفقه عند أهل السنة في قبال مركزية الحديث عند الوهابية. وإن شئت ضمهم إليهم على أساس ادعائهم ذلك، فإنهم لا يرون في التقريب مع الشيعة أي إمكانية لأنهم – وببساطة أيضاً – يكفرون الشيعة، دون مواربة ودون تردد.
أما الشيعة فهناك موقفان أيضاً:
الأول يشابه الموقف السني الأول، وهو الخشية من صهر المذهب الشيعي في المذاهب السنية، خصوصاً وأن أهل السنة يمثلون النسبة الأكبر من الجسم الإسلامي. لذا، فهم لا يعملون في إطار التقريب، فإن فعلوا فإنما يكون في الإطار اللفظي ليس إلا.
الثاني على العكس، فهو يؤمن بجهود التقريب، اتباعاً لنهج الأئمة (ع) في إشاعة روح الأخوة الإسلامية والأمة الواحدة من خلال نهجهم التوحيدي، وإدراكاً أن أعداء الإسلام لا يفرقون بين المسلمين من شتى المذاهب، وأن بناء الأمة يحتاج إلى تعاون أبنائها من شتى الاتجاهات والمذاهب. لذا، فهم أشد الناس دعوة وتشجيعاً في إطار التقريب.
أبعاد الموضوع: أروقة اللقاء والعمل
قبل أن تترسخ نتائج الخلاف الأول بين المسلمين حول إمامة أهل البيت (ع) كان المسلمون يتعايشون في مكان واحد، فيدخلون نفس المساجد ويسكنون نفس المناطق – مع ملاحظة التقسيم العشائري في بعض الحواضر – ويتعاملون مع العلاقة بالآخر الخارجي كجسم واحد (ما عدا ما كان عليه الوضع في السنوات الأولى لدولة بني أمية حيث كانت الهدنة مع الروم قائمة والحرب ضد الرعية المسلمة، من تنكيل وملاحقة وقتل، قائمة هي الأخرى). كان أقطاب الخلاف الأول، علي (ع) وشيعته من الصحابة وعمر وشيعته من الصحابة، يجلسون ويتباحثون حول مختلف القضايا، الإدارية والفقهية، وبالتأكيد فيما يخص جيوش الفتح الإسلامي.
إلا أن استمرار منع أئمة أهل البيت (ع) من القيام بواجباتهم من منصب الحاكم العام-الخليفة طيلة دولة بني أمية وبعدها دولة بني العباس، واستمرار الانتفاضات الشيعية بقيادة العلويين، الذين صاروا هم المعارضة الوحيدة (كحزب لا أفراد، لأن الأفراد المعارضين كانوا موجودين) بعد انتهاء حملات الخوارج وانتهاء الخوارج كحزب معارض يهدد الدولة، جعل العلاقة بين السلطة والشيعة علاقة كلها ملاحقة وسجون وتعذيب وتشريد وقتل، الأمر الذي كان له أثر خطير وهو انعزال الشيعة عن الآخرين، لأن الآخرين صاروا جزءاً من المذهب الرسمي الذي تفرضه الدولة وشيئاً فشيئاً قضى من كان منهم يعرف جذور المشكلة ونشأت الأجيال التي ترى في السلطة الحاكم الشرعي الذي ينبغي القيام بنصحه لا الثورة عليه، وبالتالي فإن المعارضين له إنما هم خوارج زنادقة، فكيف التعايش مع خوارج زنادقة؟
هكذا، صارت في الأمة مساجد للسنة لا يدخلها الشيعة ومساجد للشيعة لا يدخلها السنة، الأمر الذي استمر حتى يومنا هذا.
· مساجد ومراكز إسلامية
لذا، فإن من أهم ما يجب أن تتوجه إليه جهود التقريب هي المساجد والمراكز الإسلامية بحيث تصبح عامة لجميع المسلمين بغض النظر عن المذهب والقومية والعشيرة والاتجاه، وهذا ليس محاولة لتطويع المسجد للأوضاع بل هو محاولة لإرجاع طبيعة المسجد – من ناحية المذاهب والطوائف – إلى ما كانت ويجب أن تكون عليه. وهذا ليس أمراً مستحيلاً بدليل نجاح الجاليات المسلمة المقيمة خارج العالم الإسلامي بالتواجد في نفس المساجد والمراكز الإسلامية، وإن كان هذا الأمر لا يشمل الجميع.
إن الأجواء الروحانية لبيوت الله تعالى، والأجواء الملتزمة في المراكز الإسلامية، والطبيعة الهادفة للمكانين، ينبغي أن تستثمر لبناء الجسور التي هدمت وردم الفجوات التي تأسست وترسخت قبل قرون في أحداث لا دخل للحاضرين بها أولاً، وليس من مصلحتهم إبقاء آثارها ثانياً. الوضع الجديد سيسمح ببناء علاقات اجتماعية وثقافية وفكرية عبر الطوائف والمذاهب مثلما يفعل أي تعايش وتواجد في مكان واحد بين الناس.
ولقد أمر أئمة الهدى من آل محمد (ص) شيعتهم بأداء الصلاة في مساجد أهل السنة، وحثوا عليها من خلال ما سيحصل عليه المصلي منهم من ثواب عظيم عند الله تعالى. فقد سأل الإمام جعفر الصادق (ع) إسحق بن عمار: ((يا إسحق أتصلي معهم في المسجد؟)) قال: نعم، قال (ع): ((صل معهم، فإن المصلي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله!)) (تهذيب الأحكام للطوسي ج3 باب 13 رواية 129). والإمام (ع) لا يدبج مقالات لتشجيع الناس لأنه يتحدث عن آبائه (ع) عن النبي (ص)، فهو يخبر عن ثواب واقع لا محالة، فلماذا يرتب الله تعالى هذا الثواب العظيم لمثل هذا العمل لولا أن التواصل وبناء الجسور بين شيعة أهل البيت (ع) والآخرين من أعظم الأعمال في الأمة؟
وهذا الحث منهم (ع) يشمل حتى الحالات التي يكون فيها المتولّون للمسجد من مبغضي الشيعة – وهم كثر. فعندما أخبر رجل الإمام (ع) أن "لنا – أي في مسجد المنطقة – إماماً مخالفاً وهو يبغض أصحابنا كلهم"، قال (ع): ((ما عليك من قوله؛ والله لئن كنت صادقاً فأنت أحق بالمسجد منه، فكن أول داخل وآخر خارج، وأحسن خلقك مع الناس وقل خيراً)) (تهذيب الأحكام ج3 باب 13 رواية 102)، فهو أمر واضح في عدم إخلاء المكان لأمثال هؤلاء الذين يحملون الكراهية في قلوبهم، لأن المكان إنما هو بيت من بيوت الله ولا يحق لأحد منع أي أحد من دخوله والتعبد فيه، حتى ولو كان ممن لم يتخلق بأخلاق الله تعالى الرحيم الودود. كما يضيف الإمام (ع) الجانب الدعوي في الموضوع بأن يكون الرجل حسن الخلق مع الناس، يتحدث معهم بالكلام الطيب. بدون هذا الاتجاه، كيف يستطيع الرد على الافتراءات والاتهامات التي يصل بعضها إلى حدود مضحكة حقاً؟
· مؤسسات تعليمية
بسبب الاختلاف في: (1) المذهب العقدي والفقهي (2) قراءة التاريخ الإسلامي (3) بعض المناسبات التي يحتفل بها، فإن هناك مشكلة حقيقية في المناهج التعليمية، ما يلقي بظلاله على المؤسسة التعليمية ذاتها.
فكيف سيكون شكل درس الدين وهناك تركيز كبير من الشيعة على أهل البيت (ع) وإمامتهم وإهمال تام من السنة لهم (ع) ولها؟
وكيف يمكن التعامل مع الاختلافات الفقهية في الأحكام مما يدخل ضمن المناهج الدينية – على بساطتها واختصارها –؟
وما شكل درس التاريخ؟ أهو يتحدث عن أمجاد الدولة الإسلامية الأموية والعباسية والعثمانية أم عن ظلم هذه الدول وقمعها للمواطنين ومن ضمنهم سادتهم وقادتهم – حسب المفهوم الشيعي – الذي ما تم إلا بسبب غصب حقهم (ع) منذ الخلافة الراشدة؟
كيف يمكن إحياء مناسبات محرم وعاشوراء وغيرها، بل ورمضان وعيدي الفطر والأضحى عندما تختلف مواعيد بدء كل منها؟
كل هذه الأمور تذوب إذا خلصت النيات للمولى عز وجل بحيث يتم النظر إلى الجميع نظرة إسلامية جامعة ترى في هذا الاختلاف اختلافاً مقبولاً طالما هناك قبول لوجود عدة مذاهب؛
وأن القول بالإمامة من عدمه – عند عدم الاطلاع والتيقن – لا يخرج الإنسان من الجامعة الإسلامية كما قرر علماء الطائفتين؛
وأنه لا مشكلة كيف يقف المصلي بين يدي الله تعالى طالما كان التوجه إليه تقرباً منه وحباً به وطاعة لأمره، مع الحفاظ على أركان الصلاة (التي هي مشتركة بين الجميع)؛
وأن النظرة إلى التاريخ ينبغي أن تكون نظرة إلى ماض لم نصنعه نحن وبالتالي لن يحاسبنا الله عليه، ولكنه سيحاسبنا، وبشدة، إذا تركناه يدمر حياتنا ومستقبلنا ووحدتنا؛
وأن المناسبات المختلفة يمكن الاحتفال بها دون تعقيدات، فسواء بدأ العيد اليوم أو غداً فما المشكلة في أن يحتفل من يريد اليوم ويبدأ غيره في اليوم التالي.
إن الاشتراك في إقامة العبادات والمناسبات من شأنه بناء أجواء التفاهم، وذلك، أولاً من خلال اطلاع الآخرين على ما عندي كما أقدمه أنا لا ما سمعوه عني من أعدائي، وثانياً من خلال تخفيف حدة الطرح من قبل الخطباء والدعاة الذين سيجدون أنفسهم مضطرين لمجاملة الحاضرين من الآخرين، وهو أمر مطلوب جداً لأن "الحماوة" في المجلس لا قيمة لها إذا كانت تهدم، بل ربما ستوقف من يؤججها طويلاً بين يدي الله تعالى.
أما المناهج التعليمية فيمكن كتابتها بشكل يوضح الاختلافات كوجهات نظر مختلفة يعتقد بها أصحابها، ومن لا يقبلها عليه القيام بالبحث والقبول والرفض، دون إدخالها في معمعة العلاقات الحاضرة بينه وبين الآخرين من المذهب الآخر، لأنهم بين جاهل بما هو عليه، وعارف بما هو عليه ولكن لم يقتنع به حقاً، وعارف ومقتنع ولكنه أضعف من أن يصرح بذلك أو يرتب عليه الآثار، وعارف مقتنع ولكنه مصر على ما هو عليه لأن في قلبه مرض بحيث تقدمت عنده طاعة نفسه أو كبراء قومه على طاعة الله ورسوله (ص). في جميع هذه الأحوال، يجب تفهم الموقف أولاً، وعدم السماح له بالتأثير على الجامعة الإسلامية ثانياً.
بعبارة أخرى: إذا كانت ولاية الله تعالى من خلال "لا إله إلا الله" هي المقياس، وأن الغيرة والحرص على الجامعة الإسلامية هي الهدف، فإن المسلم سيجد الطرق الكثيرة للتعامل مع هذه الاختلافات في المناهج والمؤسسات التعليمية، الأمر الذي نجده متحققاً في الجاليات المسلمة خارج العالم الإسلامي لأنها وجدت نفسها مضطرة للتعاون من أجل حماية الهوية المسلمة لأبنائها، لا سيما وأن التفرق يعني إنفاق أموال أكثر يمكن استثمارها فيما تحتاجها هذه المؤسسات وغيرها.
· مؤسسات إعلامية
مؤكد أن هذه من أصعب الأمور لأن المؤسسات الإعلامية تعتمد على التمويل الكبير الذي يأتي عادة من دول، أي حكومات لها أهدافها غير النبيلة – غالباً –، أو من أثرياء كبار ليسوا مستعدين للاصطدام لا مع الحكومات ولا مع أية جهة يمكن أن تؤثر سلبياً على أعمالهم ومصالحهم. لذا، فإن الهدف المتيسر أولاً هو المطبوعات، من صحف ومجلات، ومواقع شبكة الانترنت التي لا تكلف كثيراً، ثم محاولة إطلاق قنوات تلفزيونية فضائية بساعات بث محدودة، تركز فيها على الأسس التي أتحدث عنها، من مركزية ولاية الله تعالى، والإيمان بالله ورسوله (ص) واليوم الآخر، والإيمان بالقرآن الكريم كوحي منزل من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه المصدر الرئيس للتشريع، والإيمان بالجامعة الإسلامية للأمة – بأفرادها الذين يشهدون الشهادتين، ومجتمعاتها التي تعيش، بدرجات مختلفة، في أطر قيمها الإسلامية، وأوطانها التي تعتبر بيضة الإسلام التي لا بد من حمايتها والدفاع عنها ضد أي معتد، وأهم من كل هذا مقدساتها التي تنشرها وتدافع عنها.
ولا شك أن هناك الكثيرين ممن يتمتعون بالقدرة على الإنتاج الإعلامي الهادف، وفي نفس الوقت يتمتعون بالإخلاص والحرص على مصالح الأمة، وأيضاً ممن يؤمنون بمنهج التقريب حقاً لا كبضاعة يبيعونها لهذه الجهة التقريبية ثم إذا بارت عند جهة أخرى فهم يبيعونها أية بضاعة تريد حتى وإن كانت مما يدمر الأمة ويفرق المسلمين، أي على النقيض من تلك.
وقد عاصرنا، ولا نزال، بعض الذين يتربعون على مجامع إسلامية من أهم أهدافها التقريب بين المسلمين والعمل من أجل وحدتهم فإذا هم فجأة يخذلون الأمة باصطفافهم النفسي المعلن مع أشد أعدائها من الحكام الظلمة والسكوت على غيرهم وعلى من يحركهم من أعدائها الخارجيين الكبار. فكيف الحال بموظفين في شبكات إعلامية وصحف ومطبوعات يبررون عملهم في هذه الشبكات المفرقة بمائة تبرير وتبرير، إلى درجة محاولة إقناع أنفسهم بأن ما يقومون به هو الصحيح.
على أية حال، إن أي عمل إعلامي مخلص يسير بالاتجاه التقني الصحيح سيباركه المولى عز وجل وسيقيض له مخلصين من أصحاب رؤوس الأموال الحلال ليدعموه كما سيقيض له من يرفده بالمقالات والبرامج الفكرية والفنية والترفيهية والتعليمية والاجتماعية – مهما كانت محدودة – فيها النفع العظيم للأمة، وستذهب جميع تلك البرامج التافهة والبرامج المفرقة جفاء.
· لقاءات اجتماعية، عمل خيري
روي أن الإمام جعفر الصادق (ع) قال لزيد الشحام: ((اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام؛ وأوصيكم بتقوى الله عز وجل والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله)؛ أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط؛ صلوا في عشائرهم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: "هذا جعفريّ" فيسرني ذلك ويدخل علي منه السرور، وقيل: "هذا أدب جعفر"، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره وقيل: "هذا أدب جعفر"، فوالله لحدثني أبي (عليه السلام) أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (عليه السلام) فيكون زينها – آداهم للأمانة وأقضاهم للحقوق وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول "من مثل فلان، إنه لآدانا للأمانة وأصدقنا للحديث")) (الكافي ج 2 ص636 باب ما يجب من المعاشرة رواية 5).
وفي رواية مشابهة، فيها: ((فإن أبي حدثني أن شيعتنا أهل البيت كانوا خيار من كانوا منهم – إن كان فقيه كان منهم، وإن كان مؤذن كان منهم، وإن كان إمام كان منهم، وإن كان صاحب أمانة كان منهم، وإن كان صاحب وديعة كان منهم، وكذلك كونوا؛ حببونا إلى الناس ولا تبغضونا إليهم)) (صفات الشيعة للصدوق حديث 39).
هذا الحث من الأئمة (ع) فيه التشجيع:
- على الانفتاح على الآخرين والتواصل معهم
- على القيام بواجباتهم الأخوية الإسلامية
- على التعامل بأحسن ما يمكن مع كل إنسان، بر أو فاجر
- على تقديم القدوة في شؤون الدين والدنيا
- على عدم التأثير سلباً على مكانة الأئمة (ع)، بل على تحبيبهم إلى الناس الذين لا يعرفون منزلتهم ومقاماتهم ودورهم في الحياة.
وهذه تشمل جميع جوانب العلاقات الاجتماعية، سواء المعتادة التي بين الجيران والأصدقاء والمعارف ورفقاء العمل والدراسة والسوق وكل مكان، أو التي يذهب بها الإنسان خطوة أبعد خدمة لأخيه الإنسان في قبول الأمانات والودائع وأشباهها، أو التي يذهب بها خطوات أبعد خدمة للمحتاجين وتقرباً إلى المولى عز وجل في مجالات العمل الخيري. ومثل هذه الروايات لا تقتصر على تشجيع الشيعة على الانفتاح على الآخرين وعدم الانغلاق، ولكن على أن يكونوا في وسط الآخرين وأن يتعاملوا معهم بشكل يكونوا أقرب إليهم ممن هم على مذهبهم، وإلا لماذا يأتمنونهم على الودائع مثلاً، وفي هذا تقوية لأواصر الجامعة الإسلامية ودفعاً للافتراءات والتهم التي تجعل من الشيعي مجمعاً لكل الرذائل كما يفتري عليه الأعداء.
إن هذه الروح بين المسلمين من الطوائف المختلفة نجدها موجودة في مختلف المجتمعات، وإن بدرجات مختلفة نتيجة طبيعة المجتمع وطبيعة الجهات الدينية المؤثرة فيه وحالة الأوضاع السياسية السائدة، ولكن المشترك هو أن عامة الناس لا يوجد في دواخلهم أي مشكلة في التعامل بالحسنى مع الآخرين، ولا سيما المسلمين، وعياً منهم لوجوب ذلك مع كل من تشهد الشهادتين. كما أن غالبية علماء المسلمين، من شيعة وسنة، يوصون أتباعهم بذات الوصايا التي سمعناها من أبي عبد الله الصادق (ع)، ولكنها لا تجد لها مصاديق أكبر نتيجة الانعزال والحالة الاستقطابية الموجودة رغماً على الجميع، الأمر الذي يجعل من محاربة هذا الأساس الخطأ ضرورة أولية.
· مؤسسات فكرية
هذه تقع في مركز عملية التقريب حيث أن أي مؤسسات أو مجامع للتقريب إنما تقوم بعملية فكرية من أجل الوصول إلى فكر أرقى إسلامياً ليشرق على النفس كيما تتخلص من الرواسب والعقد بين أبناء الطوائف. وبذا، فإن مثل هذه المؤسسات لا تحتاج إلى تسويغ.
فقط أذكر بأن عمل مؤسسات التقريب في صلب عملية التقريب المذهبية ستنصب على تفسير القرآن والحديث الشريف، وأول ما يجب التأكيد عليه هو أن علماء الطائفتين قبلوا روايات التفسير والأحكام وحتى الفضائل (التي هي محل نزاع كبير) من بعضهم البعض، أي من رواة السنة والشيعة، وهي مسألة أكدها العلماء عبر القرون.
من ذلك ما ذكرته في مقالة سابقة من قول العلامة الحلي (من أشهر علماء الإمامية في القرون الوسطى): "الأظهر قبول أخبار غير الموثقين منهم – أي غير الإثني عشرية – فإن التثبت يحصل بتفحص حال الرجل في خبره، فإذا حصل التثبت في حاله وظهر أنه لا يكذب في خبره فهذا تثبت"، إذاً هو الصدق وليس الاعتقاد. وقول الشيخ الأنصاري (من أعاظم علماء الشيعة في القرون المتأخرة): "الأخبار متواترة في الأخذ بخبر الثقة والمأمون".
وأهم منهما قول الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (ع): ((خذوا ما رووا وذروا ما رأوا)) – أي قبول الرواية لأنها نقل ورفض الاعتقادات المخالفة.
كما أن محدثي أهل السنة، ومنذ بداية تصنيف الكتب، وبضمنها كتابا البخاري ومسلم اللذين يعتبرهما أهل السنة أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، قد اعتمدوا روايات الكثير من رواة الشيعة مع علمهم بتشيعهم، بل بتشدد بعضهم في التشيع.
إلا أن الجهد الفكري في إطار العملية التقريبية يمكن القيام به في اتجاه آخر، وهو العمل الفكري المشترك بين أبناء الطوائف الإسلامية من جانب التوعية الفكرية العامة لأبناء الأمة، أيضاً من جانب العمل الفكري المشترك قبال غير المسلمين، سواء على مستوى المهتمين والنخب فيما يسمونه حوار الحضارات، أم على مستوى عامة الناس عندما تتعرض الأمة الإسلامية لحالات من الاعتداء على مقدساتها أو مصالحها أو حقوقها أو أفرادها، أم على مستوى العامة في المجتمعات التي تعيش فيها عندما تتعرض تلك المجتمعات لمشاكل كبرى.
بمعنى، أن أبناء الأمة من الطوائف المختلفة، ممن يمتلك قابليات فكرية منتجة، ينغمسون في عمل مشترك وكأنهم من طائفة واحدة، أي دون النظر إلى الاختلافات والخلافات الطائفية والمذهبية. مثل هذا الجهد موجود في العمل الفكري الأكاديمي أو الثقافي، وإن كان محدوداً للأسباب التي ذكرتها مراراً وأهمها الانغلاق والانعزال وسوء الظن الذي يمس الجوانب المختلفة.
إن مثل هذا التعاون الفكري من شأنه الإسهام في إذابة الجليد حتى على مستوى بعض العامة من الناس لأنهم يرون من يثقون في إمكانياتهم وإخلاصهم من المثقفين والكتاب والأدباء والصحفيين والفنانين والرياضيين يتعاونون فيما بينهم على الرغم من معرفتهم بالخلافات والاختلافات، وبما أنهم يرونهم أعلى منهم تحصيلاً علمياً ومعرفة وثقافة فإنهم يثقون في تقديرهم للأمور.
طبعاً، هنا يأتي الدور السلبي لبعض علماء الدين والدعاة الذين يسارعون إلى اتهام هؤلاء بشتى التهم كي يسقطوهم في نظر الناس وبالتالي يقللوا من تأثيرهم. وعليه، فإن مساهمة علماء الدين والدعاة، كمفكرين عموماً لا كأصحاب اختصاص في الدين، من شأنه تقوية الجهود الفكرية لأولئك.
· عمل سياسي
من أعجب ما يجده المتتبع لحركة المذاهب الإسلامية هي فشل الإسلاميين، أي السياسيون أو الدعاة الذين يدعون إلى عمل سياسي وعلاقات سياسية وصولاً إلى حكم يتخذ من الإسلام منهجاً، في صياغة عمل إسلامي مشترك يسيرون فيه باتجاه تكامل العمل ذاته على العقل، بغض النظر عن المأمول منهم في الإسهام بشكل مهم في عملية التقريب على مستوى الفرد. هذا، بغض النظر عن عدم وضوح طروحاتهم في معظمها. فإن شعار "الإسلام هو الحل" مثلاً شعار فضفاض يرفعه أي إنسان يؤمن بالإسلام ديناً ويلتزم بشريعته لأنه يعتقد أن الإسلام من عند الله فهو أفضل مما يمكن للبشر أن يقدموه، ولذا فقد بقي هذا الشعار غامضاً. أو شعارات أخرى تستخدم بعض الآيات القرآنية كقوله تعالى ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله)) وأمثالها، وكلها لا تحدد تفاصيل، بل لا تحدد حتى الأطر العامة.
ولكن العجب يزول إذا ما عدنا إلى نفس النقطة: النفس وما فيها من عقد ورواسب مركبة من جهل وتجهيل وضعف في التحليل، أيضاً ضعف في التقوى، لأن من يضرب بآيات الكتاب وأحاديث النبي (ص) الداعية بشكل واضح على المحافظة على الجامعة الإسلامية لا شك أنه لا يتمتع بتقوى يمكن أن توصف بغير الضعف.
لهذا، تجد الحزب أ يعارض الحكم في البلد أ ويوالي الحكم في البلد ب حتى ولو كان الحكمان على شاكلة واحدة في الدكتاتورية والبطش والإطار غير الإسلامي، ولكن لأن الحكم في بلده تسيطر عليه الطائفة الأخرى وذاك الذي في البلد الآخر تسيطر عليه طائفته هو.
مؤكد أن المعارضين يعيشون مشكلة عويصة عندما يجدون أنفسهم مطاردين ملاحقين لا مجال لهم إلا في بلد آخر يتعاطف معهم على أساس مذهبي، أو على الأقل لا يعاديهم على أساس مذهبي، فليس لهم إلا الاصطفاف إلى جانب من احتضنهم أو سهل أمورهم. ولكن لو كانوا هم والمعارضون الآخرون من ذلك البلد يضعون نصب أعينهم مركزية الجامعة الإسلامية وضرورة التعامل بمرونة مع هذا الحكم أو ذاك حتى يتحقق لهم النجاح الذي يريدونه نجاحاً للجميع، لاستطاعوا العبور من هذه المفارقة. ولكن ما في النفوس مما ترسخ، إضافة إلى ما استجد بسبب القمع هنا والقمع هناك، يجعل المسألة عسيرة جداً.
وحتى إذا استطاع البعض من ذوي النفوس الكبيرة التي اخلصت لله ودينه العبور على تلك الحواجز النفسية، فإنهم قلة قليلة ستجد كل أنواع الاتهامات والرفض وحتى الطرد من جماعتها قبل غيرهم.
لذا، فلا بد من أن يكون هناك جهد في إطار العمل السياسي بحيث يشكل المقدمات لأي عمل سياسي مشترك، وإلا فلا. مثل هذا الجهد يتضمن النظر في التصرفات والممارسات والكلمات والمقالات بحيث يكون كل شيء بحساب، لأن كلمة واحدة في غير محلها يمكن أن تنسف جهوداً مضنية كبيرة.
إن قول علي (ع): ((فما راعني إلا انثيال الناس على فلان – أي أبي بكر – يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد (ص)، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه)) (نهج البلاغة كتاب 62)، لمما ينبغي للإسلاميين العاملين وضعه نصب أعينهم، بل اتخاذه منهجاً يسيرون على هداه، لأنه يقول بكل وضوح أن وقف الهجمات الخارجية لا يكون إلا بالعمل الوحدوي الإسلامي، وأن تلك الهجمات تجد طريقها إلى النجاح من خلال الفرقة واللعب على أوتار الطائفية.
كما أن قوله (ع) لأصحابه الذين وصله سبهم لجيش الباغي معاوية: ((ني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبِّكم إياهم: اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيِّ والعدوان من لهج به)) (نهج البلاغة خطبة 206) يعني ضبط النفس في أصعب الظروف التي وصلت إلى إراقة الدماء الغزيرة، والذهاب إلى أبعد من ذلك وهو الدعاء للعدو بالصلاح. مثل هذا النهج إزاء الحكم المعادي ربما سيتخذ شكل النظرة الجامعة بالنسبة إلى الحزب الإسلامي المنتمي لطائفة ذلك الحكم، فلا يبدو العداء طائفياً حتى لو كان كذلك من جهة ذلك الحكم.
أخيراً، فإن العمل السياسي يمكن أن يتخذ أشكالاً أوسع كما هو الحال في الغرب، الذي يعتبر العمل من أجل قاطني المحلة الصغيرة عملاً سياسياً في إطار المجالس المحلية. كما يمكن أن يكون من أجل رفع الحيف عن المعدمين، أو لتوسيع الحريات ولو بهامش هنا أو هامش هناك، وبالتأكيد الدفاع عن حقوق المسلمين في كل مكان، الأمر الذي يمكن للإسلاميين القيام به أيضاً.
التقريب أوسع من النخبة
أخيراً، فإن جميع المجالات أعلاه دون استثناء ينبغي أن تشرك الجماهير لأنها هي التي تتأثر بالسلبيات وهي التي تتحمل عبء نتائجها؛ كما أنها هي التي يمكن أن تحمل ثمرات التقريب بحيث تصبح المجتمعات المسلمة عصية على المؤامرات الداخلية والخارجية.
ولا شك أن إشراك الجماهير لا يمكن في المراحل الأولى التي تخطط وتبدأ بالشروع بالتنفيذ لأن الأرضية غير مهيئة، بل هي قلقة محفوفة بالمخاطر – بعض هذه المخاطر من داخل العمل التقريبي، من أشخاص يدعون التقريب وهم في دواخلهم أبعد الناس عنه (شبيه بمؤتمرات القمة العربية التي يحضرها عملاء معروفون، فكيف يمكن اتخاذ أي قرار جدي؟)، ولكن من الضروري إشراك الجماهير بأسرع وقت ممكن، لأن في ذلك فوائد:
1- نشر ثقافة التقريب والوحدة دون انتظار الوصول إلى مراحل متقدمة ربما ليس من السهل تحديدها (لا سيما وأن الوصول إلى الوحدة الكاملة مستحيل)
2- إخراج الناس من الكثير مما عُلِّموه عن الآخر، من تهم وافتراءات وتحريف، لإبعادهم عن ذلك الآخر، ما يذيب الكثير من الجمود في العلاقات عبر الطوائف، وصولاً إلى التعاون – أو "تبديل التباعد والتباغض إلى الإخاء والتقارب" حسب تعبير الشيخ كاشف الغطاء رحمه الله
3- سحب البساط من تحت أعداء التقريب الذين سيجدون أنفسهم في غربة عن الجماهير، التي هي أقرب إلى روحية التقريب من أولئك (فهي تريد العيش بسلام وأمان في مجتمع لا تهزه نتائج الكراهية الطائفية)، وهذا يدعم حركة التقريب
4- تشجيع العمل ذاته بعد أن تبدو ثمراته على الصعد الاجتماعية والفكرية والتعليمية.