برنامج تدبر القرآن
الخميس 30/01/2014
غسان نعمان ماهر السامرائي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الهداة.
لقاء اليوم هو الثالث في القسم الأول من 6 حلقات إن شاء الله، هدفه إعطاء فكرة أفضل لما ندعو إليه من التشجيع على تدبر كتاب الله.
(الأقسام هي: البلاغة، الله تعالى، القرآن، النبي (ص)، أهل البيت (ع)، أقسام الناس، الخلافيات، الابتلاء، مفاهيم مهملة، قُل، إنَّما.) اليوم آيات تقدم لقسمي: أقسام الناس، والخلافيات.
(أولاً) القسم السادس: أقسام الناس – 1
ما المقصود بأقسام الناس؟
(1) الأمم ما قبل الرسالة المحمدية
(2) الناس على العهد النبوي – المسلمون وغيرهم
(3) المسلمون على العهد النبوي – المؤمنون؛ المنافقون؛ الذين في قلوبهم مرض؛ غيرهم؟
(4) الناس ما بعد العهد النبوي وحتى اليوم – المسلمون وغير المسلمين وعلى أنواعهم
حال الناس عموماً
وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ الأنعام 116
يخرص: يكذب / وقيل: يتكلم بالحدس والظن (ومنها قولنا: هذا تخرُّص)
وهي واضحة: أن "غالبية الناس" في طريق ضلال بحيث أن طاعتهم ستؤدي إلى الإضلال عن الطريق المستقيم.
ولكن لماذا؟
لأنهم لا يسيرون وفق منهج يتحرى الحق واليقين، ولكنه منهج "الظن" و"ربما" و "لعله" وهي مقبولة في مرحلة النظر والتفكر والتدبر والتحليل والمقارنات، أما للوصول إلى مرحلة الحسم فإن "الظن" لا يمكن أن يعول عليه، فهو كما قال في سورة النجم ((إن الظن لا يغني من الحق شيئاً)) – لأن المرء يبقى في حالة اهتزاز القناعات، بل ربما عدم الوصول ولا حتى إلى شبه القناعة..
وبما أن "الظن" عبارة عن "ظنون" فإن الناس سيختلفون فيها اختلافاً شديداً، فحتى إذا ما أصاب أحدهم أو بعضهم الحق عن طريق "الصدفة" فإن الأكثرين سيذهبون في طريق الباطل لا محالة.
هذا الطريق سيجعلهم "يتحدثون ويعلنون ما يعتقدون به بما يوصف بأنه "كذب" أو "حدس""، فهم يكذبون إذا ما كان هناك وعي منهم أنهم إنما يسيرون في طريق الظنون الخادعة، أو هم يتكلمون "رجماً بالغيب"...
حتى الذين يؤمنون بالله
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ يوسف 106
هناك "إيمان بالله" وهناك "إيمان بغير الله"، ولكن إذا كان هناك "إيمان بالله + إيمان بغيره" هنا = شرك، أي إشراك غيره تعالى معه.
وهناك شركان:
الشرك الجلي – أي الواضح – هو عبادة الله + عبادة غيره كما في عبادة الأصنام
الشرك الخفي – أي غير الواضح – هو عبادة الله + التعلق بغيره تعالى بشكل فيه غفلة عنه، إما في الرازقية أو الرحمانية أو غيرها مما يمكن التعلق بغيره، ولكن هذا "الغير" لا يعتقد به إلهاً
الشرك الخفي هو معنى الآية، لأنها تتحدث عن "المؤمنين" ((وما يؤمن أكثرهم بالله)).
وبما أنها قالت "أكثرهم"، إذاً هذه الحالة الهابطة من الإيمان لا تمتد إلى جميع البشر؛ كيف وهناك المعصومون والعباد المخلصون الذين لم يشركوا بالله شيئاً مطلقاً لأنهم لم يغفلوا عنه ووجوده في حياتهم طرفة عين.
وأكيد أن "الشرك الخفي" درجات في الناس. وأكيد أن الشخص الواحد يرتفع عنده هذا الشرك الخفي وينخفض في حالاته المختلفة.
ولكن الذين لا خوف عليهم
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الأنعام 81
الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ الأنعام 82
يقول لهم إبراهيم (ع): أنتم تشركون بالله الأصنام التي لا تستمد شرعيتها من الله تعالى، فأنتم اتخذتموها آلهة بقرار منكم، في حين أنني لا أشرك بالله شيئاً، وعليه فانظروا أياً منا هو الذي يستحق "الأمن" – ذلك الأمن الذي هو في سياق ((لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)).
هذا "الأمن" هو "السلام الداخلي" الذي يشعر به المؤمن لأنه الصلة مع الفطرة الأصلية التي هي من روح الله تعالى؛ كما أنه "الأمن من العذاب الأخروي".
ملاحظة: بخصوص ((ما لم ينزل به عليكم سلطاناً))
هذه مثل قوله في سورة النجم ((إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان))؛
فلا يوجد حالة من "الشرك الذي أنزل الله به سلطاناً" – وهو واضح كعقيدة، ولكن ربما أوهم بوجود هذه الشبهة...
المعنى هو: أنكم قمتم بفعل الشرك مع أنكم أنفسكم لم تقدموا حجة – حتى لو كانت من إنشائكم – أن الله هو الذي كان وراء تنزيل الأمر بعبادة الأصنام.
ثم يقول إبراهيم (ع) / أو قيل أنه من قول الله تعالى:
الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ الأنعام 82
هذا "الأمن" وحالة "الهدى" يحصل عليها الصنف من الناس الذين توفر فيهم:
(أولاً) إطار الدخول في الدين الصحيح "الذين آمنوا"
(ثانياً) عدم إفساد الإيمان بما تصفه الآية بالـ "ظلم".
اللطيف هو استخدام كلمة "يلبسوا" فكأنما "لبسوا فوق إيمانهم لباساً يغطيه أو يمنع ظهوره بشكله الناصع الواضح"؛
أو هي "الملابسة" أي "خلط الإيمان الناصع مع الظلم".
هنا تأتي كلمة "الظلم" ولا بد من معرفة المقصود منها من أجل تجنب أن نلبس الإيمان بالظلم.
مصطلح "الظلم" مهم جداً في القرآن الكريم، وهو ينتشر إلى ما هو أبعد من "ظلم الآخرين في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم أو ما شابه". فإنه تعالى يطلق صفة "ظلم النفس" – ((ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه)) وهو يتعدى ظلم الآخرين لأنه يكون بمعزل عنه كما يمكن أن يشمله.
وعليه، فإن "الظلم" هو ما ابتعد عن "العدل" في قليل أو كثير.
إذاً، ((لم يلبسوا إيمانهم بظلم)) من "الذين آمنوا" لها درجات لا نهاية لها، فإن المشمولين بالآية هم "من تجنبوا ما يشوه إيمانهم أو يفسده، بالكبائر أو تعمد الصغائر بحيث يسقط الإنسان أمامها، لا سيما إذا كانت الغفلة منتشرة في أوقات طويلة من الحياة".
وهذا كله لا يعلمه إلا الله تعالى، لأنه وحده الذي يعرف مدى ضعف الإنسان عموماً، ونشأته والمؤثرات عليه، وظروف حياته، ومدى رغبته في الظلم أو الإقلاع عنه، وجميع العوامل المؤثرة...
أما النتيجة، أي الأمن + مهتدون:
فهي الأخرى ربما تكون درجات، بل ربما يمكن الجزم بذلك، وذلك:
(1) بمقتضى الأحوال، لأنك ربما تشعر بالأمن الجسدي مع وجود ما ينغص الأمن النفسي؛
(2) بمقتضى عدل الله تعالى في أنه يعطي الأمن على قدر عدم تلبس الإيمان بظلم.
ولا ننسى "رحمة الله التي وسعت كل شيء" التي نتعلق بها ودون تردد في أن نكون ممن لهم الأمن وهم مهتدون.
الخلاصة: الناس تختلف ليس فقط ما بين مؤمن وكافر، ولكن لجهة منهجهم في اتباع الحق أم الظن، ثم السير مع الظن إلى الادعاءات الكاذبة والتخرص. كما يختلفون لجهة درجة الشرك الخفي وهم مؤمنون. ويختلفون لمدى تلبس إيمانهم بظلم، وعليه يختلفون بنتيجة الإيمان وهي الأمن والهدى.
((( تفضلوا بالأسئلة )))
(ثانياً) القسم السابع: الخلافيات – 1
توضيح أولي:
المقصود بـ "الخلافيات" هي الأمور التي اختلفت عليها جماعتان من الناس، سواء كانت في الدائرة الإنسانية الواسعة، أو دائرة المؤمنين بالله – مثلاً بين المسلمين والمسيحيين، أو الدائرة الإسلامية، لأن جميع هذه الأطر تجدها في القرآن الكريم.
لماذا الخلافيات؟ لماذا النبش في الماضي؟
يعترض البعض، لا سيما أثناء أيام الفتن ومنها أيامنا هذه، بأن:
- الكلام في الخلافيات يزيد النار اشتعالاً
- الكلام في الخلافيات التي تأسست في الماضي إنما هو نبش في أحوال أمة لسنا مسؤولين عنها، ويأتون بقوله تعالى الذي جاء مرتين في سورة البقرة الآية 134 و الآية 141:
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
الجواب:
(أولاً) معنى الآيتين:
(1)لم يقل : ولا تـَسأَلوا عما كانوا يعملون؛
ولا حتى: ولا تـَسأَلون، بمعنى وصف الحال ليكون كأنه الحال الأفضل؛
ولكن قال: ((ولا تُسألون عما كانوا يعملون))، والمعنى واضح من الجانبين:
(2)الجانب اللغوي – أنتم لستم "مسؤولين" عن أعمالهم
(3)جانب المعنى – إذا كان هناك عدم تداخل في العمل، فـ"هم" ((لها ما كسبت)) و"أنتم" ((لكم ما كسبتم))، فمن الطبيعي أن لا يكون هناك "مساءلة" لكم عن أعمالهم.
ولكن مع ملاحظة هامة جداً: إذا قمتم باستكمال ما قاموا به، أو بتقوية ما قاموا به، أو بترسيخ ما قاموا به، فإنكم مسؤولون عما تقومون به وإن ظننتم أنكم إنما تتبعونهم، لأن الله ذم الاتباع بالباطل كما هو معروف.
وعليه، فإن الآيتين الكريمتين تؤسسان لفهم، هو في حقيقته بديهي اليوم ولكنه لم يكن كذلك وقتها، مثلاً عقيدة المسيحيين إلى اليوم أن جميع اليهود مسؤولون عن قتل المسيح (ع) والذي استدعى الضغط المستمر على الفاتيكان حتى أعلن براءتهم منه قبل عقود.
وقد جاءتا في سياق الكلام عن أهل الكتاب وادعائهم الإبراهيمية الخالصة لكل جماعة منهم، فهما تقولان لهما أن المهم هو العمل – عملكم أنتم، وليس الأشخاص الماضين.
فهو إذاً مما يدعونا إلى أن ننتبه إلى عدم الإفراط في الشخص لأننا سنغفل عن الفكرة والعبرة.
(ثانياً) القرآن نفسه يدعو إلى النظر:
القرآن مليء بـ:
(1) أخبار الأمم السابقة
(2) أخبار الناس على العهد النبوي
(3) إضافة إلى القاعدة في كل هذا هي قوله:
(( وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )) الأنعام: 55
إذا ما تدبرنا الآية الكريمة، نجدها تتضمن جملتين:
((وكذلك نفصل الآيات)) – من "ف ص ل" أي نعرضها متفرقة من أجل أن تكون واضحة؛
((ولتستبين سبيل المجرمين)) – لم يقل "نبين لكم" أو "تتبينوا"، ولكن ((تستبين)) هي بنفسها، مطلقاً، بحيث تكون قاعدة عامة يمكن من خلالها التعرف على ((سبيل المجرمين))؛ وطبعاً من أجل "تجنب سبيل المجرمين" هذا.
ولا شك في أن الآيتين لكل منهما استقلالاً ما؛ وفي نفس الوقت ترتبطان ببعضهما:
"هكذا نفصل الآيات ومن أجل أن تستبين سبيل المجرمين"، أي "تفصيل الآيات هنا ليس فقط منهجاً قرآنياً في التفصيل ولكنه من أجل الاستفادة منه في توضيح سبيل المجرمين".
أما ((سبيل المجرمين)) فهو يشمل "طريقتهم الباطلة في الحياة" + "نتيجة ذلك من العذاب الإلهي".
مثال على الخلافيات:
معلوم أن هناك خلافاً في أوساط المسلمين بشأن صحابة النبي (ص)، فمنهم من يتعامل معهم كمعصومين حتى وإن لم يقل بعصمتهم، ومنهم من يجانب معظمهم إلى درجة التفريط بالمؤمنين الصادقين المجاهدين منهم. من الصحابة منافقون؛ ومن هؤلاء من كانوا من المؤمنين ثم كفروا بعد الإيمان؛ بل وارتكبوا الواضحات من المحرمات وبضمنها القتل؛ بل أكثر من ذلك، وهو ما هموا بفعله مع النبي (ص)...
الآيات من سورة التوبة 64-66 + 74
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ |
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ |
لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ثم الآية 74 |
يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ |
(أما الآيات ما بينها، فهي متعلقة بها قطعاً، لأنها تقارن بين حال المنافقين والمنافقات قبال المؤمنين والمؤمنات، وجزاء كل فريق منهما، فيمكن مراجعتها.)
(1)كيف يحذر المنافقون نزول سورة إذا كانوا غير مؤمنين بالقرآن أصلاً؟
الجواب: إنهم يحذرون من فعل النبي (ص) بعد نزول السورة، حتى لو قالوا أنها من صنعه، فهم يخشون من العقاب بغض النظر عن مصدر السورة.
(2)ولكن الآية تقول ((تنبئهم بما في قلوبهم)) أي يخشون من كشف الداخل؟
الجواب: هذا يعني عدم وجود قطع في دواخلهم أن ما يقوله النبي (ص) كذب.
(3)ولكن حالهم الخارجي هو "الاستهزاء"؛ والله يعدهم بكشف دواخلهم.
(4)عندما سيواجههم الرسول (ص) بما كشفه الله له فإنهم سيتذرعون بأنهم كانوا "يخوضون ويلعبون".
(5)وهذا عذر يضيف قبحاً آخر إلى قبح الفعل الأول، فالآية تقرعهم ((قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ))؛ وهو ما يجب أن نلتفت فيها إلى أمرين:
الأول – أنها من آيات "قل" التي تعني أن الله يريد التشديد على أن ما سيقوله النبي (ص) هو من أمره تعالى وليس من إنشاء النبي (ص) ما يعطي الكلام حسماً أكبر
الثاني – القول المأمور به جواباً على ما قالوا يجعل "الاستهزاء شاملاً لله + الآيات + الرسول"، وهذا يؤكد أن ما كانوا فيه كان يشمل الرسالة كلها.
(6)ولكن اعتذارهم مردود ((لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ))؛ وسبب رفض الاعتذار أنهم "كفروا" بعد "إيمانهم"، وهذه في غاية الأهمية، لأنها تعني – وبوضوح – أنهم لم يكونوا من المنافقين الذين لم يؤمنوا من قبل، ولكنهم من الذين "آمنوا" من قبل "ثم كفروا".
والكفر بعد الإيمان يحصل قطعاً بإخبار القرآن عن وجوده في الناس ((إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً)). وهذا يقوي الجواب على الإشكال الأول بأنه في داخلهم ربما كان هناك باقية من احتمالية صدق النبي (ص).
(7)ولكن لماذا ((إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ)) إذا كانوا جميعاً في الذنب سواء فلماذا العفو عن بعض والعذاب لبعض؟
من الممكن أن "الطائفة الأولى" لها عذرها فعلاً فلم تكن على علم تام بحقيقة الأمر؛
لا سيما أن سبب عذاب "الطائفة الأخرى" هو أنهم ((كانوا مجرمين)).
و"العفو" غير "المغفرة من الله"، فيمكن أن يكون "العفو من العذاب من النبي (ص)".
فهذه الآيات الثلاث تتحدث عن قضية اشترك فيها مجموعة من المسلمين الذين كانوا من المؤمنين ثم كفروا، وهي من الفضاعة بحيث أنهم لن يجدوا دفعاً للتهمة فيها سوى القول أنهم كانوا يلعبون، ومن الفضاعة بحيث أن الله تعالى يسمي القضية استهزاء بالله وآياته ورسوله (ص) أي الإسلام كله.
(8) والآن الآية 74 ((يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ))
(9)بعد تكذيبهم، أقسموا وهم يكذبون ((يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ)).
(10) لماذا قال ((وكفروا بعد إسلامهم)) هنا بعد أن قال ((كفرتم بعد إيمانكم)) قبلها؟
الأولى كانت من مواجهة النبي (ص) لهم، فهو لا يستطيع اتهامهم بالخروج عن مجرد الإسلام حتى ولكنهم خرجوا بفعلهم عن الإيمان؛ في حين أن الثانية آية 74 من قول الله العالم بسرائرهم فهو يعلن أنهم حتى خرجوا حتى منه مجرد شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
(11) تؤكد الآية أنه كان فعلاً خارجياً فشلوا في تحقيقه ((وهموا بما لم ينالوا)).
(12) وبالتالي فإن "قولهم كلمة الكفر" يجمع مع "همهم بما لم ينالوا" ما يقطع أن القضية لم تكن مجرد "أقوال" كما في بعض الروايات التفسيرية.
(13) ثم الآية تقرعهم بشكل كبير ((وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ))، فهم – أخزاهم الله – بدلاً من أن يصبحوا أكثر حباً ودفاعاً عن النبي (ص) والدين الذي جاءهم بالفضل العظيم ولم يأتهم بأي شيء يضرهم، إذا بهم يفعلون الضد من ذلك.
وهناك ملاحظة أن "الله تعالى يشرك الرسول (ص) بالفضل مع الله تعالى" مع أن الفضل في الواقع هو من الله فقط، ولكنه يريد أن يقول لنا أن لا ننسى أن لرسول الله (ص) فضلاً في أعناقنا لأنه(ص) (أولاً) كان السفير من الله إلينا (ثانياً) لأنه لم يأل جهداً من أجل البلاغ.
(14) آخر الآية يفتح باب التوبة، مع ملاحظة أنها لا تعد بقبولها قطعاً وإن كان في كلمة ((يكن خيراً لهم)) ما يفتح نافذة لذلك؛ في حين أنهم إذا استمروا على حالهم فإن الآية تنذر بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة. وهذا ربما يفتح احتمال أن ((فإن يتوبوا يكن خيراً لهم)) أي إذا تابوا عن مثل هذا الفعل فإنهم يتجنبون عذاب الدنيا من النبي (ص) ولم يقل "يتوب الله عليهم"، ولكن لأن دواخلهم فسدت بالكفر فإنهم لا يتجنبون عذاب الآخرة.
(15) فماذا قالت الروايات التفسيرية؟
مثل هكذا مجرمين سيجدون من يقوم بالدفاع عنهم فهذا هو الشيطان وأولياؤه الكبار. قبل عرض إحدى روايات القصة الأصلية، لو راجعتم الأسباب التي رووها للتغطية على الجريمة فستجدونها جميعها لا تصلح لأن الآيات تتحدث عن "جماعة"، وأنهم "همّوا بأمر عظيم"، وأن "فيه استهزاء بالله وآياته ورسوله" أي الدين كله، وأنهم "قالوا كلمة الكفر"، وأنهم "يستحقون العقاب"، وأنهم "هيئوا العذر أنهم كانوا يخوضون ويلعبون"؛
وعقدة الموضوع، الكلمتان:
الأولى – ((ونلعب)) لأنها لا تنطبق على الروايات الأخرى التي كلها تتحدث عن كلام لهم، في حين أن "اللعب" يعني "الفعل" المادي الخارجي
الثانية – ((وهموا بما لم ينالوا)) ((هموا)) بفعل شيء ولكنهم ((لم ينالوا)) ذلك الشيء؛
والآيات تربط الأمرين، ومحصلهما لا يكون إلا الفعل الذي فشل، وهذا لا ينطبق عليه إلا المؤامرة الرهيبة التي تحدثت عن محاولتهم قتل النبي (ص) بتنفير ناقته.
فحول الآيات الأولى روايات
منها: أن المنافقين استهزءوا ببشارة النبي (ص) بفتح قصور الشام، فأطلع الله النبي (ص) على كلامهم وواجههم.
ومنها: أن بعض المنافقين كانوا يضحكون بينما النبي (ص) يتكلم فدعا عمار بن ياسر وشكا إليه استهزاءهم (لا بد أن تتضمن القصص عمار لأنه أحد شهود القصة الأصلية!).
ومنها: أن رجلاً رمى النبي (ص) وأصحابه بالجبن والكذب، فنزل جبريل (ع) وعند المواجهة مع النبي (ص) قال أنه كان يخوض ويلعب.
وأما آية ((يحلفون بالله ما قالوا)) فروايات
منها: أن المنافقين كانوا في الخلوة يسبون النبي (ص) ويطعنون في الدين، فنقله حذيفة فواجههم النبي (ص) فحلفوا منكرين (هنا إشراك حذيفة الشاهد الثاني على المؤامرة!).
ومنها – وهي لطيفة –: أن جلاس بن سويد سمع النبي (ص) في خطبة تبوك يصف المنافقين بالرجس فقال "لئن كان صادقاً فنحن شر من الحمير" فنقلها شخص إليه(ص) فواجهه فنفى ذلك.
الرواية الحقيقية الموافقة للآيات موضع التدبر
أنقلها من تفسير البغوي (وهو من القرن الخامس الهجري على المذهب الشافعي)
قال ابن كيسان "نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلاً من المنافقين، وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها، ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه، وتنكروا له في ليلة مظلمة، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدروا، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، وعمار بن ياسر يقود برسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته، وحذيفة يسوق به، فقال لحذيفة: ((إضرب وجوه رواحلهم)) فضربها حتى نحاها، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحذيفة: ((من عرفت من القوم؟)) قال: لم أعرف منهم أحداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإنهم فلان وفلان حتى عدهم كلهم))، فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: ((أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم، بل يكفيناهم الله بالدبيلة))".
وفي رواية أن عمار روى قول النبي (ص): ((إن في أمتي اثنا عشر منافقاً لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة، سراج من النار يظهر في أكتافهم، حتى ينجم من صدورهم)).
إنتهى من تفسير البغوي.
إذاً، بالجمع بين الروايتين: هؤلاء الإثنا عشر هم أسوأ المنافقين على الإطلاق، لأن النبي (ص) يفردهم باستحالة دخول الجنة بهذا الشكل. ولا يكون البعض الأسوأ من بين الكل إلا إذا كان داخله أسوأ من الآخرين أو يكون فعله أسوأ مما فعل الآخرون أو الاثنين معاً، ونحن لا نجد أسوأ من محاولة قتل النبي (ص).
المؤامرة
كمنوا في الجبل أعلى من طريق سير الناقة، وعندما يصل النبي (ص) يقومون بدفع صخور كبيرة كي تنزل وتقتله (ص) أو تجعل الناقة تنفر بقوة فتسقطه (ص) عنها إلى الأرض فتأتي عليه الصخور والعياذ بالله. بعدها ينطلقون إلى مواضعهم بين الجيش الذي خرج مع النبي (ص) إلى تبوك.
ولكن بدلاً من أن يفضحهم الله تعالى منذ البداية، فإنه تركهم حتى بدئهم مباشرة الفعل. فعندما وصل النبي (ص) إلى الموضع المعين، وكان معه عمار وحذيفة بن اليمان (رض) أحدهما يقود الناقة والآخر يسوقها، وبدء المجرمون بدفع الصخور نزل جبريل (ع) فأضاء الجبل حتى كشفهم للنبي (ص).
بعض الروايات تقول أن النبي (ص) ناداهم بأسمائهم، وغيرها، كما سمعتم، تقول أنه سأل حذيفة عنهم فلما أجابه أنه لم ير وجوههم ولكنه عرفهم من رواحلهم أخبره النبي (ص) بأسمائهم. وكما سمعتم أن النبي (ص) أحجم عن قتلهم خشية أن تتحدث العرب أنه يقتل أصحابه ما يسيء إلى الإسلام ككل.
روايات أهل السنة تذكر هؤلاء، كلاً أو بعضاً
منها مارواه مسلم في صحيحه كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ج8، ص123: عن أبي الطفيل قال: "كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذ سألك!" يبدو أن الرجل أحجم "قال: كنا نخبر أنهم أربعة عشر" هنا قال حذيفة: " فإن كنت منهم ، فقد كان القوم خمسة عشر! وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد".
والسبب في التفريق بين الاثني عشر والثلاثة الباقين هو أنهم اعتذروا ويبدو أن عذرهم كان مقبولاً.
رواه أحمد في مسنده أيضاً ج 5 ص 390-391.
أما "الرجل" الذي في الرواية أعلاه والذي غطوا على اسمه فهو "أبو موسى الأشعري"، فإننا نجده في مصادر أخرى.
أخرج ابن عدي في الكامل ج2، ص262 وابن عساكر في تاريخ دمشق و منتخب كنز العمال بهامش مسند احمد ج5، ص234 أن أبو نجاء حكيم قال: "كنت جالساً مع عمار فجاء أبو موسى فقال: ما لي ولك؟ ألست أخاك؟ قال: ما أدري ولكن سمعت رسول الله يلعنك ليلة الجبل! قال: إنه استغفر لي، قال عمار: قد شهدت اللعن ولم أشهد الاستغفار!"
ولمن ربما يعترض على كلامنا أن هناك تغطية على أبي موسى والمجرمين الآخرين على أساس أنه من الصعب التغطية عليه، أذكره بأمرين:
(الأول) أن هذه المصادر كلها لم تكتب إلا بعد أكثر من مائة سنة على الأقل
(الثاني) أن روايات أخرى نقلت ما يشبه ذلك مع التغطية على الأسماء؛ منها ما أخرجه أحمد في مسنده ج5، ص273 والهيثمي في مجمع الزوائد ج1، ص112(نقلاً عن الطبراني في المعجم الكبير) عن أبي مسعود قال: "خطبنا رسول الله خطبة فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: ((إن فيكم منافقين فمن سمّيت فليقم!))، ثم قال: ((قم يا فلان، قم يا فلان)) حتى سمى ستة وثلاثين رجلاً!...))، فإذا كانت أسماء 36 رجلاً قد تم التكتيم عليها فكيف لا يتم التكتم على أسماء 15 رجلاً هموا بأعظم جريمة في التاريخ؟
علماً أن هناك روايات سمتهم بأجمعهم، منها رواية عن "الوليد بن جميع".
أخيراً، إلفات مهم
لا تنسوا أن مؤامرة العقبة كانت بعد العودة من تبوك، وقصة تبوك بدأت بإعلان النبي (ص) أن علياً (ع) هو ثاني هذه الأمة ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)) أخرجه البخاري في صحيحه.
ومن يرد فليراجع الروايات ليعلم كم هو مهم النظر في الأشخاص من "الأمة التي خلت" من أجل أن نعلم الذي "كسبت"، فنتعرف على "سبيل المجرمين" كي لا نقع فيه.
بل لكي لا نقع فريسة إضلال المضلين، فإن أبي بن كعب حذر من هؤلاء بقوله: "هلك أهل العقبة ورب الكعبة" قالها ثلاثاً ثم قال: "هلكوا وأهلكوا؛ والله ما عليهم آسى ولكن آسى على من يهلكون من بعدهم من المسلمين" كما رواه إبن أسحاق في السيرة النبوية.
والذي فيه اختلاف يسير عما رواه غيره كالإمام أحمد في مسنده "ألا هلك أهل العُقيدة (العُقدة)، والله ما آسى عليهم إنما آسى على من يضلون من الناس!"
ففي الأول هم أصحاب مؤامرة العقبة، وفي الثاني هم الذين تعاقدوا على صرف الأمر عن أهل البيت (ع)... وهُم هُم...
فهل أن المنافقين كعبد الله بن أبي مثلاً هو الذي يخشى منه إضلال الناس وإهلاكهم؟!
((( تفضلوا بالأسئلة )))
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على نبينا محمد وآله الأطهار.