برنامج تدبر القرآن
المركز الإسلامي في سري، الجمعة 05/09/2014
غسان نعمان ماهر السامرائي
دقة التعبير القرآني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الهداة.
في هذه الحلقة نتذكر دقة التعبير القرآني، تلك الدقة الفريدة، في موارد خمسة متنوعة، من أجل أن ندخل في جو تدبر القرآن بعد انقطاع، لنتناول بعدها إن شاء الله -مواضيع محددة كل منها يستغرق عدة حلقات.
(1) مناسبة الخطاب التنبيهي لكل من الحالَين
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ . قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ / القصص:71-72
1- تبدأ الآيتان بكلمة "قل" لأنه بدونها لربما سيجيب المخاطبون من المشركين أن هذه فرضية لا يستطيع النبي (ص) القيام بها، في حين أن "قل" تؤكد أنه بلاغ عن الله الذي يستطيع قلب هذه السنن الكونية.
بعدها نجد كلمة "أرأيتم" التي كانت من كلام العرب في حواراتها، فيقول الرجل لصاحبه: "أرأيت لو حصل كذا وكذا" أو "أرأيت كيف أن كذا".
2- موضع الشاهد هو استخدام الخطاب التنبيهي المناسب للحالة الأولى "إبقاء الليل سرمدياً دون نهار"، وهو ((أفلا تسمعون)). ذلك أنه لو بقي الليل سرمدياً وحل الظلام فإن النظر في الأمر سيكون "عن طريق السمع" لأنه الحاسة التي تعمل في الحالتين.
بينما استخدم الخطاب التنبيهي المناسب للحالة الثانية "إبقاء النهار سرمدياً دون ليل"، وهو ((أفلا تبصرون)) لأن البصر يعمل أثناء النهار، بل يكون أقوى وأسرع في التنبيه من السمع، وربما كان التنبيه الوحيد.
3- وينبغي أن نلتفت إلى استخدام "ضياء" في الأولى مقابل "ليل" في الثانية، لأن المطلوب من الأول هو "الضوء" الذي يستفاد منه في النهار (إضافة إلى الحرارة)، بينما المطلوب من الثاني "ليس الظلام" المفردة المقابلة لـ "الضوء" ولكن الـ "ليل" ... وسببه هو النقطة التالية...
4- ((تسكنون فيه))، الجملة التي لم يأت ما يقابلها في الآية الأولى. فالآية الأولى تتحدث عن غياب "الضياء" المعتاد في النهار، حيث الحركة والعمل والإنتاج كما يمكن أن يكون فيه النوم والراحة والسكون – وهو حاصل للكثيرين الذين يحتاجون إلى الراحة في القيلولة –؛ بينما الآية الثانية تتحدث عن "الليل" وهو وقت السكون والراحة والنوم للغالبية الساحقة من البشر، وهي راحة لا غنى عنها للجميع إذا أرادوا القيام بمقتضيات الحالة الأخرى – حالة النهار والضياء – من حركة وإنتاج وعمل، وإلا انهارت قواهم.
فائدة من الآيتين: ربط السنن الكونية بالخالق / وهي مهمة قرآنية أولى لأن البشر نتيجة عدم إمكانية التعرف على الخالق مادياً في نفس الوقت الذي يعيشون هذه السنن الكونية بشكل مادي كل يوم ودون تخلف فإنهم يسقطون في الغفلة عن خالق هذه السنن الكونية، الذي بيده تبديلها، وبالتالي الغفلة عن نعمه المستمرة من خلال هذه السنن.
(2) القتل والرمي يوم بدر
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ / الأنفال 17
في هذه الآية نقطتان تسترعي الانتباه:
(النقطة الأولى) مقارنة ((لم تقتلوهم)) بـ ((ما رميت))
صحيح أن "لم تفعل" تشابه "ما فَعَلْتَ"، ولكن:
(1) الثانية "أكثر تأكيداً" من الأولى
(2) "لم تفعل" يمكن أن تكون محصورة في زمن معين بينما "ما فعلت" مستمرة في النفي.
وعليه:
فإن ((وما رميت)) تؤكد "نفي الرمي" بشكل أشد من "نفي القتل" في ((فلم تقتلوهم)).
إذاً، المعنى واحد في نفي الفعل عن الفاعل، ولكن بدرجة مختلفة.
ولكن بما أن "القتل" جرى فعلاً من المسلمين، فإن ((فلم تقتلوهم)) مجازية في جزئها الفاعل من قبل المسلمين، بمواجهتم وجهودهم وسلاحهم وفعلهم الذي قتل المشركين، ولكنها "تذكر" بأمرين: (الأول) أن هذه الأمور المذكورة من جهد وعزيمة وصبر وسلاح إنما هي من الله تعالى أصلاً (الثاني) أن هناك تدخلاً حقيقياً لله تعالى "إضافة إلى" هذه، سواء من إلقاء الرعب أو إنزال الملائكة أو غير ذلك.
كذلك، ((وما رميت)) فإن "الرمي" جرى فعلاً من النبي (ص)، وأكثر الأقوال على أنه "رمي التراب" أو "التحصيب"، فإن هناك (الأول) أن قوته (ص) وجهده من الله تعالى أصلاً (الثاني) أن الله يتدخل في التثبيت والعون.
(النقطة الثانية) في كلمة "إذ" في قوله ((وما رميت إذ رميت))
لم يقل "فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم" ولكنه قال ((وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى))، وهذه الزيادة ((إذ رميت)) تشير تأكيداً على "حال الرمي" في "لحظات الرمي"، تؤكد على أن المقصود من ((وما رميت ... ولكن الله رمى)) إنما هو تلك الحال في تلك اللحظات ((إذ رميت)) عندما أخذت من التراب ورميت به القوم فأصابهم بأجمعهم، في وجوههم وعيونهم، ما أثر على قدراتهم القتالية، وهذا يستحيل أن يحصل لأي إنسان أن يرمي بحفنة من تراب فتطير عشرات الأمتار طولاً وعشرات وربما مئات الأمتار عرضاً ثم تصيب أهدافها بهذا الشكل المعجز؛ وعليه فإنه المولى عز وجل، القوي العزيز، الذي كان هو الرامي لتلك الرمية.
أي أن قوة ذراع النبي (ص)، ودقة الرمية، كانت مضافة من الله تعالى. كما أن ما أعقبها من انتشار طويل عريض وإصابة لأهدافها إنما هو من عنده عز وجل.
لهذا كان التأكيد الدقيق بكلمة ((إذ رميت)).
· ولهذا التوكيد الدقيق أمثلة في القرآن مهمة جداً في التدبر كما في قوله في بيعة الشجرة ((لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة))، فإن الرضوان منحصر في حالة بيعتهم تحت الشجرة، وليس مستغرقاً للزمن كله فيما بعده كما يحاول قسر القرآن الكريم على ما يريده هو لا ما يريده الله تعالى.
فائدة من الآية: التذكير بالمحرك الأصيل في الكون + التدخل المعجز / فالأول مشابه لما قلناه في مورد آيتي الليل والنهار + الثاني فيه بث الأمل في نفوس المؤمنين أنه إذا اصطدموا بأمر أقوى من إمكانياتهم المادية فإنهم يجب أن لا يغفلوا أن معهم من يستطيع تغيير المعادلة في لحظة واحدة؛ وهذه الحالة تجدها كل يوم في الخطاب المقاوم المؤمن بالظهير الأعلى الله تعالى، مقابل الخطاب الخائر المنهزم ممن يشيعون الخوف من العدو حتى قبل انطلاق المعركة.
(3) إعطاء معلومة بطريقة غير مباشرة
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ / الأنعام:74
لا ثمرة نستفيدها من معرفة اسم أبي إبراهيم (ع)، وبالتالي لا فرق في الفائدة لو جاءت الآية دون ذكر اسم "آزر"، فلماذا ورد؟
لم يأت الاسم في آية أخرى، حتى في الآيات التي تذكره في محاورة إبراهيم (ع) إياه ومحاولة الأخير هدايته ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)) مريم:41-45، وغيرها ولم يكن هناك نقص في القصة، فلماذا هنا؟
أجمع أئمة الهدى (ع) على أن سلسلة آباء النبي (ص) كلهم من المؤمنين حتى آدم (ع). وقد رويت الروايات، ومنها في كتب أهل السنة قوله (ص): ((لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات، حتى أخرجني في عالمكم هذا، لم يدنّسني بدنس الجاهلية))...
وقد أورد بعض علماء أهل السنة القدماء ذلك كالرازي في تفسيره، وفيما بعد كالعلامة الآلوسي في تفسيره، ومن المعاصرين مثل الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله تعالى الذي وافق قول أهل البيت (ع) في المسألة.
إسم والد إبراهيم (ع) في النصوص التاريخية والتوراتية كان "تارخ" وليس آزر. كما قيل أن "آزر" اسم صنم، أو أنه صفة، فكأن إبراهيم (ع) يقول له "آزر" أي "يا مخطئ"...
وقد سمى القرآن الكريم العمَّ أباً ((أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) البقرة:133، إسحق (ع) كان أبا يعقوب (ع) ولكن اسماعيل (ع) كان عمه.
وعليه، فإن النظر في ما قاله أئمة الهدى (ع) في هذه اللقطة القرآنية الدقيقة أعطى لنا معلومة هي أن "آزر" لم يكن والد إبراهيم (ع) ولكن كان عمه الذي تربى في بيته وبالتالي فقد كان له الحق العظيم على إبراهيم (ع) أن يسعى كل السعي من أجل هدايته إلى الحق.
حتى الآيات الأخرى التي تربط الكلام بين إبراهيم (ع) وآزر فإنها لا تسمي الأخير "والداً" بل "أباً" ((قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)) مريم:47 ثم ((وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ)) التوبة:114.
ذكر الموعدة من إبراهيم (ع) لأن هناك نهياً عن الاستغفار للمشركين ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)) التوبة:113 ، فلا يمكن لإبراهيم (ع) أن يستغفر لآزر "الموصوف بأنه أب"...
في حين أننا نجده يستغفر "للوالد" في دعائه بعد بناء البيت العتيق ((الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)) إبراهيم:39-41
طبعاً، لو راجعتم بعض فتاوى لجان الفتوى في دول مهمة لوجدتموهم استفادوا العكس: قالوا عن الآية الكريمة " وهذا نص قطعي صريح لا يحتاج إلى اجتهاد" فتوى رقم 6612 فتاوى اللجنة الدائمة، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية؛ وما ذلك إلا لأن البون شاسع بين قراءة القرآن وتدبر القرآن.
فائدة من الآية: حسم نقطة خلاف عقائدية / يعتقد أتباع أهل البيت (ع) أن جميع الأنبياء والمرسلين (ع) لم يكن في سلسلة آبائهم أحد من المشركين، وبالتأكيد نبينا محمد (ص)، بينما لا يجد غيرهم من المسلمين ذلك. ولعل الباحث لن يغفل عن أن زيادة الاهتمام بهذه النقطة لأجل امتداد هذا الأمر في أئمة أهل البيت (ع) حيث لا يقبل الشيعة أن يكونوا (ع) قد ولدوا من مشركين حتى آدم (ع) فيقابلهم معارضة ذلك من المخالفين، وينتشر الأمر في أبي طالب (ع) لأنه هو الوالد لعلي (ع) والأئمة من ولده (ع)، فيثبت الشيعة إيمانه ويثبت أهل السنة كفره؛ وقد جئنا بشعره الذي يثبت إيمانه الشديد في مناسبة وفاته في رمضان 1434هـ فليراجع.
(4) التفريق عن طريق التوكيد
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ / لقمان 17
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ . وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ . إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ / الشورى: 39-43
آية سورة لقمان تتحدث عن الصبر عند المصائب عموماً ((واصبر على ما أصابك))، بينما آيات سورة الشورى تتحدث عما يصيب الإنسان من ظلم أخيه الإنسان بالخصوص ((أصابهم البغي ... جزاء سيئة سيئة مثلها ... انتصر بعد ظلمه ... الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق ...)) – فأين الفارق؟ ولماذا؟
الفارق:
في آخر آية سورة لقمان ((واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور))
آية 43 من سورة الشورى ((ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور))،
حرف واحد فقط – حرف اللام المضاف إلى حرف الجر "من" في الثانية.
لماذا هذا الفارق؟:
آية سورة لقمان تتحدث عن الصبر عند المصائب العامة ما يصيب الإنسان: (1) من السنن الشاملة للبشر وهي مصيبة المرض ومصيبة الموت (2) من الكوارث الطبيعية التي تنزل بالكثيرين كالفيضانات والبراكين والزلازل (3) ما يصيبه كجزء من الابتلاء كالمرض والموت والفقر وخسارة التجارة وأمثالها مما لا دخل لشخص آخر معين فيها فتبدو أنها من الابتلاء؛
هذه المصائب تأتي من خارج دائرة إمكانية الرد بطلب القصاص أو التعويض أو حتى الانتقام بطريقة أو بأخرى. وعليه، فإن الإنسان المصاب ليس في يده حيلة معها على أية حال، وبالتالي فإن أمامه أمرين لا ثالث لهما: الصبر، أو الجزع.
فإذا جزع فإنه لا ينال من جزعه فائدة، حتى ورد في الروايات أن المصيبة أصابته ولكنه بجزعه خسر أجر الصبر، بينما الصابر أصابته نفس المصيبة ولكنه بصبره ربح أجر الصبر.
وأما إذا صبر، فهو قد أخذ الأمر بعزيمة ومسؤولية ((من عزم الأمور)).
أما آية سورة الشورى فإنها تتحدث عن الصبر على مصائب تسبب فيها ناس آخرون، وبالتالي فإن هناك ثلاث خيارات وليس اثنين: الصبر، الجزع، الرد على الإصابة.
فإذا رد على الإصابة فعليه بالرد المناسب فحسب ((وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا))؛
ولكن إذا اختار أن يغض الطرف فإنه يحصل على الأجر ((فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ)).
أما إذا جزع، فقد أضاع الاثنين – لا هو رد فشفى صدره، ولا هو عفا وحصل على الأجر.
الفارق مع آية سورة لقمان أنه إذا ((عفا وأصلح)) فإنه هنا عفا في الوقت الذي كان يمكن له أن لا يعفو بل أن يرد ويطالب بالتعويض أو الانتقام، وربما عفا وظل يرى من ظلمه يمشي أمامه في الطرقات فيتذكر ظلامته، وهذا لا شك أشق على النفس من تحمل المصائب النازلة من السماء أو كوارث الأرض، لهذا فإن الصبر عليها أشد، فجاء توصيف عزيمة هذا الصابر مؤكدة بلام التوكيد فقال ((لمن عزم الأمور)).
فائدة من الآيات: تشجيع على التفضل والإحسان / لأن الإسلام دين واقعي فإنه يعلم أن كثيراً من الناس لا تستطيع تجاوز ظلامتها إلا بالعدل المعجل دنيوياً، سواء بالقصاص أو التعويض أو كليهما، فهو يبقي الباب مفتوحاً لهذا؛ ولكن لأنه يريد إشاعة روح المحبة من جانب ورفع الإنسان من ضيق المادة إلى سعة الروح فإنه يشجعه على التغاضي والعفو والصفح + لا يبخسه حقه من الثواب في الآخرة... هذه الآيات في هذا الاتجاه.
(5) النحل والعسل
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ . ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ / النحل:68-69
الآية الأولى تخبرنا أن هذا الأمر الإلهي إلى النحل باتخاذ البيوت في الجبال والشجر والعرائش ثم الأكل من الثمرات حتى يخرج الشراب جاء بطريقة "الوحي". لم تقل الآية "قال ربك" مثلاً، لأنها لو قالت ذلك لكان مجازاً لأن الخطاب بين المولى عز وجل وخلقه ليس قولاً كما هو القول الذي نعرف. المهم هو أن هذا "الوحي" يعني أن الأمر الإلهي نزل بشكل سُنَنِي في هذا المخلوق – النحلة، فإنه لا يكون الوحي في كل مرة وكل موسم، ولكنه سنة أي جزء من خلقه، أو هو جزء من الأمر الإلهي النازل إلى الخلق في فيضه تعالى عليهم، فتقوم النحلة بعمل البيوت والطيران لامتصاص رحيق الأزهار وحتى خروج الشراب من بطونها.
ولعل الوحي إلى "النحل" بالجمع إشارة إلى أن العمل الجماعي للنحل في بناء البيوت والعمل الدؤوب في جمع الطعام من الثمرات في بطونها.
كما أن التعبير بـ ((اتخذي)) بفعل الأمر بالمؤنث وليس بالجمع لأن عمل البيوت تقوم به إناث النحل، وجمع الرحيق كذلك. نعم، الملكة والذكر مسؤولان عن التكاثر، ولكن الآيتين تتحدثان عن الشراب الناتج من البطون من الرحيق وليس التكاثر.
ثم تشير الآية إلى تفاضل من "الجبال" فـ "الشجر" فـ "العرائش". ذلك أن "الجبال" أعلى من سطح معيشة الناس بتلوثها في التنفس والنار التي يوقدون والفضلات والجراثيم وغيرها، فالأزهار والنباتات المتوفرة فوقها عظيمة المحتوى عديمة التلوث وبالتالي فهي أفضل طعام للنحل في عملية صناعة العسل.
أيضاً، علو الجبال، ومكامنها الآمنة للنحل، يوفر بيئة آمنة مطمئنة لبيوت النحل، غير مهددة بالهجوم من الإنسان أو الكثير من الحيوانات.
ثم "الشجر"، وهو يوفر ارتفاعاً جيداً، وإن لم يكن كارتفاع الجبال؛ كما يوفر مكامن جيدة فيها من التغطية بورق الأشجار وأغصانها ما يحمي بيوت النحل من المهاجمين. ولكنها طبعاً أقرب إلى الحيوانات على الأرض وأقرب إلى الإنسان ومعيشته التي تنتج أنواع الملوثات، فتكون ذات نوعية أقل من الجبال.
أخيراً "العرائش التي يصنعها الناس" ((مما يعرشون))، فإنها تحت يد الإنسان وضمن معيشته وتحت رحمة يده والحيوانات المختلفة، فهي ذات نوعية أقل من الشجر.
جمال التعبير منه ((مما يعرشون)) بدلاً من "العرائش" إذا ما استمر السرد مشابها لـ ((الجبال ... الشجر))، لأن هذه "العرائش" من صنع الإنسان، فتمتزج صفة دنوها من مصادر الخطر والتلوث مع صفة كونها ليست من صنع الله تعالى المباشر، لتأتي ثالثة بعد الجبال والشجر...
وهذا بدوره يلفتنا إلى حتمية أن يكون "ناتج البيوت" – ذلك الـ ((شراب مختلف ألوانه)) – مختلفاً في النوعية، أفضلها ما نتج عن بيوت الجبال، ثم ما نتج عن بيوت الشجر، ثم آخرها ما نتج عن عرائش الناس. لهذا نجد أن عسل الجبال أغلى بكثير جداً من العسل العادي، بعد أن أكدت التحليلات – ولا شك أنها تؤكد – هذا التفاضل في السرد القرآني.
الآية الثانية تقول أن الوحي هو لتناول الطعام من ((كل الثمرات)) وبالتالي المجال مفتوح أمام النحل أولاً، ولأن الطعام من ثمرات مختلفة فإن الناتج سيكون ((مختلف ألوانه)) ثانياً.
أما القول ((فاسلكي سبل ربك ذللاً)) ففيه إلفات إلى العجائب من حياة هذا المخلوق المنتج. تطير النحلات العاملات كما تشاء لا يصدها شيء. بعض العاملات مهمتها استكشافية، تطير وتحدد مواقع الأزهار والثمرات ثم تعود لتخبر النحلات الجامعات، فتطير هذه إلى تلك الأماكن بدقة عجيبة لتأكل من تلك الثمرات. الخلايا محروسة بدقة، وبيت النحل كله محروس بدقة وشراسة (المتحدث له تجربة قاسية في الصغر!) كل هذا تذليل من الخالق العظيم.
ويستمر التعبير الدقيق بكلمة ((يَخرُجُ)) وليس "يُخرِج"، لأنه لو قال الثاني فكأن العملية تحتاج إلى تدخل خارج الآلية الموجودة في سنن النحل، ولكن ((يخرُج)) تعني خروجه دون تدخل.
من أين يخرج؟ ليس من الجلد أو الأجنحة أو مكان مخصص له، ولكن ((من بطونها))، فتصوروا من البطون نتيجة عملية "هضم" يخرج شراب فيه شفاء بدلاً من أن يخرج ناتج هضم فيه سموم. عملية هضم لا يمكن إلا أن تكون من خالق مدبر بديع، سبحانه وتعالى.
أما كونه ((شراب مختلف ألوانه)) فهذا معروف بالمشاهدة للجميع.
ثم تستمر الدقة في قوله تعالى ((فيه شفاء))، فلم يقل "فيه الشفاء" أو "هو الشفاء"، لأنه لو قال ذلك لظننا أن في العسل شفاءً من كل داء – الأمر الذي حصل فعلاً للكثير من الناس، حيث نجد الكثيرين يتحدثون عن العسل وكأنه دواء كل شيء. كلا، الآية واضحة أن العسل ((فيه شفاء))، فهو قطعاً فيه شفاء ولكن ليس الشفاء من كل شيء.
وتختم الآية بأن هذا الخلق وهذا العمل وهذا الناتج هو ((آية)) ولكن لمن؟ ((لقوم يتفكرون))، أي يعملون الفكر في هذا كله عسى أن يزيلوا حجب البعد عن المصدر الحقيقي الوحيد للوجود، الله تعالى.
فائدة من الآيتين: فائدة علمية ينبغي الاستفادة منها في عكس النظر في مادة العلوم البحتة في القرآن / حيث النزوع هو دائماً إلى الانتظار حتى يأتي علماء الحضارة القائدة اليوم باكتشاف نجد فيه توافقاً ما مع القرآن فنسرع إلى حمل الآية أو الآيات لنقول "أنظروا، القرآن قال هذا"، وهذه الطريقة فيها مجازفة كبيرة لأن العلوم التطبيقية أو البحتة ليست قاطعة في الكثير منها فالقطع بالقول بالتوافق مع آية ربما يضعف الإيمان عندما تنهار النظرية العلمية أو الاكتشاف؛ كما أن هذا يعني أننا لا نستلهم من كتاب الله ما ينفعنا في دنيانا وذلك من خلال استنطاق آياته المتعلقة بالطبيعة ثم نذهب بها إلى علماء الطبيعة لينظروا فيها ويحللوا عسى أن يتوصلوا إلى نتائج فيها فوائد للبشر عسى أن يبدأ المسلمون بإشاعة الفائدة العلمية كما فعلوا قديماً بدلاً أن يكونوا مستهلكين مقلدين وحسب.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على نبينا محمد وآله الهداة.