الأبعاد المختلفة
دول، حكومات، شعوب، أحزاب، جماعات، مذاهب، أفراد
أيضاً أبعاد الموضوع
كأي أمة تتميز بخصائص معينة، فإن الأمة الإسلامية لها مكونات مختلفة: مناطق جغرافية، شعوب، عشائر وقبائل، حضر وريف وبدو، مجتمعات، معاهد، بلدان، حكومات، أحزاب، جماعات، مذاهب، أفراد. جميع هذه المكونات تتأثر بشكل أو بآخر بموضوع الوحدة الإسلامية لأنها تتأثر بالتفاعل المستمر فيما بينها. فمهما كان الانعزال شديداً لمكون من هذه المكونات فلا بد وأن يتأثر بحالة الأمة، في تباعدها وتقاربها، تماسكها وتمزقها، قوتها وضعفها، تقدمها وتخلفها.
فحتى البدوي الذي تتميز حياته بالبساطة، الذي يعيش في مضارب قبيلته في مناطق نائية عن المدن التي تشهد صنع القرار وتشهد التغيرات الكبيرة المستمرة، فإنه يتأثر بما يجري هناك: شحة في المياه نتيجة خلاف بين بلدين مسلمين مجاورين، حرب بين بلدين مسلمين مجاورين، تغير بيئي نتيجة تخلف تقنيات المعامل، أمراض الماشية التي لا تجد من يتولى علاجها، وغير ذلك كثير... فما بالك بمن يعيش في المدينة، ويعمل في الحكومة أو القطاع الخاص، وينتمي إلى حزب مختلف فكرياً أو مذهبياً أو قومياً عن حزب السلطة، وهناك الخدمة العسكرية والضائقة الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية الضاغطة بين الأهل والأقارب والجيران، وغير ذلك الكثير الذي يزداد سوءاً عند تعدد الرؤى والولاءات والأولويات، وكله في غياب للوضوح في الرؤية وحضور المشاعر القلبية السلبية ما يزيد من الضغط النفسي على الفرد والجماعة تجعل من اشتداد الاندكاك في جماعته – القومية أو الدينية أو المذهبية – أمراً يحدث باستمرار، فتتغير العلاقات وربما العمل أيضاً، وصولاً إلى تغيير حتى المنطقة الجغرافية التي تكون أحياناً إلى خارج البلاد تماماً.
إن هذه الحالة التي نجدها اليوم في العالم الإسلامي بحيث صار هناك مناطق يغلب عليها أتباع هذا المذهب ومناطق يغلب عليها أتباع ذلك المذهب، بل مساجد منفصلة لهؤلاء وهؤلاء حتى في نفس المنطقة، لم تكن موجودة في الصدر الأول من الإسلام وحتى قرن أو أكثر، بل كانوا يتعايشون رغم الخلاف، ويتباحثون ويتناقشون حول مسائل الخلاف في نفس المسجد، الأمر الذي لم يعد موجوداً حتى في المساجد التي تشهد تواجداً لأتباع مذاهب مختلفة في آن واحد.
مما عندنا من نصوص تاريخية، نستطيع الجزم أن علماء الصدر الأول كانوا يتمتعون بعقلية كبيرة في النظر إلى الخلاف بحيث لم يكن يرونه – أو بعضه على الأقل – نابعاً من العناد مع الحق، بل يغلبون حسن الظن في الآخر أنه لم يتعرف على الحق أو لم يستطع الاهتداء إلى الصواب في الحكم الشرعي، اللهم إلا أن يثبت له أن ذلك الآخر يعيش حالة من الانحراف التي لا علاج معها. وصلتنا نقاشات ومحاورات علمية في المسجد النبوي ومسجد الكوفة وغيرهما تدل على ذلك الجو الذي لم يتميز بالانعزال والتباعد، البدني على الأقل.
بالطبع عندما يكون هناك اتجاه تفسيقي تكفيري فإن المسلم الذي يتعرض للهجوم يجد الجو معادياً، ربما إلى درجة الخوف على حياته، وهذا أدى إلى بداية روحية الانعزال والتباعد إلى أن وصلت إلى أن يمتنع المسلم عن البوح بفكره ومعتقداته ويقوم بالتظاهر بأنه من المذهب الآخر المسيطر في تلك الساحة أو المسجد أو البلد من أجل الحفاظ على كرامته وحياته. ولا غرابة في ذلك إذا كانت الفتاوى تصدر كل حين بتكفير وتحليل دماء مسلمة محترمة بناء على افتراءات يصاغ منها أحكام شرعية، فتخرج في شكل فتاوى أساسها الجهل وعمادها الحقد وبناؤها غياب التقوى.
صارت المساجد الآن متشابهة في بنائها مختلفة في جوها، بحيث إذا دخل مسلم من مذهب ما مسجداً لمذهب آخر يشعر مباشرة أنه يختلف. بل إذا دخل منطقة يغلب عليها طابع مذهبي آخر ربما وجد جوها يختلف قليلاً أو كثيراً. فإذا ما بدأ الخطيب أو الواعظ أو الداعية بالكلام فلربما بدأ بالتهجم على مذهب هذا المسلم تصريحاً أو تلميحاً.
ما ينتظره المتصدون
وتشتد الحالة في المساجد التي لا يمكن أن تكون إلا مساجد عالمية، ولا سيما المسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة، بحيث لا تمضي أسابيع إلا ويخصص الخطيب جزءاً مهماً من خطبته في التهجم على الشيعة، أحياناً أثناء مواسم الحج والعمرة في رجب ورمضان حيث تكون نسبة الشيعة كبيرة بين المصلين خلف هذا الخطيب الذي لم تنفعه تلاوة القرآن ولا الصلاة في المسجد الحرام في شفاء ما تعانيه نفسه.
فهذه الحالة ستواجه المتصدين للعمل التقريبي وكل من يسعى ولو من خلال حياته الخاصة إلى ردم الفجوة أو بناء الجسور وتبديل الكراهية إلى محبة. هذه الحالة واجهت رواد التقريب في القرن العشرين، كما وصفها الشيخ محمود شلتوت (شيخ الأزهر الأسبق) بأن الجو كان "مليئاً بالطعون والتهم والافتراءات وسوء الظن من قبل المتعصبين والمتزمتين الذين قالوا أنها محاولة لإدماج المذاهب بعضها إلى بعض" وذلك لأن أول ما يتسلح به الخصم عند غياب التقوى هو كيل التهم دون دليل، والافتراء، في إطار من سوء الظن الذي يبقى في حالة شك حتى حول موضوع واضح النبل...
كما ذكر كيف"حارب الفكرة ضيقو الأفق وأصحاب الأغراض السيئة والنفوس المريضة والنزعات الخاصة"، وهو ما يحصل عند اصطدام أي فكرة جديدة بضيق الأفق، وأي جهد نبيل بالهدف السيء، وأي مشروع أساسه المحبة بالنفس المريضة، وأي عمل من أجل الجماعة بالنزعة الخاصة.
إن هذه الحالة موجودة على مستوى الفرد والجماعة والحزب والمذهب والحكومة والبلد، وسيكون من الواجب التفكير بكل منها لأن لكل منها درجة تأثيره وطريقة تأثيره.
مثلاً: عبر المذاهب
بعيداً عن الحكومة والجوانب القومية والعشائرية والمناطقية فإن جهود التقريب عبر المذاهب تمثل أحد الجوانب المهمة في عملية التقريب بحيث يمكن القول أنها إذا فشلت فإن الصعوبات في العمل في الجوانب الأخرى ستشتد وربما تؤدي إلى الفشل أيضاً.
(ولعل البعض يستغرب من هذا الكلام على اعتبار أن التقريب هو في حقيقته عمل في الإطار المذهبي ليس إلا، أي ليس هو أحد الجوانب المهمة بل الجانب الوحيد. لكن حقائق التاريخ وحقائق الواقع تقول غير ذلك. مثلاً، إستطاعت السلطات ليس في التقريب فحسب بل في تغيير البنية العقدية للمجتمع برمته، كما حصل في مصر مرتين: مرة عندما حكمها الشيعة العبيديون فصار الجو العام شيعياً وبعدها عندما حكمها صلاح الدين الأيوبي فغير ذلك إلى التسنن. مثل ذلك ما حصل في إيران التي كانت معظمها سنية فإذا ما جاء الصفويون قرروا ونفذوا قرارهم بجعل المذهب الرسمي المذهب الشيعي الإثني عشري حتى صارت البلاد شيعية في معظمها. إذاً، يمكن للتأثيرات الأخرى أن تكون أقوى من جهود العلماء والفقهاء.)
ولا أريد هنا تكرار ما قلته آنفاً من أن مشاكل الجهل والتحجر والتعصب والانغلاق إضافة إلى العقد النفسية والجوانب المصلحية تشكل جميعها موارد للفشل على مستوى حوار المذاهب، أي المستوى العلمائي. ذلك أن العلماء ليسوا بمنأى عن جميع نقاط الضعف هذه، بل إننا نجد أن بعضهم، وربما أكثرهم، يعيش هذا الضعف بشكل أشد من غيرهم. وعليه، فإن العلم والتحلي بروح القرآن لا بد منها لهؤلاء قبل غيرهم.
مثال آخر: داخل المذهب الواحد
أما داخل المذهب الواحد فلعل البعض يظن أن أجواء الحوار والتفاهم هي السائدة، ولكن الحقيقة ليست على هذا النحو، على الأقل في الكثير من الأحيان. إن مشاكل الجهل والتحجر والتعصب والانغلاق والعقد النفسية والجوانب المصلحية هي ذاتها تفعل فعلها في هذا الإطار أيضاً. بل ربما وجدناها أكثر شدة منها في جهود الحوار والتقريب عبر المذاهب لأن التنافس أكثر شدة من جانب، ولأن التخويف من الجديد أو أي شيء يتحدى السائد أكثر سهولة.
وليس هذا الجانب ثانوياً في موضوع التقريب والوحدة الإسلامية، بل على العكس هو في غاية الأهمية، لأن المتصدين للتقريب بين المذاهب يتعرضون أول ما يتعرضون للتهجم من داخل مذاهبهم هم، كما أشار الشيخ شلتوت رحمه الله وغيره، وإلا من هم المتعصبون والمتزمتون وضيقو الأفق وأصحاب الأغراض السيئة والنفوس المريضة والنزعات الخاصة الذين ذكرهم الشيخ شلتوت، إن لم يكونوا من داخل نفس المذهب السني الذي شعر وعرف منهم تلك المواقف السلبية، والتي لا شك تعرض إليها رواد التقريب من الشيعة في ذلك الوقت.
مثال ثالث: الحزب الإسلامي الوطني الأممي والحزب المذهبي الطائفي
يجمع الحزبيون الإسلاميون، أي الذين ينتمون إلى حركات إسلامية تنشد التغيير على أساس من الهدى الإسلامي، بين صفتين: الإسلام والفكر، بمعنى الخضوع للنص الديني والحكم الشرعي وبنفس الوقت التحرر من بعض أثقال المؤسسة الدينية أو الإطار الديني التقليدي. لذا، تجد أن هؤلاء يعيشون أجواء الحوار والتفكر والانفتاح على الأفكار الجديدة بشكل أفضل من الآخرين.
إلا أن هناك تفريقاً لا بد منه بين الحزب الإسلامي الوطني أو الأممي وبين الحزب المذهبي الطائفي. أما الأول فهو الحزب الذي يضع نصب عينيه مصالح الأمة في طولها وعرضها وجميع مذاهبها، أو على الأقل مصالح الوطن الذي ينتمي إليه والمواطنين على اختلاف انتماءاتهم، فيقدمها على مصالح الطائفة عند التعارض، خصوصاً في مواجهة الأخطار الكبرى التي تتعرض لها الأمة، وأما الثاني فهو يقدم الإطار المذهبي ومصالح الطائفة التي ينتمي إليها حتى إذا كان الخطر يتهدد الجميع.
ولا أستطيع اتهام أي حزب في العالم الإسلامي بأنه من النوع بشكل خالص أو من النوع الثاني بشكل خالص، بل يمكن القول أنه لا يوجد حزب يصدق عليه ذلك، لأن الشارع الذي يمثل جمهوره أو جمهوره المحتمل يتأثر بضغوط المؤسسة الدينية والحكومة والعشيرة وغيرها. إلا أن السؤال يبقى: لماذا يا ترى فشلت الأحزاب الإسلامية في ضم أعضاء كثيرين من الطائفة الأخرى التي لا ينتمي إليها قادة الحزب أو مؤسسوه؟ بل لماذا لم يتأسس حزب منذ اليوم الأول بطابع إسلامي عام يضم أشخاصاً من الطوائف الأخرى، لا كتزويق فحسب ولكن بشكل حقيقي صادق يتأكد من عمق مشاركتهم في الحزب ومن تأثيرهم على مسيرته وفكره؟
إذا كان الحزب أ من الطائفة أ يرفع شعار الإسلام بلا مذاهب وشعار تقدم الأمة وشعار ضرب الطائفية، وكان الحزب ب من الطائفة ب يرفع نفس الشعارات، فكيف يفشل الحزبان في العمل الإئتلافي الذي يرتفع فوق المذاهب والنفس الطائفي؟
وإذا فشلا في هذا وهما يتألفان من أعداد لا تتجاوز نسبة ضئيلة من حجم الأمة فكيف نصدق أنهما سينجحان في جمع الأمة كلها أو معظمها أو ما يكفي لبعض روح النهضة فيها؟
وإذا فشلا هؤلاء في ذلك وهم من ضمن صفوة المتدينين وصفوة أهل الفكر والنظر فكيف سينجحون في تغيير واقع عامة الناس ولا سيما عوامهم وجهالهم؟
لقد وجدت أن بعض هؤلاء "الصفوة" يرزحون تحت وطأة درجات من الجهل والعقد الطائفية بشكل أشد بكثير من غيرهم من التقليديين أو أنصاف المتعلمين، وما ذلك إلا لفشل واضح في التربية التي يتلقاها هؤلاء على المستوى التنظيمي الذي ربما اهتم بالجانب الفكري العقلي وأهمل الجانب السلوكي أو بالعكس أو أهمل الاثنين معاً وهم في خضم الصراع مع الحكومات المتسلطة.
وهؤلاء هم الذين يعملون من أجل التغيير على مستوى الحكومة، وهو ما فشلوا فيه لحد الآن... فهل أن مثل هذا التغيير الكبير لا يمكن إلا عن طريق الهبّات الجماهيرية؟
مثال رابع: العشيرة والبعد المذهبي
العشائريون، أي الذين تمثل العشيرة بالنسبة إليهم واحداً من أهم جوانب هويتهم، ليسوا ملائكة، ولكن عندما تأتي المسألة المذهبية الطائفية فإنهم من أبعد الناس عنها! نعم، العشائريون أقل الناس اشتراكاً في الشد الطائفي كما هم أقل الناس اندكاكاً في الجوانب التاريخية التي تشكل نقاط انفجار بين الطوائف.
وهذا الحال يأتي من الواقع العشائري، أي نظام العشيرة الذي ينظر أول ما ينظر إلى مصالح أفراد العشيرة، ليس بالشكل الأناني الذي ربما يظنه القارئ، ولكن كنتيجة طبيعية لوجود الشيخ الذي يقف مسؤولاً عن نظام العشيرة أولاً وتحصيل مصالحها ثانياً، يعاونه كبار القوم في عشيرته. وكلما كانت العشيرة تعيش بعيدة عن الحواضر، أي في القرى أو الأرياف أو البوادي، كلما كان الحال أقرب إلى ما ذكرت، لأن اللحمة العشائرية تكون أقوى من جانب إذ غالباً ما يكون أفراد العشيرة جميعهم يعيشون جنباً إلى جنب على أرض واحدة لا يشاركهم فيها أحد، فهم ليسوا متشتتين في المدن، ومن جانب آخر لأن العشيرة تجد نفسها مقابل حاجاتها لا بد من تلبيتها، على نحو السرعة أحياناً.
وطالما كان هذا النظام يقوم بدوره الإيجابي في إبقاء السلم الأهلي في داخل العشيرة، وبينها وبين العشائر الأخرى، فليس هناك داع لتغييره من أجل التغيير. لذلك، أبقى الإسلام النظام العشائري كما هو في تنظيم أمور العشيرة اليومية، وفي المسألة المالية، فكان النبي (ص) يبعث مع وفد العشيرة الذي يأتي ويعتنق الإسلام إثنين من الصحابة واجبهما محدد بتعليم أفراد العشيرة مجملات العقيدة والعبادات والمعاملات على أساس الشريعة الإسلامية ويترك أمر جمع الأموال، من زكاة وخمس وكفارات وغيرها، إلى شيخ العشيرة. فهو (ص) يدخلهم في الإسلام تدريجياً وفي ذات الوقت يجعل أمرهم المالي بأيديهم لأنه يتأثر بظروفهم الاقتصادية عموماً والطقس وغير ذلك من أمور، مع تعليمات مشددة إلى الصحابة المبعوثين بأن أول المستفيدين من الأموال المجموعة هم فقراء العشيرة نفسها ثم يرسل الزائد إلى المدينة.
هذا، مع أن هذا النظام العشائري ذاته يستبطن نقطة سلبية في غاية الأهمية، وهي طاعة رؤساء العشيرة في كل شيء حتى إن أدخلوهم في جانب الباطل أو أمروهم بعصيان الشرع. كان هذا واضحاً في انتظار جميع أفراد العشيرة، أي عشيرة، لنتيجة الصراع بين النبي (ص) وقريش فلما حسم لصالح النبي (ص) دخلوا في دين الله أفواجاً، فكانوا كافرين لأن رؤساءهم قرروا البقاء على الكفر وصاروا مسلمين في ليلة وضحاها لأن رؤساءهم قرروا الدخول في الإسلام؛ ولم يخرج عن هذا إلا النادر من أفراد قلائل أخذوا الأمر على عاتقهم وأسلموا قبل عشائرهم. كما كان واضحاً في انخراط عشائر كبيرة مهمة إلى جانب معاوية بن أبي سفيان مع أنه يقاتل الإمام علي (ع)، أي مع وضوح من هو جانب الحق ومن هو جانب الباطل.
على أننا الآن نشهد، وهو الحال منذ قرون، أن العشائر صارت تضع في حسبانها فتاوى المؤسسة الدينية التقليدية، سواء الشيعية منها أو السنية، وإن كان الحال أشد في الأولى، بحيث صار ضرورياً على شيوخ العشيرة البخوع لفتوى المرجع الديني حتى على حساب المصالح الآنية للعشيرة، كما وجدنا في خروج عشائر الفرات الأوسط والجنوب الشيعية وعشائر الغرب (عدا الدليم) لقتال الغزاة الانجليز عندما دخلوا العراق عام 1914، وذلك استجابة لفتاوى المؤسسة الدينية. نفس الشيء حصل في مناطق أخرى من العالم الإسلامي، كالجزائر وليبيا والسودان في مراحل مختلفة.
إذاً، فإن جهود التقريب ليست مهمة على المستوى العشائري طالما أن العشيرة تتمحور مواقفها حول مصلحة العشيرة وحول ما تعلنه المؤسسة الدينية التقليدية.
أبعاد الموضوع
نستطيع الجزم بأن قضية الخلاف الأساسية بين المذهبين الرئيسين الشيعة والسنة هي قضية إمامة أهل البيت (ع) بشقيها التاريخي والديني: الشق التاريخ يتعلق بمسألة الخلافة التي نشأت في التاريخ الإسلامي منذ وفاة النبي (ص) وحتى بعيد منتصف القرن الثالث وفاة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (ع)، خصوصاً في الخلاف حول شرعية خلافة الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، ودرجة اعتبار تلك الخلافة لمن يرفضها – أي الشيعة – انحرافاً أو تغييراً أو عصياناً للنصوص المقدسة، والشق الديني يتعلق بإمامتهم (ع) العقائدية الفقهية كونهم وحدهم مصدر الأحكام أم أن الصحابة كانوا أيضاً مصدر الأحكام كونهم تلقوها من النبي (ص) وكونهم مأمونين على النقل عنه (ص).
وكما أشرت سابقاً بأن الخلاف حول هذه القضية لم يمنع المعنيين الأصليين، أي علياً (ع) والخلفاء الثلاثة ومن ناصر الطرفين، من التعايش والتعاون؛ كما لم يمنع العلماء من المدرستين – بعد أن افترقت الأمة إلى مذاهب - وأتباعهم من التعايش والتحاور، بشكل ظل يضعف تدريجياً حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من حالة تفرق وتباعد استدعت العمل التقريبي الوحدوي الذي نحن بصدده. تلك الأحزاب التي نشأت نتيجة الخلاف هي التي أدت إلى هذا الحال، ليس لأنها سيئة النية، ولكن لأن طبيعة الأمور تحتم ذلك: تبدأ المدارس بأفكار بسيطة مبنية على المفاهيم والأطر العامة للشريعة، ثم تبدأ التفاصيل والتفريعات حتى تصل إلى قضايا هامشية ثانوية ربما ليست من موارد ابتلاء المكلفين، ويتعمق البحث في الجانبين ولكن في القضايا الخلافية بشكل مركز مع اتجاه نحو الابتعاد عن الطرف الآخر بحيث إذا جاءت رواية تتفق مع الآخر وأخرى تخالفه فإن الجنوح هو نحو الرواية المخالفة حتى وإن كانت معارضة لصريح القرآن أو العقل أو الحديث الصحيح، ما يؤدي إلى زيادة مسافة البعد بين المدرستين.
أضف إلى ذلك نقطة أخرى غاية في الأهمية: إذا حصل أن إحدى المدرستين تم تبنيها من قبل الحكام المتسلطين بالقوة القاهرة وجرت طريقة الحكام على قمع المدارس الأخرى، كفكر أو كأتباع، فإن الحقد على أولئك الحكام ينتشر إلى المدرسة التي تبنوها، في ذات الوقت تشعر تلك المدرسة المتبناة بأن من مصلحتها الاندكاك أكثر مع الحكام وذلك لتعزيز موقعها الأثير ومصالحها من جانب ولحماية نفسها من ثورة الآخرين من جانب آخر.
وإلا فكيف وصلنا إلى هذا الحال الذي لا يمت بصلة إلى الأيام الأولى، على شدة ما وقع من ظلم على أهل البيت (ع) بالخصوص وشيعتهم معهم والكثير من المسلمين المعارضين سواء كانوا من الخوارج أم غيرهم. كيف يكون منهج علي (ع) وهو أحد طرفي الخلاف الأساسي على ما وصفه في كتابه إلى أهل مصر (نهج البلاغة ج2): ((فما راعني إلا انثيال الناس على فلان – أي أبي بكر – يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه))، ثم نصل إلى مستوى أن يمتنع البعض عن مجرد الدعاء لنصرة مسلمين مجاهدين وهم في خضم المعركة مع أشد أعداء الأمة بنص القرآن؟
صحيح أن مثل هذا البعض نجده في مدارس أخرى متشددة فهم ليسوا على منهاج علي (ع) أصلاً، ولكني أريد الإشارة إلى الصورتين في ذلك العهد الأول وفي زماننا.
وإن شئت، فقل لذلك الذي يمنع حتى من الدعاء للمجاهدين لأنهم يخالفونهم مذهبياً، بأن الخليفة الأول، الذي يعده هذا وغيره الخليفة الشرعي بعد النبي (ص)، يقول لفاطمة الزهراء (ع) وهو في خضم جوابها على تقريعها له ولأصحابه على ما فعلوه بآل محمد (ص): "لا يحبكم إلا سعيد ولا يبغضكم إلا شقي بعيد فأنتم عترة رسول الله الطيبون الخيرة المنتجبون على الخير أدلتنا وإلى الجنة مسالكنا" فلم يخرجه الموقف الحرج الذي وضعته الزهراء (ع) فيه من أن ينوه بمنزلتهم (ع)، بمعنى أنه أراد الخلافة فحسب، أي المنصب الدنيوي، فلا نزاع في أن أهل البيت (ع) هم الطيبون المصطفون والدليل إلى الخير والطريق إلى الجنة. فكيف صار أتباعهم (ع) من السوء بحيث تمنع نصرتهم، ليس بالسلاح والعتاد والمال والمؤن، ولكن الدعاء فقط؟ هذا ما أتكلم عنه.
نظرة الطائفتين إلى التقريب والوحدة الإسلامية
لهذا تجد أن هذا وأمثاله ممن هم على مذهبه المتشدد لا يؤمنون بمسألة التقريب أصلاً لأنهم يرونها جهداً بين مسلمين وغير مسلمين، أو بين مسلمين وأدعياء الإسلام من المنحرفين، حتى أنهم يصرحون أن الشيعة ليسوا لهم ذمة كما لأهل الكتاب، ويطالب المتشددون من هؤلاء المتشددين حتى بعدم السماح للشيعة بدخول المسجد الحرام على أساس أنهم نجس! هذا هو موقف المدرسة السلفية (الوهابية).
أما أهل السنة، فهناك موقفان:
الأول أنه يعترف بإسلام الشيعة وعليه فإن مذهبهم من المذاهب الإسلامية موضوع البحث في قضية التقريب، ولكنه يخشى من تسرب عقائد الشيعة إلى المسلمين السنة، وعليه فلا حاجة للتقريب معهم، بل ربما صار للتقريب إشكالاً شرعياً. إلا أن هؤلاء لا يمتنعون عن الاستجابة إلى دعوات المؤتمرات والندوات واللقاءات الإعلامية ويبدون وجهاً آخر فيدعون رغبتهم في التقريب وحرصهم على الوحدة، ولكن لا يتقدمون خطوة في هذا الاتجاه.
الثاني يؤمن بالوحدة ويدعو إلى تفعيل جهود التقريب برغبة صادقة ويشارك في تلك الجهود من أجل إنجاحها، ذلك أن الشيعة عنده هم مسلمون كغيرهم وأن الخشية من أفكارهم لا مبرر لها لاسيما بلحاظ الهدف الأكبر من جهود التقريب، وهو دفع الخطر عن الأمة بأسرها والسير نحو تقدمها بمجموعها.
أما الشيعة فهناك موقفان أيضاً:
الأول يشابه الموقف السني الأول، وهو الخشية من صهر المذهب الشيعي في المذاهب السنية، خصوصاً وأن أهل السنة يمثلون النسبة الأكبر من الجسم الإسلامي. لذا، فهم لا يعملون في إطار التقريب، فإن فعلوا فإنما يكون في الإطار اللفظي ليس إلا.
الثاني على العكس، فهو يؤمن بجهود التقريب، اتباعاً لنهج الأئمة (ع) في إشاعة روح الأخوة الإسلامية والأمة الواحدة من خلال نهجهم التوحيدي، وإدراكاً أن أعداء الإسلام لا يفرقون بين المسلمين من شتى المذاهب، وأن بناء الأمة يحتاج إلى تعاون أبنائها من شتى الاتجاهات والمذاهب. لذا، فهم أشد الناس دعوة وتشجيعاً في إطار التقريب.