برنامج تدبر القرآن
الخميس 16/01/2014
غسان نعمان ماهر السامرائي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الهداة.
لقاء اليوم هو الأول في القسم الأول من 6 حلقات إن شاء الله، هدفه إعطاء فكرة أفضل لما ندعو إليه من التشجيع على تدبر كتاب الله – من الأقسام المختلفة من المعارف والمواضيع من جانب، واستخدام أدوات التدبر من جانب آخر.
(الأقسام المختلفة التي ذكرتها في اللقاء السابق وهي: البلاغة، الله تعالى، القرآن، النبي (ص)، أهل البيت (ع)، أقسام الناس، الخلافيات، الابتلاء، مفاهيم مهملة، قُل، إنَّما.)
وقد ا خترت آيات من أقسام: البلاغة ، الله تعالى ، القرآن الكريم. (وستلاحظون أنه من الصعب حصر موضوع الآية، أية آية، في قسم واحد لأن التشعب في المعارف القرآنية والارتباط بين الآيات يجعل من ذلك أمراً عسيراً.)
((( أولاً ))) قسم البلاغة 1 + قسم الله تعالى 1:
قوله تعالى: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) سورة الفاتحة:5
أولاً، نلحظ التعبير بالضمير "إياك"، فيقدم المفعول به على الفاعل، فلا يقول بتعبير الجملة الفعلية "نعبدك" ولا بتعبير الجملة الإسمية "نحن نعبدك"، ولكن يقدمه تعالى.
وذلك من أجل:
(1) الإنسان ربما يعبد الله وربما يعبد الأصنام أو النجوم أو غيرها، كما يمكن أن يعبد أشخاصاً على نحو العبادة الحقيقية، أي الشرك الجلي، أو نحو العبادة في الواقع، أي الشرك الخفي. لهذا، إذا قدم "نعبد" فإن هناك ولو لحظة واحدة يكون التعبير شاملاً للمعبود الواجب العبادة والآلهة المزيفة – كأنما إذا سمعت القائل يقول "نعبد" ثم انقطع الصوت أو البث، فلا تدري من وما يعبد. ولكن حينما يقول "إياك" بعد أن يكون قد وجه الخطاب لله في الآيات ما قبلها، فإنك تعلم أنه يقصده سبحانه.
(2) هو يفرغ القلب، قلب القائل، من الأغيار أولاً، ثم يعلن أنه يعبده. أي نظير قول "لا إله إلا الله" الذي يفرغ القلب من جنس الآلهة، ثم يدخل الله تعالى وحده بالاستثناء.
فائدة لغوية ضمائر النصب المنفصلة :
الضمائر تأتي في محل رفع أو نصب أو جر وبعضها في أكثر من حالة.
"إياك" هي من الضمائر المتصلة التي تأتي في محل نصب، مفعول به أو معطوف على منصوب مثلاً إسم أن. وهذه تنفع في تركيز الكلام على المنصوب بتقديمه، كما تنفع في القول البليغ.
فتقول: "إياكَ أُخاطِب" لتلفت انتباه المخاطب أنك تخاطبه هو؛
بدلاً من "أخاطبكَ" فيكون فعل المخاطبة هو الأهم،
أو "إني أخاطبك" ليكون المخاطِب وهو أنت الأهم.
إياي ، إياي ، إياكَ ، إياكِ ، إياكما ، إياكم ، إياكن ، إياه ، وإياها ، إياهما ، إياهم ، إياهن
((إن الأرض واسعة فإياي فاعبدون)) بدلاً من "فاعبدوني"
((لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي)) بدلاً من "أهلكتهم من قبل وأهلكتني"
((وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)) بدلاً من "ألا تعبدوا غيره"
((وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)) بدلاً من "وإنا أو أنتم لعلى هدى"
((ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم)) بدلاً من "نحن نرزقهم ونرزقكم"
((ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم)) بدلاً من "نحن نرزقكم ونرزقهم"
ثانياً، المعنى العام
كما قال المفسرون: "نعبدك ونستعين بك" وبعضهم أضاف "ونستعين بك على عبادتك"
ثالثاً، بتفصيل أكثر:
العبودية: هي العبودية المعروفة في الأديان، ومنها الإسلام، أي مالكية الله تعالى للإنسان فهو المالك المعبود والإنسان المملوك العبد...
الاستعانة: لماذا "نستعين" وليس أي فعل آخر مما ينبغي أن نقوم به مع الله، مثلاً "نشكر" "نصبر" "ندعو"؟
هناك آفاق:
(1) لأنه ربما يفهم من "نعبد" أننا نقوم بذلك بشكل مستقل، فجاء بكلمة "نستعين" لكي يؤكد أنه حتى العبادة ذاتها لا تتم بشكل مستقل تماماً عنه تعالى بل تحتاج إلى الاستعانة به، وهذا قول المفسرين "ونستعين بك على عبادتك".
(2) لأن أي فعل آخر "نشكر ، نصبر ، ندعو " وغيرها يعني مجاله فقط، في حين أن "نستعين" تشمل الاستعانة على كل الأفعال، أي ليس فقط العبادة... فكأنها تقول: "نستعين بك على العبادة، والشكر بحيث لا نغفل عن الشكر وأداء الشكر كما ينبغي، والصبر بحيث لا نجزع أو نضعف أمام البلاء، والدعاء بحيث نلتفت إلى الحاجة إليه ثم القيام به ثم القيام به بالشكل الصحيح..." وهكذا.
رابعاً، لو أردنا النظر في بدائل التعبير عن هذا المعنى، فهل يمكن أن نأتي بما هو أفضل؟
"لا نعبد غيرك ولا نستعين إلا بك" أو "نعبدك وحدك ونستعين بك وحدك"
أو "نعبدك ونستعين بك" حتى أنها أقل عدد من الكلمات..... نجد:
- غياب التأكيد على المعبود والمستعان به في أول الكلام الذي كان باستخدام "إياك"
- غياب السجع والقافية للسورة "يم" و "ين"
- إنهيار الانسيابية في التعبير (الجَرَس أو النَّفَس)
وكل ذلك مما استخدمته الآية المباركة في أربع كلمات وحسب... وهذا هو الإعجاز القرآني: تحقيق المعنى المطلوب بأقل عدد من الكلمات وبأجمل الوقع على الأذن وبما يناسب القافية أو السجع في السورة كلها.
كما رأيتم، فإن الأدوات التي استخدمناها في عملية التدبر البسيطة هذه هي:
1- قواعد اللغة العربية: إياك
2- المعنى العام: العبودية والاستعانة
3- تميز إحدى الكلمات "نستعين": بإحاطتها بغيرها من جوانب العلاقة بالله + السجع
4- السبك في التعبير / التقديم والتأخير + "ما قل ودل"
5- إستخدام السجع والقافية
6- الإنسيابية في التنزيل القرآني
(((( تفضلوا بالأسئلة ))))
لم يكن هناك أسئلة عديدة.
((( ثانياً ))) قسم الله تعالى 2:
(( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )) البقرة:62
أولاً، تعداد الفئات بملاحظة أن ((الذين آمنوا)) هم المسلمون لأن الخطاب إلى المسلمين في القرآن هو دائماً "الذين آمنوا" – وهو ما سننتبه إلى الفارق بينه وبين "المؤمنون" أو "الذين آمنوا منهم" التي تفصل المجموعة المؤمنة حقاً، بشكل عام، أو في قضية معينة
ثانياً، تحديد المعيار في القبول: الإيمان بالله + الإيمان بالآخرة + العمل الصالح، أي أصلان من أصول الدين، لأن الثالث هو نبوة النبي محمد (ص) وهي غير موجودة
ثالثاً، النتيجة: الأجر + الأمان
ظاهر الآية: أن جميع من يتحقق فيه المعيار من هذه الفئات يحصل على الأجر والأمان من العذاب...
فهل الكلام عن الدنيا، أم الآخرة، أم الدنيا والآخرة معاً؟
الآية توحي بأن الأجر في الدنيا ممكن بلحاظ ((فلهم أجرهم عند ربهم)) فهو عام..
كما توحي بأن الأجر في الآخرة أيضاً بلحاظ ((ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون))، والذي لا أجر له في الآخرة كيف لا يخاف ولا يحزن؟ بل إن الأولى هي دار ابتلاء فيها من الخوف والحزن الشيء الكثير.
الإشكال هو:
الاعتقاد السائد عندنا أن الناجين في الآخرة هم المسلمون حصراً، بلحاظ آيات أخرى، لا سيما:
((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ)) آل عمران:85
((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّه الإِسْلام)) آل عمران:19
ولكن كي نعرض الآيات على بعضها لا بد من تدبر الآيات الأخرى.
إن القرآن يستخدم كلمة "إسلام" بمعنى "إسلام الوجه لله بالعبادة"، فهو يسمي الأنبياء والمرسلين (ع) مسلمين، ويسمي أتباعهم باسم الإسلام ((قال الحواريون نحن أنصار الله، آمنا بالله، واشهد بأنا مسلمون)) وهكذا.
والآية موضوع التدبر تضم "الذين آمنوا" بمعنى الجماعة المسلمة المؤمنة بالرسالة المحمدية، فلا تقول "المسلمين"، وبالتالي هذا يقوي الرأي القائل أن "الإسلام" في الآيتين أعلاه يعني الإسلام بالمعنى العام للمؤمنين بالله من مختلف الديانات.
كما أن تدبر آية ((ومن يبتغ))، أي النظر في كل كلمة، تفتح الباب أمام الاحتمالات:
خذ مثلاً – ((يبتغ))، فهي الأخذ بقصد وإصرار، فلم تقل "يتخذ" أو "يتبع"...
((الإسلام))، فهو بالمعنى الأعم، ربما
وعليه فإن ((لن يقبل منه)) و ((في الآخرة من الخاسرين)) على هذا النحو.
ولكن: ماذا عمن وصلته الدعوة المحمدية وبقي على دينه؟
هنا احتمالات:
(الأول) وصلته الدعوة وهو لا يمتلك الأدوات اللازمة للتعرف الحقيقي عليها، بسبب حاجز اللغة أو القدرات الذهنية المحدودة أو التخويف من السلطات
(الثاني) وصلته الدعوة ومعها وصلته الصورة المخالفة للدعوة التي عليها بعض المسلمين، ما يسبب عدم الوضوح، وبما أن الإنسان ينزع إلى البقاء على ما هو عليه "اللي تعرفه خير من اللي ما تعرفه"، فإنه يبقى على دينه
(الثالث) وصلته الدعوة ونظر فيها حقاً ولم يقتنع فعلاً، وهو يحصل إذا وصلته بشكل ضعيف الحجة
(الرابع) وصلته الدعوة ولم يكن عليه ما يمنع من النظر فيها ولكنه أهملها استخفافاً أو استكباراً
(الخامس) وصلته الدعوة ونظر فيها واقتنع بها وبأنها جاءت من عند الله بعد جميع الشرائع ولكنه بقي على دينه
نستطيع القول أن الثلاثة الأوائل يندرجون تحت الآية موضوع البحث، في حين أن الاثنين الأخيرين خارجان منها.
ولكن، هناك ما يتعلق بالعلم الإلهي:
1. قوله تعالى في سورة الأنفال الآية 23 ((وَلَوْ عَلِمَ اللَّـهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ))
(وهي – بالمناسبة – بضمن سلسلة من الآيات تنادي بطاعة الرسول (ص) والاستجابة إليه سواء بسواء مع طاعة الله والاستجابة إليه...
((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ . وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ . إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ))
وهي آيات لا بد أن نتدبرها بإذن الله تعالى لإحاطتها بمواضيع أساسية متعددة.))
فقوله: ((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ))
يدخل في بحث جانب العلم الإلهي المطلق، واللازماني، وهو ما نجده في آيات إشكاليات الجبر والتفويض أو مسير أم مخير...
لقد دخل الدين الإسلام أشخاص بطرق مختلفة بعضها لا يكاد يصدق:
شابة تأكل طعاماً عند صديقتها المسلمة فيعجبها فتقرر أن أناساً يطبخون مثل هذا الطعام اللذيذ لا بد أن يكون دينهم صحيحاً!
شابة هندوسية في أرياف الهند يهاجمها رجل مسلم ويريد الاعتداء عليها وهي تقاومه، فتجد شيئاً يتدلى من سلسلة في عنقه، فتمسك به وتفهم أن هذا مما له علاقة بدينه وتتوسل إليه بهذا الذي يعتقد به، ولكنه يبقى على إصراره، ولكن لحظات ويبدأ بالتغير إلى أن يسقط ميتاً، فعندما تنهض تلمح ثعباناً يسرع بعيداً عنهما؛ بعدها يعلمون أن الثعبان لدغه لدغة سامة قتلته؛ فتسأل عن الذي قطعته من عنقه وكان السبب في نجاتها فيقال لها أنه قرآن المسلمين، فتذهب وتعتنق الدين الإسلامي.
رجل انجليزي سائق شاحنة قبل أن يعود من مهمة النقل في ألمانيا يتعرض لحادث اصطدام فتكسر ساقه وينقل إلى المستشفى هناك ليبقى فيها أسابيع، وبينما هو يشاهد التلفاز – ولم يكن يعرف اللغة الألمانية – كان يعرض تقريراً عن الحج، حيث كانت أيام الحج في مكة المكرمة، فهم أن الكلام عن المسلمين، فعندما نظر إلى الطائفين قال في نفسه إن هذا هو الدين الحق، وعندما عاد إلى انجلترا بحث وذهب إلى المسجد وأسلم.... وهكذا غيرهم الكثير.
فهل أن الذين قلنا أن الدعوة الإسلامية لم تصلهم إنما لم تصلهم لأن الله تعالى يعلم أنه لا خير فيهم وأنه لو أسمعهم لأصروا على رفض الدعوة؟
ولكن، في هذه الحالة، ماذا نصنع مع الذين وصلتهم الدعوة فعلاً ولكنهم رفضوها – ألا يعلم الله هنا أيضاً أنهم لا خير فيهم؟
وإذا أمكن القول أنه تعالى رحمة بالأولين فإنه لم يوصل إليهم الدعوة لأنه يعلم أنهم سيرفضونها بعد الاقتناع وبالتالي سيتعرضون للعقاب (أي كما جاء في الحديث القدسي ((إن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر، لو أغنيته لفسد حاله)))، فلماذا لم يفعل ذلك مع الذين يعلم أنهم سيصرون على العناد ولكنه سمح للدعوة أن تصلهم؟!
إذاً، وكما ترون، فإن بحث حال أتباع الديانات الأخرى المحددة في الآية الكريمة موضوع التدبر ينطلق بنا إلى آفاق مواضيع أخرى من شأنها قطعاً أن تنقلنا إلى آيات وآيات...
أما من يسأل عن المعنى فهذا ينقلنا إلى التفسير، وهو ما نحن لسنا في وارده في هذا البرنامج...
ولكن، هذا التدبر يفتح أسئلة وأسئلة من شأنها تحفيز المتدبر للتعمق فيما قاله المفسرون والباحثون.
كما رأيتم، فإن الأدوات التي استخدمناها في عملية التدبر البسيطة هذه هي:
1- فهم مفردة "الذين آمنوا" أنهم المسلمون المؤمنون برسالة النبي محمد (ص)
2- الانتباه إلى الفارق في المراد بين هذه المفردة ومفردة "من آمن"
3- معرفة المقصودين بالآية
4- الانتباه إلى الفارق بين "الأجر" الذي يمكن أن يكون في الدارين و "نفي الخوف والحزن" الذي ليس حقيقياً – أي النفي – إلا في الآخرة،
5- النظر في الإشكال الكبيرة، لا سيما التي تستند إلى آيات قرآنية أخرى، عن طريق طرح الاحتمالات جميعها.
(((( تفضلوا بالأسئلة ))))
كان هناك أسئلة عديدة يمكن بحثها في: الجبر والاختيار، العدل الإلهي، علاقة علم الله تعالى بالأفعال الصادرة من البشر ودرجة المحاسبة عليها، أتباع الديانات الأخرى غير المذكورة في الآية المباركة؛ وتم التعليق أن هذا مما سيتم تناوله إن شاء الله في آيات كثيرة تطرح بشأنها تساؤلات عادة.
كما كان هناك سؤال حول الحديث القدسي، وتم توضيح أنه مثل سائر التعاليم خارج القرآن التي لم يشأ الله أن تكون في القرآن المحفوظ ((ويعلمكم الكتاب والحكمة))؛ إضافة إلى وجود المدد المستمر كما في الرؤى التي كان النبي (ص) يراها ونقلها القرآن إلينا ((وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن)) أو ((وإذ يريكهم الله في منامك قليلاً)) وغيرها.
كما طرح موضوع "النسخ" في القرآن على أساس أن غالبية المسلمين يعتقدون بنسخ الآيات التي تتحدث عن قبول أتباع الديانات الأخرى، وتم توضيح وجود الرأيين: الرأي القائل بالنسخ، والرأي القائل بعدم النسخ بل هو التدرج لأن الله تعالى قادر على أن ينزل الأحكام دون نسخ.
((( ثالثاً ))) قسم القرآن الكريم 1:
((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)) البقرة:23-24
هذا التحدي من الله تعالى للبشر جميعاً لإقامة الدليل القاطع على لابشرية القرآن، بل على ضرورة كونه من عند المطلق المحيط بالزمان بحيث يطلق التحدي ويعلن النتيجة الأبدية.
أولاً، قال "نزّلنا" ولم يقل "أنزلنا" كما في غيرها، وفي هذا خلاف أختصره بالقول:
- عادةً صيغة "فعّل" أشد من صيغة "أفعل"، فكأنها تستخدم عندما يكون الأمر أهم
- قالوا أيضاً: في بعض الآيات وردت "أنزل" بمعنى الإنزال مرة واحدة ((إنا أنزلناه في ليلة القدر)) أو ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن))، وفي بعضها "نزّل" بمعنى الإنزال التدريجي ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ))... ولعل يجمع هذا آية ((يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُوله وَالْكِتَاب الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُوله وَالْكِتَاب الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْل)) فالذي "نزّل على رسوله" هو القرآن الذي كان مستمراً في النزول التدريجي، في حين أن "الكتاب الذي أنزل من قبل" قد اكتمل نزوله قبل قرون طبعاً. ومثلها ((نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ))
(ولكن هناك استثناءات تفهم حسب السياق – مثلاً ((والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)) لأنها تتحدث عن الإيمان بالكتب السماوية كلها إجمالاً سواء كان التنزيل قد تم أو لا.)
وعليه فإن ((ما نزلنا على عبدنا)) جاءت هنا لأن القرآن كان يتلوه النبي (ص) عليهم تدريجياً حسب نزوله وهذا التحدي جاء والقرآن لم يكتمل.
كما يمكن أن يكون "نزّلنا" لأن الأمر أهم من غيره حيث يتعلق بأصل الدليل على الدين كله من خلال الدليل على أن القرآن لا يأتي به بشر.
ثانياً، لم يذكر اسم المنزل عليه، بل اكتفى بقوله "عبدنا" لأنه – وكما ذكرت في محاضرة سابقة – أن هذا في القرآن هو التشريف العظيم لسيد المرسلين محمد (ص)، لأنه وصل إلى أعلى مما وصل إليه جميع البشر في العبودية لله تعالى، فكان القرآن إذا ذكر أحد الأنبياء والمرسلين (ع) بصفة العبودية فإنه يأتي باسمه أيضاً، ما عدا محمداً (ص) الذي لا يحتاج إلى الاسم لأن العبد الكامل لا تليق إلا به (كما في قوله ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً))، ((فأوحى إلى عبده ما أوحى)) وغيرها). هذه المفردة "عبدنا" تؤكد أن المقصود بـ "ما نزلنا" هو القرآن، إذاً موضوع التحدي هو القرآن الكريم.
ثالثاً، تحداهم الإتيان "بسورة" واحدة فقط، وهذا من أعظم التحدي وذلك:
(1) لم يطلب منهم الإتيان بما يشابه جميع ما نزل من القرآن الذي نزل لحد ذلك الوقت؛
(2) كان قد نزل قرآن كثير، لأن الآيتين في سورة البقرة وهي مدنية، أي نزلت بعد سور كثيرة هي جميع ما نزل في العهد المكي إضافة إلى ما نزل في العهد المدني، وعليه فقد فتح لهم المجال واسعاً لاختيار أية سورة يريدون محاكاتها؛
(3) كانت هناك سور صغيرة جداً على طاولة التحدي، كالكوثر والتوحيد والفلق والناس وغيرها.
رابعاً، قوله ((مِنْ مِثْلِه)) فيه احتمالان – أي الضمير "هاء" في "مثله":
(الأول) "من مثل القرآن"، فالهاء تعود إلى القرآن، وهو الأقرب لأن التحدي أشمل حيث يشمل جميع المعارف والقصص والأحكام وإطار البلاغة وجميع الشأن القرآني
(الثاني) "من مثل النبي"، فالهاء تعود إلى النبي (ص)، أي "هاتوا سورة واحدة من رجل لم تعهدوه يقرأ ويكتب ولا ينظم الشعر ولا يخطب في نواديكم" أي من رجل لم يكن مبرزاً في هذا الحقل، ناهيك عن المعارف المختلفة التي لا يعملها لا هو ولا غيره منكم.
ولكن الأول أقرب لأن التحدي يكون للقول المنزل فهو الباقي الثابت، في حين أن العبد المنزل عليه (ص) سيمضي إلى ربه ولن يكون ممكناً تثبيت أي محاولة محتملة لمعارضة القرآن بشيء آخر يتحداه.
خامساً، الآية التالية لم تكتف بموعظتهم إذا ما فشلوا في أن يأتوا بسورة من مثله – أي ((فإن لم تفعلوا)) – ولكنها أعلنت أنهم سيفشلون في هذا، هم ومن يأتي بعدهم إلى قيام الساعة، وذلك بالقول ((ولن تفعلوا))، فـ "لن" تأبيدية؛ وهذا من أعجب ما يمكن أن يأتي التحدي ومعه النتيجة الأبدية، الأمر الذي يستحيل أن يقوم به عاقل ما لم يكن متيقناً اليقين التام المحيط بالزمان والمكان والوجود كله، وهذا هو الحق سبحانه وتعالى.
كما رأيتم، فإن الأدوات التي استخدمناها في عملية التدبر البسيطة هذه هي:
1- فهم المفردات التي جاءت في آيات أخرى لنتأكد من المقصود "نزلنا و أنزلنا" / "عبدنا"
2- معرفة زمان النزول– مكية أم مدنية – لمعرفة كم من القرآن كان قد نزل لتعلقه بقوة التحدي
3- النظر الدقيق في الضمائر لمعرفة متعلقها "مثله"
4- معرفة دلالة الأدوات اللغوية للسيطرة على معاني التدبر "لن"
(((( تفضلوا بالأسئلة ))))
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على نبينا محمد وآله الأطهار.