برنامج تدبر القرآن
المركز الإسلامي في سري، الخميس 29/05/2014
غسان نعمان ماهر السامرائي
مفردات التنزيل
القسم 3 من 5: الوحي الصحف الآيات الفرقان الروح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الهداة.
هذه الحلقة الثالثة من خمس حلقات تتناول بسط مفردات التنزيل، اليوم مفردات: الوحي، الصحف، الآيات، الفرقان، الروح.
(ثانياً) الوحي:
الوحي هو إيصال المطلوب بطريقة غير معتادة من الكلام المنطوق، وقد ذكر القرآن الكريم لها أنواعاً:
1-الوحي بالإشارة كما في فعل زكريا (ع) ((فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)) مريم:11، وذلك لأنه كان صائماً عن الكلام بأمر الله تعالى.
2-الوحي الدائم كسنن لا تتبدل كما في قضية النحل ((وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)) النحل:68
3-الوحي لتحقيق أمر لا يتحقق إلا به كما في قصة أم موسى (ع) ((إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى . أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ)) طه:38-39، وإلا هل يمكن لأم أن تفعل هذا بطفلها الرضيع لولا أنه من الوحي الذي أجبرها على الفعل عابراً المنطق والحسابات العقلية وحتى عواطف الأمومة.
4-الوحي بالشريعة للأنبياء (ع)، وهو من مفردات الإشارة إلى التنزيل والقرآن.
من موارده القرآنية:
- ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)) يوسف:3
وهي واضحة في وصف "القرآن" أنه "وحي إلى النبي (ص)".
- ((كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ)) الرعد:30
- وقوله ((وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا)) الكهف:27
وهما واضحتان أن "الوحي" هنا هو "القرآن" لاستخدام كلمة "تتلو عليهم".
- ((قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ)) الأنبياء:45
هنا يمكن أن نوسع من "مساحة الوحي" لتشمل القرآن + ما يوحى إليه (ص) خارجه، سواء كان من البيان العملي حسب الوقائع أو من الحكمة وغيرها؛ ويمكن أن نجعلها مقتصرة على القرآن فقط بضميمة مفردة "الوحي" التي في الآيات السابقة.
((إِتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)) الأنعام:106
وهذه مثلها، يمكن أن تكون للقرآن فحسب – نصاً وبياناً –، كما يمكن أن تتسع.
(ثالثاً) الصحف:
مرت في اللقاء السابق مع مفردة "كتاب" آية سورة البينة ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ . رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً . فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)) البينة:1-3.
هنا نشير إلى مفردة "صحف"، فهي تتعلق بالقرآن، وذلك:
أولاً - الكلام عن مجيء الرسول بعد وجود أهل الكتاب وعليه فالرسول هو محمد (ص)
ثانياً – الرسول-البينة هو نبينا (ص) لوجود فعل "يتلو"، فلا يمكن أن تكون البينة هي القرآن، لأنه سيكون "القرآن يتلو القرآن" وهو باطل
ثالثاً – وصف"الصحف مطهرة" يعني "خالية من الخطأ مطلقاً" وهذه عقيدتنا في القرآن.
أما لماذا سماها "صحف" بالجمع؟
لا شك في أن القرآن يحتوي على الكثير مما يملأ صحفاً أطول وأغنى وأعمق بكثير من ((صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)) كما هو وصفها في سورة الأعلى:19 (أيضاً سورة النجم)، وبالتالي فإنه يسوغ الوصف أنه "صحف" بالجمع.
(رابعاً) الآيات:
وردت مفردة "آيات" في القرآن كثيراً، وذلك بمعانٍ:
1-العلامة ((ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)) يوسف:35، وتعني علامات شق ثوب يوسف (ع) من الخلف.
2-المعجزة الإلهية ((وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)) المؤمنون:50.
3-أثر فعل الله في نجاة المؤمنين ((فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ)) العنكبوت:15.
4-أثر فعل الله في هلاك الكافرين، كما في قصة لوط (ع) ((وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ)) الذاريات:37.
5-علامة من الله لإقامة الحجة ((وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) البقرة:248. (الآية الأولى ((آية ملكه)) من النوع الأول/العلامة، ولكن ((آية لكم إن كنتم مؤمنين)) هي العلامة لإقامة الحجة عليهم فيؤمنون بها إن كانوا مؤمنين.
6-علامة على النعمة على المؤمنين ((وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)) الفتح:20.
7-بمعنى "آيات القرآن الكريم"، وهو ما يدل عليه بوضوح استخدامها في القرآن في مواضع كثيرة، منها:
- ((هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)) الحديد:9
فهي "منزّلة"؛ وهي منزلة "على عبده" والذي ذكرنا أنه عندما لا يذكر اسم العبد فإنه محمد (ص) الذي وصل الغاية في العبودية، (فاقت عبودية إخوانه من الأنبياء والمرسلين (ع) بحيث إذا ذكروا بصفة العبودية فإن أسماءهم الشريفة تذكر، ولكنه وحده (ص) الذي لا يحتاج إلى ذكر اسمه في مقام العبودية)؛ وهي تستهدف "إخراجنا من الظلمات إلى النور" فلا بد أنها تكون مما هو إلينا وليس خاصاً به (ص)... وعليه، فإنها هنا "آيات القرآن".
- ((وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ)) النور:34
وهي "آيات القرآن" لأنها وصفت أنها "مبينة" أي تبين الأمور غير الواضحة، كما أنها "تعطي المثال" للماضين في قصصهم التي ذكرتها آيات "الآيات" أعلاه وغيرها، وفيها "موعظة".
- ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)) الجمعة:2
فهو الإرسال "البعث" إلى "الأميين" أهل مكة، و الرسول "منهم"، وهناك "تلاوة" فهي مما يقرأ، إذاً "آياته" تعني "آيات القرآن".
(أما "الكتاب" فقد ورد فيما سبق، وأما "الحكمة" فسنشير إليها في الحلقة الرابعة.)
(خامساً) الفرقان:
كلمة"فرقان" من جذر ف ر ق باشتقاق مصدر على وزن فعلان، مثل شكران وغفران وقرآن، ومعناه التفريق بين شيئين أو أشياء؛ كقوله ((قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)) المائدة:25، وقوله ((قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا)) الكهف:78.
إلا أن صيغة "فرقان" بمعنى "التفريق بين الحق والباطل" أو "بين الطرق المختلفة عند عدم الوضوح".
مفردة "الفرقان" وردت بمعان متعددة:
1-الذي آتاه موسى (ع) ((وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) البقرة:53
"الكتاب" بمعنى كتاب الشريعة و "الفرقان" بمعنى الطريق الواضح بين الحق والباطل.
2-الذي آتاه موسى وهارون (ع) ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ)) الأنبياء:48
نلاحظ عدم ذكر "الكتاب" عندما ذكر هارون (ع) مع موسى (ع)، فلعل مرد ذلك أن "الكتاب" هي "الألواح التي فيها الشريعة في الوصايا العشر المعروفة" والذي نزلت عليه هو موسى (ع) وحده عندما ذهب إلى لقاء ربه، في حين أن هارون (ع) اشترك مع موسى (ع) في المعلم الأصلي للدين وهو "الفرقان" بين الحق والباطل، و "الضياء" وهو النور الأصلي الذي يشيع الهدى (لا ننسى أنه قال ((جعل الشمس ضياء والقمر نوراً)) وضياء الشمس متولد منها بينما نور القمر متولد من انعكاس ضياء الشمس)، ثم "الذكر" بمعناه العام (نتناوله في الحلقة الأخيرة)... ( وألفت نظركم إلى هذه الحالة المشابهة في اقتصار إنزال الكتاب-القرآن على النبي محمد (ص) وحده بينما كان علي (ع) المضطلع بالأمر بعد النبي (ص) بما عنده من الفرقان والضياء والذكر كونه هارون هذه الأمة بنص النبي (ص) في الحديث المشهور الذي رواه البخاري ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى)).)
3-الذي يختلف عن "التوراة والإنجيل" ((نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ . مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ...)) آل عمران:3-4
صحيح لا يصرح أن "الفرقان" هنا هو "القرآن"، ولكنه ما "أنزل" بعد التوراة والإنجيل، فلا يكون غير القرآن. هنا أيضاً نجده يفرق بين "تنزيل الكتاب عليه (ص) حصراً" وبين "إنزال الفرقان عموماً" (الأمر الذي سنتطرق إليه إن شاء الله في بحث "ويعلمهم الكتاب والحكمة" لأن "الكتاب" نزل عليه (ص) ثم كان واجبه "التعليم").
4-الذي أنزل على الرسول محمد (ص) ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)) الفرقان:1
هذا أيضاً لا يصرح أنه القرآن، ولكن يمكن القول أنه القرآن، على الأقل في جانب "النذارة". أيضاً لأنه يستخدم الفعل "نزّل" الذي قالوا فيه أنه الوصف الذي يطلق "أثناء عملية التنزيل"، بينما "أنزل" تكون لما قد حصل فعلاً في السابق.
ولا تنسوا أن عدم ذكر اسم ((عبده)) الذي سار عليه القرآن الكريم يدل على أنه محمد (ص).
وهذا يجعلنا نقول أن ((وأنزل الفرقان)) آل عمران:4 الواردة أعلاه تعني القرآن أيضاً ولو أن الآية نزلت والقرآن لا يزال "يتنزّل" لأن المورد هنا الذكر مع "التوراة والإنجيل" الذين "أنزلا" كما تنص الآية.
5-كأحد أقسام "البينات" النازلة مع القرآن ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)) البقرة:185
فهو "جزء من القرآن" أو أن "بيناته" تتصف بصفتي: الهدى + الفرقان؛ فهي "تهدي" إلى الصراط المستقيم، كما هي "تفرق" بين الحق والباطل لتعين على عدم السقوط في الباطل.
6-كإسم لأحد الأيام الخالدة في الإسلام ((وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) الأنفال:41
والإجماع على أن "يوم الفرقان" في الآية هو يوم بدر، وسبب التسمية لأن يوم بدر كان يوماً فاصلاً في العديد من الموارد، منها بدء المواجهة العسكرية التي بدأت تطلق عنفوان الإسلام والمسلمين، ومنها أنها حققت النصر للمسلمين في أول مواجهة وهذا بدأ يلفت أنظار القبائل في الجزيرة العربية، ومنها أنها جعلت استمرار المواجهة لا مهرب منه لأن قريش ستأتي للثأر قطعاً، وهكذا.
7-كنتيجة للإيمان والتقوى ((يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)) الأنفال:29
فهو "فرقان" خاص للمؤمنين المتقين، أي ليس هو "توضيح الطريق الأساس للناس جميعاً"، ولكنه "فرقان" ينعم الله به على المسلمين "الذين يفعّلون التقوى منهم"، عندها يعطيهم "أداة فرقان" يتلمسون فيها الطريق باستمرار، إضافة إلى تكفير السيئات وغفران الذنوب.
محتويات "الفرقان"
إن مجيء مفردة "الفرقان" متعلقة باليهودية والمسيحية أيضاً جعل البعض يذهب إلى أن هذا يعني أن "الفرقان" يتحدث عن المشتركات بين الأديان الثلاثة من أوامر ونواه، الأمر الذي لا نجد صعوبة في قبوله لأن هذه الديانات تشترك في الكثير من الأحكام.
ولكن هذا الرأي نشكل عليه كما يلي:
(أولاً) "الفرقان" الذي "يفرق بين الحق والباطل" يتعلق بالإطار الأعم للاعتقاد وليس بالتفاصيل الشرعية؛
(ثانياً) آية سورة الفرقان ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)) الفرقان:1 تعني أن "تنزيل الفرقان" هو "لأجل النذارة"، والنذارة في أصلها هي الإلفات إلى التوحيد واليوم الآخر، وليس الأحكام الشرعية؛
(ثالثاً) المجتمعات التي يغلب عليها الكفر، بل الإلحاد، تحرم السرقة والقتل وأكل مال اليتيم وغيرها وتنظم لها قوانين تشابه القوانين الدينية، وعليه فليست هذه الأمور خاصة بالمؤمنين من الأديان الثلاثة.
قرينتان تشيران إلى المقصود بالفرقان:
القرينة الأولى – قوله تعالى في آية الخمس ((... وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) الأنفال:41
فهذه تسمي يوم بدر بيوم الفرقان، وهي معركة الحق والباطل، لأنه لم يكن يوم ظهور الإسلام بأحكامه الشرعية، ولا أن القتال كان أصلاً حول هذا، بل كان حول: لا إله إلا الله.
القرينة الثانية – قوله تعالى ((يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)) الأنفال:29
فإنها واضحة أن "جعل الفرقان" يكون لمن تحققت فيهم الصفتان: الإيمان/الإسلام+التقوى؛
وهؤلاء مع غير المتقين مكلفون بالأحكام الشرعية فكيف يكون الفرقان خاصاً بهم؟
علاقة "الفرقان" بـ "القرآن"
هنا يهمنا الآيات التي تتعلق الدين الإسلامي، وهذه تقول:
((وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ)) ، ((نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ)) ، ((أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ))
فهي ما بين:
- "الفرقان النازل المنزل" الذي لا مشكلة في أن يكون هو "القرآن النازل المنزل"؛
- "صفة لما أنزل من القرآن من الهدى والبينات" فهو "جزء من القرآن" أو قل "من أهداف القرآن"
أما آية الخمس ((... وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ)) وآية ((يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً)) فإنما تتحدث عن المعنى الأصلي لمفردة "فرقان"، أي "أداة التفريق بين الحق والباطل في ساحة القتال أو التي ينعم الله بها على المؤمنين المتقين".
(سادساً) الروح:
مفردة "الروح" هي الأخرى جاءت بمعان متعددة، وبحثها عميق والمعاني أوسع مما يرتبط بالقرآن وحسب، ولكنها في بعض الأحيان جاءت متعلقة بالقرآن الكريم:
1-الروح بالمعنى العام ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)) الإسراء:85، وهي تقول أن "الروح" تنطلق مما يسميه "أمر ربي"، ثم يردف أن ما عندهم من العلم قليل، وهو فيما يظهر من النص حالة ستستمر إلى يوم القيامة؟
ومن المرجح أنها تتعلق بـ "الروح" المذكورة في قوله ((تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)) المعارج:4، وذلك لجهة ربطها بـ "الملائكة" كما في سورة القدر.
هذه المعية للملائكة كشيء منفصل دون بيان حقيقته نجدها في آية أخرى ((يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا)) النبأ:38.
وقد أكد ذلك أمير المؤمنين (ع)، ففي رواية يجيب سؤال رجل: ((جبرئيل عليه السلام من الملائكة والروح غير جبرئيل))، ولكن الرجل – يبدو من المتعالمين – قال "لقد قلت عظيماً من القول!" فقال له علي (ع): ((إنك ضال تروي عن أهل الضلال! يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله ((أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون . ينزل الملائكة بالروح)) والروح غير الملائكة...))
2-روح يتعلق بالله تعالى ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ)) الحجر:29. ومنه قوله ((وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ)) الأنبياء:91، فالنفخ من "الروح"، بينما يقول في آية أخرى ((فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)) مريم:17 ما يشير إلى جبريل (ع).
بعض الروايات فرقت بين الاثنين، فقد روي عن الباقر (ع) أن ((نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي)) أي ((من قدرتي))، ولكن في غيرها أنه "نسبة إلى الله تعالى كونه شرف الإنسان على المخلوقات"، فإن ((فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا)) هي "روح" مخلوقة مصطفاة خلق منها عيسى (ع).
3-جبريل (ع)، لقوله تعالى ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)) الشعراء:193-195، والضمير "هاء" في "به" يتعلق بالقرآن النازل ((بلسان عربي مبين))، والمتفق عليه أن النازل بالوحي هو جبريل (ع).
4-الروح المرتبط مع التنزيل، وهو ما نريده هنا؛ من ذلك:
- ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) الشورى:52
هذا "الروح" الذي نزل التعليم الإلهي للنبي (ص) يربطه بأمرين:
(الأول) "الوحي" (الثاني) الكتاب
وعليه نستطيع القول أنه في هذه الآية "يتعلق بالقرآن الكريم".
- ((تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ)) القدر:4
هنا أيضاً "تعلق بالقرآن" بدرجة ما، لأن "تنزل الملائكة والروح" في "ليلة القدر" وهي ليلة تم "إنزال القرآن أصلاً كان فيها" ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)) القدر:1.
كما أنه يتعلق بنفس التعليم ((الروح من أمر ربي)) عندما يقول أن "الملائكة والروح" يتنزلون بالتقادير التي يصفها "من كل أمر".
- ((يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ)) النحل:2، وفيها اختلاف فإن الملائكة هنا ليست مصاحبة للروح، ولكن هي نازلة بـ "الروح من أمره" على الأنبياء والمرسلين (ع) لكي "ينذروا"؛ فهو إذا يتعلق بـ "الوحي" ومنه الوحي القرآني.
ومثلها ((رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ)) غافر:15، ولكن مع عدم ذكر "الإنزال بالملائكة".
- ((قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)) النحل:102، والكلام في سياق آيات عن القرآن، والتنزيل بواسطة "روح القدس"، وكم وردت أن القرآن هو هدى وبشرى، فهذه من تلك.
بعض الروايات تلقي ضوءاً على هذا "الروح الموحى به".
((منذ أنزل الله عزوجل ذلك الروح على محمد صلى الله عليه وآله ما صعد إلى السماء وإنه لفينا)).
((خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وهو مع الائمة، وهو من الملكوت)).
بالجملة: "الروح" هو شيء من "أمر الله تعالى"، بل الأدق من "أمر الرب سبحانه" لذا فهو يرتبط بالعباد، ما تؤكده آيات سورة القدر وغيرها من إنزال التقادير الدنيوية في ليلة القدر. ولكنه يتعلق بالقرآن الكريم كونه "موحى" به كما في آيات الشورى والنحل وغافر المتقدمة؛ ثم هو يفتح أفقاً أوسع من مجرد النص القرآني الذي ورد بصيغ الكتاب والصحف وغيرها مما هو مكتوب مقروء، فهو إذاً مما جعل النص القرآني يختلط في كيان رسول الله (ص) بحيث عندما كان ينزل عليه كان يثقل حتى تبرك به الناقة، ويتصبب عرقاً، من أحوال كان يراها الصحابة عندما ينزل الوحي وهو (ص) بينهم. وهذا هو الذي يجعل من الوحي أوسع من النص القرآني ليشمل بيان النص بالمعاني المباشرة الظاهرة وأيضاً المعاني العميقة وكذلك بالحالات العملية الواقعية... وهذا يقودنا إلى مفردة "النور" في اللقاء ما بعد القادم.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على نبينا محمد وآله الهداة.