برنامج تدبر القرآن
المركز الإسلامي في سري، الخميس 05/06/2014
غسان نعمان ماهر السامرائي
مفردات التنزيل
القسم 4 من 5: الحكمة الحكم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الهداة.
هذه الحلقة الرابعة من خمس حلقات تتناول مفردات التنزيل، اليوم مفردتا: الحكمة، الحكم.
(هناك بعض التوسع لا متسع للوقت له في المحاضرة تركته مظللاً باللون الرمادي.)
· المفردتان من جذر ح ك م ، والمعنى يدور حول "الإحكام ، التوصل إلى نتيجة صحيحة مرضية ، وما إليه"...
(سابعاً) الحكمة
"الحكمة"، التي معناها "وضع الشيء في نصابه أو مكانه" سواء بالمعنى المادي أو المعنوي – "التصرف الصحيح" –، لا يمكن أن تكون متطابقة مع كامل القرآن، ولكن الآيات التي ذكرت مفردة الحكمة تجعلها تصدق على الأمرين:
(الأول) الحكمة التي في القرآن
(الثاني) الحكمة من خارج القرآن
(الثالث) الأول والثاني معاً.
أما دليل الأول فهو:
((وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا)) الأحزاب: 34
فإنه يقول أن الذي ((يتلى)) ليس فقط ((آيات الله)) ولكن ((الحكمة)) أيضاً والتي كونها مجروراً فإنه معطوف على ((آيات))، وعليه فإن ((الحكمة)) كانت "تتلى" في "بيوت النبي (ص)" والتلاوة القراءة، فهي إذا من قراءة القرآن الكريم. أي، لو كانت مما هو خارجه لما كانت "تتلى" بل كانت من التعليم مثلاً الذي جاء في آيات أخرى في الثالث أدناه.
وأما دليل الثاني فهو:
((أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)) البقرة:54
((وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ)) آل عمران:48
والتفريق بين "الكتاب" وهو الشريعة، أو العقيدة والشريعة، و "الحكمة" يمكن أن يشير إلى أن "الحكمة" مما آتاه الله آل إبراهيم (ع) "إضافة إلى الكتاب" فهي من خارجه.
((وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ)) لقمان:12
وهذه تقطع بأن "الحكمة" من خارج "الكتاب" لأن لقمان، وإن اختلف في كونه نبياً أم لم يكن، قد آتاه الله تعالى "الحكمة فقط" فهي "ليست من ضمن كتاب".
بل هي مما يمكن أن يؤتاه غير المعصوم:
((يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)) البقرة:269
وكلمة ((من يشاء)) إذا كانت تعني المرسلين الذين أوتوا "الكتاب" فهي من سنخ ما سبق؛ وإذا كانت تعني أي أحد من الناس – وهو الظاهر من الآية – فهي إذاً قاطعة في أن "الحكمة من خارج الكتاب".
وأما دليل الثالث:
((لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)) آل عمران:164
وذلك لأنه يقول أولاً ((يتلو عليهم آياته)) وهذه آيات القرآن، ثم بعد ذلك ((يعلمهم الكتاب والحكمة))، وبما أن "الكتاب" من الشريعة التي في القرآن فإنه يمكن أن تكون "الحكمة" من القرآن أيضاً كما يمكن أن تكون من خارجه بما أوحاه الله تعالى أو علمه رسوله (ص).
مصدر الحكمة
ذكرنا الآية ((يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)) البقرة:269، ونستفيد منها (كما من غيرها) أمرين:
الأول – أن "الحكمة" لا يتمتع بها جميع الناس، وهذا نعرفه بالمعايشة عندما نصف شخصاً أنه حكيم ولا نصف جميع الناس بذلك؛
الثاني – أن "الحكمة" من "نعم الله تعالى" وأنه "يؤتيها من يشاء".
أما لماذا لا يؤتي الله تعالى الحكمة جميع الناس، فجوابه البسيط المباشر هو أن "الحكمة من النعم غير العامة مقابل النعم العامة كنعمة العقل مثلاً التي يحاسب الله تعالى الناس من خلاله".
فهو سبحانه ((لا يسأل عما يفعل))؛ ولكن كونه هو "الحكيم"، بل "مصدر الحكمة"، فإنه لم يفعل ذلك دون حكمة، وبالتالي فربما شاء أن تكون "الحكمة من معايير التمييز بين البشر" من جانب و "من أدوات تسيير الأمور في الدنيا من جانب آخر".
طرق إيتاء الحكمة
1-من المصدر الأول مباشرة كما في آية لقمان.
2-من خلال المرسلين (ع)، كما في قوله ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)) الجمعة:2
وهذا نجده واضحاً في "ضم الحكمة إلى الكتاب" في ما "أنزل علينا" ((وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) البقرة:231، فإنه من البديهي أن "الكتاب لم ينزل علينا مباشرة"، وعليه فإن "الحكمة التي نزلت" يمكن أن تكون في بعضها مما جاء عن طريق رسول الله (ص) الذي تلقى "الكتاب + الحكمة" أصلاً ((وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)) النساء:113.
3-من الطريقين معاً؟
هل أن قوله ((يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء)) تشير إلى الطريق الأول – من الله مباشرة – أم الطريق الثاني – من خلال المرسلين (ع) – أم من الطريقين معاً؟
لا يمكن القطع بذلك لأن القرآن يقول أن هناك "تعليماً للحكمة" كما في آية الجمعة المارة، كما يقول أن هناك "إيتاء للحكمة" بشكل عام.
مستويات الحكمة
على أية حال، وكما في غيرها، فإن الناس تختلف في استعدادها لتلقي الفيض الإلهي، فلا شك في أن مستويات الحكمة تختلف. والدليل نتلمسه من الآية المارة ((وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)) التي تتحدث عن "إنزال الحكمة عليه (ص)" كما أنزل الكتاب، وهذه الحكمة لا بد أن تكون بمستوى أعلى بكثير من غيرها.
كما يمكن أن نتلمسه من دعوة إبراهيم وإسماعيل (ع) بالذرية المسلمة التي تضمنت الدعاء بـ "تعليم الحكمة":
((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ))البقرة:129، لأن الحكمة لو كانت مشاعاً وشيئاً واحداً للجميع لما دعوا (ع) بأن تكون إحدى المهمات الأساسية للرسول المبعوث في الذرية المسلمة تعليم الحكمة.
من مصاديق الحكمة
بعد أن أخبرنا الحق تبارك وتعالى أنه آتى لقمان الحكمة، حدثنا بما وعظ به لقمان ابنه، فبالتأكيد هو أو بعضه من تلك الحكمة – أوردها مقطعة اختصاراً:
((وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ... وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ ... وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ... وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ ... إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ... أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ... وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ... وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ...)) لقمان:13-19
هذه المواعظ، بعضها من العقائد الأساسية – التوحيد وهيمنة الله على الكون؛
وبعضها من أهم العبادات التي تربط الإنسان بخالقه ((أقم الصلاة))؛
وبعضها لفت النظر إلى الطريق الواجب الاتباع ((واتبع سبيل من أناب إلي)) (أي الذين ينيبون إلى الله تعالى كحالة دائمة – أي كقوله ((إنه أوّاب))، يجب أن يلتفت إلى هذا)؛
وبعضها ممارسات اجتماعية من فروع الدين كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛
وبعضها من الحكمة – معاملة الوالدين، الصبر، التواضع، الهدي من المشي والصوت.
بل يمكن القول أن "موارد الحكمة" في مواعظ لقمان تمتد إلى جميعها لأنها تعظ بالتعامل بالطريقة الصحيحة المحكمة في جميع هذه الموارد.
الخلاصة: "الحكمة" من مواردها ما هو جزء من القرآن الكريم، فهي "مفردة قرآنية" تتعلق بـ "القرآن" بالتأكيد.
(ثامناً) الحُكم
يتبادر إلى الذهن عند إطلاق مفردة "الحكم" أنها:
"الحكم الصادر من قاض" أو "السلطة الحاكمة التي تستطيع تنفيذ الأحكام"
هذا المعنى يجعل المفردة من نوع مفردة "الكتاب" في معانيها التي تتعلق بجزئيات القرآن من أحكام شرعية وغيرها، وبالتالي تندرج في بحثنا عن المفردات التي تتعلق بالقرآن، فنذكرها هنا.
ولكن لأن "المعنى الآخر المتعلق بالقرآن بالتعبير المباشر"، إضافة إلى معان أخرى، وردت أيضاً في القرآن فعلينا التفريق بينها.
القسم الأول / الحُكم بين الخصوم
وهو على أنواع أشير إليها بسرعة:
1-الحكم في شؤون الدين في الدنيا ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ...)) البقرة:213
2-الحكم في شؤون الدنيا في الدنيا ((((وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ)) النساء:58
ومثله فيما يمكن ترتيبه بالتوافق بين المتخاصمين ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا ...)) النساء:35
3-الحكم يوم القيامة ((... فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)) البقرة:113
القسم الثاني / بمعنى "التقدير والقضاء"
قول أخي يوسف (ع) ((فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)) يوسف:80
((أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) الرعد:42
((وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ)) الطور:48
القسم الثالث / الحكم بمعنى "الرأي أو الاعتقاد"
((أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) يونس:35
((يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ)) النحل:59
القسم الرابع / "الحكم" الذي بيد المرسلين (ع)
((أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ)) الأنعام:89 بعد أن يعد الأنبياء (ع) في آيات قبلها.
وأحياناً تأتي "نكرة" فهي غير مستوعبة، ((وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا)) الأنبياء:74.
* ولكن ما هو هذا "الحكم"؟
ربما نجده في قول موسى (ع) ((فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ)) القصص:22
وقد كان قد وُهِبَ له بعد أن بلغ أشده ((وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا)) القصص:14
يقول السيد الطباطبائي: "وأما الحكم فالمراد به - كما استظهرناه - إصابة النظر في حقيقة الامر وإتقان الرأي في العمل به."
وهناك له تفصيل في الذهاب إلى أن موسى (ع) أوتي "مراتب الحُكم" بشكل تدريجي. يقول: "والتدبر في متن الجواب ومقابلته الاعتراض يعطي أن قوله: ((ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً)) من تمام الجواب عن القتل فيتقابل الحكم والضلال ويتضح حينئذ أن المراد بالضلال الجهل المقابل للحكم والحكم إصابة النظر في حقيقة الامر وإتقان الرأي في تطبيق العمل عليه فيرجع معناه إلى القضاء الحق في حسن الفعل وقبحه وتطبيق العمل عليه
وقوله: ((ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً)) متفرع على قصة القتل، والسبب في خوفه وفراره ما أخبر الله به في سورة القصص بقوله: ((وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب)) القصص:21"
ثم يوضح رحمه الله ما ظاهره التناقض:
"فإن قلت: صريح الآية أن موهبة الحكم كانت بعد واقعة القتل ومفاد آيات سورة القصص أنه عليه السلام أعطي الحكم قبلها، قال تعالى: ((ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين، ودخل المدينة)) الخ، القصص:15، ثم ساق القصة وذكر القتل والفرار.
قلت: إنما ورد لفظ الحكم ههنا وفي سورة القصص منكراً وهو مشعر بمغايرة كل منهما الآخر وقد ورد في خصوص التوراة أنها متضمنة للحكم، قال تعالى: ((وعندهم التوراة فيها حكم الله)) المائدة:43، وقد نزلت التوراة بعد غرق فرعون وإنجاء بني إسرائيل.
فمن الممكن أن يقال: إن موسى عليه السلام أعطي مراتب من الحكم بعضها فوق بعض قبل قتل القبطي وبعد الفرار قبل العود إلى مصر وبعد غرق فرعون، وقد خصه الله في كل مرة بمرتبة من الحكم حتى تمت له الحكمة بنزول التوراة..."
ليخلص إلى القول: "ويظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم الحكم بالنبوة لعدم دليل عليه من جهة اللفظ ولا المقام".
إذاً:
(1) الحكم ليس النبوة
(2) عندما جاء نكرة، "حكماً"، فلأنه "جزء من الحكم التام" الذي يتم على مراحل.
القسم الخامس / العلاقة بين "الكتاب" و "الحُكم"
((إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ ...)) النساء:105
فمن غير المعقول التوجه إلى غيره سبحانه ((أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ...)) الأنعام:114
بل هو أمر واجب لا يسع المؤمن التخفف منه ((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)) النساء:65.
وهذا ليس خياراً إذا ما دعوا إليه أولاً، فلسان حال المؤمنين هو ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) النور:51
لأن هذا "الحكم" هو في الحقيقة من الله، والقرآن ينسبه أحياناً بشكل مباشر إليه سبحانه:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ)) المائدة:1
((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ...)) الشورى:10.
لأن "الحكم هو حصري لله":
((قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ ... إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)) الأنعام:57
((... إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)) يوسف:40
كما أنه – إضافة إلى أنه حصري لله – يتعلق – هنا على الأقل – بأصل الدين الأول وهو التوحيد، ثم بالأصل الثاني النبوة.
* صفة من لا يحكم بما أنزل الله
وعليه، فقد نزل التحذير الشديد من الفشل أو الامتناع عن "الحكم بما أنزل الله"، وذلك على شكل إطلاق صفات الكفر والظلم والفسق، وهي الآيات المعروفة في سورة المائدة 44 و 45 و 47 والتي نختصر ذكرها كما يلي ودون الدخول في تدبر لماذا استخدمت كل صفة من الصفات في تلك الآية وليست الأخرى:
((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ ... وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))
((وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))
((وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))
ثم تعلن الآيات بعدها أن "الحكم" النازل في "الشريعة الإسلامية" مهيمن على ما سبقه بحيث إذا أراد أتباع الديانات السابقة التحاكم إلى النبي (ص) فإن الحكم الإسلامي هو الذي يطبق.
((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ...)) ((وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ ...))
القسم السادس / المتعلق بالقرآن مباشرة
((وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ)) الرعد:37
هل المقصود "الأحكام التي في القرآن كجزء من التنزيل العربي"، أم "الحكم السلطوي"، أم "الدور المميز للعرب في الإسلام"؟
أما الاحتمال الأول – الأحكام التي في القرآن العربي – فهو مشابه لما ذكرناه سابقاً من أن مفردة "الكتاب" تعني فيما تعني "جزءاً من التنزيل القرآني في قسم الأحكام الشرعية"، وبالتالي فإن ((حكماً عربياً)) تعني "آيات القضاء بين المتخاصمين، في مرجعيتها وفي بعض تفاصيلها، في القرآن العربي نزلت باللغة العربية".
وربما يساعد على هذا الاحتمال ربطه بـ "العلم" بعدها ((بعد ما جاءك من العلم))؛ وإن كان يمكن أن يمتد "العلم" إلى مساحات أخرى.
الاحتمال مقبول، ولكن التعبير ((وكذلك أنزلناه حكماً عربياً)) يشي بما هو أبعد من هذا؛ أعني أن التعبير أكبر من جزء "القضاء" على أهميته الكبيرة.
الاحتمال الثاني - الحكم السلطوي – فيه إشكال جعل "العرب" هم الحكام على الناس مطلقاً مع أننا نعلم أن العرب حالهم حال غيرهم من الشعوب، خليط من الأخيار والأشرار، العلماء والجهلة، الصالحين والفاسدين، فعلى أي أساس يكون لهم الحكم على غيرهم؟
نعم، إذا كان القصد الأخيار العلماء الصالحين فإن المسألة يمكن أن تقترب من القبول؟ ولكن أليس في غيرهم الأخيار العلماء الصالحون – فلماذا العرب حكام عليهم؟
ولكن إذا كان هؤلاء الأخيار العلماء الصالحون محددين في جماعة لها مواصفات تجعلها أعلى كعباً من غيرها، مواصفات تكون قد نزلت في النص الشرعي الصحيح، في القرآن والحديث الصحيح، علاوة على إثباتها على أرض الواقع تميزها المؤهل لها، عندها يمكن قبوله.
وقد جاءت الروايات في هذا، ولكن ليس كلها مما يؤخذ به. فما روي في الحديث أن "الأئمة من قريش" لا يمكن قبوله على إطلاقه، أولاً لأن قريش كانت أول الأمر، وفيما بعد، من أشد الناس عداوة للدين، ثانياً ظهر على يديه من الجرائم والمظالم ما يجعلها أليق بأن تُحكَم لا أن تَحكُم، ثالثاً لأن أفراداً من غيرها أثبتوا أنهم أصلح وأعدل وأفضل وبما لا يقاس.
هذه الفكرة – "الأئمة من قريش" – رفضها أبو حنيفة كما رفضها الخوارج، ولكن تمسك بها الآخرون، بحيث أنها اليوم مما يثيره بعض معارضي آل سعود حكام الحجاز على اعتبار أنهم ليسوا من قريش.
وهذه مفارقة من هؤلاء المعارضين المنحرفين عندما نجمعها مع رفضهم التام لرأي أن "الحكم لأئمة أهل البيت (ع)"، خصوصاً وهناك رواية أن "الأئمة من بني هاشم" وليس "من قريش". أي: يقبلون أن يكون الحكم ممكناً لأي فرد قرشي ولكنه غير مقبول لأي فرد من مجموعة صغيرة من المختارين!
الاحتمال الثالث – الدور المميز للعرب في الإسلام – فيه هو الآخر ما يدعمه كما أن فيه ما يضعفه، فما يدعمه هو ما لا يمكن دفعه وهو: (1) أن القرآن نزل بلغتهم فلا بد أنهم أقدر على فهمه من غيرهم (2) أن الرسول الخاتم (ص) منهم ومن بيئتهم وعاداتهم (3) أنهم شكلوا المجموعة الأولى التي نزلت الدعوة فيها فلا بد أن تكون فيها مواصفات إيجابية لهذا (4) أنهم شكلوا الجماعة الأولى التي حملت الدين إلى الناس (5) أنهم هم الذين اصطفى الله منهم أئمة الهدى (ع) الذين أنيط بهم حفظ الشريعة بعد النبي (ص) (6) أنهم – وهذه تتمة لـ 5 – قدموا المذهب المتميز بتشدده في العربية وهو مذهب أهل البيت (ع).
* وهنا تجدر ملاحظة: إن الصورة التي تعطى عادة لعرب الجاهلية تخلو من أية حسنة، وهذا ظلم كبير، لأنهم تمتعوا بمزايا جميلة لا شك فيها كالكرم والشجاعة والنجدة وإغاثة المحتاج وحتى نصرة المظلوم إلى درجة إنشاء حلف من أجل ذلك سمي "حلف الفضول"، وهو تحالف صحيح في هدفه بحيث أنه روي أن النبي (ص) ذكره وقال ((لو دعيت إليه لأجبت))، ثم كان هو ما هدد بإحيائه الإمام الحسين (ع) وعبد الرحمن بن أبي بكر معاوية عندما ضغط عليهما لأخذ البيعة لابنه يزيد. ولا يفوتنا أن نذكر ما يعده الناس اليوم بالخصوص من المزايا الإيجابية عند الأمم، وهو شدة الاهتمام بالشعر والأدب بحيث شكل الشعر عنواناً واضحاً لهم في جميع مفاصل حياتهم وأحداثهم ووقائعهم، حتى أن "دار الندوة" في مكة كانت النادي الشعري بامتياز، بل وصلوا إلى تعليق سبع قصائد على الكعبة التي كانت أقدس ما عندهم.
عروبة القرآن هي القدر المتيقن
صفة "عروبة" أو "عربي" إنما تعني "الكلام الفصيح الواضح"، مقابل "العجمة" أو "الأعجمي" التي تعني "الكلام غير الواضح أو المختلط"؛ وعليه فإن صفة "عربي" في ((حكماً عربياً)) تعني أنه واضح الأحكام، كما تعني أنه بهذا الشكل لا مشكلة في تبين تعبيره عند التدبر وأيضاً عند ربطه ببيان الرسول (ص) والأئمة (ع) والعلماء العالمين به (وهي نقطة مهمة هي التي أسست إمكانية جعل القرآن الضابطة للحديث الشريف بحيث أمرنا النبي (ص) والأئمة (ع) بأن "نعرض الحديث على القرآن لنتبين فيما إذا كان الحديث مقبولاً أم لا").
هذه الصفة وردت أيضاً ((قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) الزمر:28، فعربيته تعني عدم عوجه بالنسبة لمن أنزل عليهم أول مرة.
ولو قرأنا الآية قبلها ((وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)) الزمر:27، فإننا نجده يقول أن الأمثال المضروبة فيه هي ((للناس)) وليس "للعرب فقط"، فكيف سيستفيد "الناس" منها إلا بطريقين: (الأول) أن يتعلموا العربية (الثاني) أن ينقل العرب إليهم القرآن إلى لغاتهم؛
والطريقان سيجعلان غير العرب متعلقين بالعرب قطعاً، لأن اللغة ليست مركب نقل فحسب، بل هي وسيلة تعبير حضاري وكاشفة لجوانب حضارة أصحاب تلك اللغة.
القسم السابع / هل هو "السلطة" أم "القضاء"؟
ولكن هناك آيات يمكن لها أن تكون بمعنى "السلطة" كما يمكن أن تكون بمعنى "الحكم القضائي" مثلما ورد أعلاه.
ذلك أن القرآن الكريم لم يستخدم كلمة "القضاء" بمعنى "الحكم القضائي" كما نستخدمه اليوم، ولكنه استخدم "الحكم" فحسب، كما في الآيات الواردة أعلاه وغيرها مثلاً ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ)) المائدة:95.
لذا تختلط "الحكم بمعنى القضاء" مع "الحكم بمعنى السلطة" إن كان معناها هكذا فعلاً.
والآية المارة أولاً:
((أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ)) الأنعام:89.
ولكن الآية التالية تتحدث عن قوم جميعاً وليس أنبياء (ع):
((وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ...)) الجاثية:16
فهل أن "إيتاء بني إسرائيل الحكم" أقرب إليه "الحكم القضائي" أم "الحكم السلطوي"؟ لا معنى لإيتاء "الحكم السلطوي" لجميع بني إسرائيل، إذ لا هو منطقي عندما يكونون وحدهم في المجتمع لأن السلطة ليست للجميع، ولا هو يتوافق مع المجتمع المصري الذي كانوا فيه لأن الله تعالى أرسل موسى (ع) ليخرج بني إسرائيل من ذلك المجتمع.
عند المقارنة نجد أن "الحكم الذي بيد الأنبياء (ع) لا يمكن أن يكون السلطة على إطلاقه" والدليل قوله تعالى ((يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)) مريم:12، لأنه من غير المعقول أن الصبي يولّى الحكم السلطوي لأسباب متعددة لا مجال لبحثها.
القول أن "الحكم" هو "النبوة"
وهذا رأي آخر أن معنى "الحكم" في هذه الآيات المتعلقة بالأنبياء (ع) هو "النبوة"، وهو ممكن، ولكن يمكن الإشكال عليه أنه ذكر منفصلاً عن "النبوة" في السرد ((الكتاب والحكم والنبوة)). وقد ذكرنا أن الطباطبائي رفضه.
* وماذا عن "المُلك"؟
"الحكم" بمعنى "السلطة" بشكل صريح ورد في القرآن بلفظة "المُلْك"، وذلك في آيات كثيرة، بعضها تجعلها – أي السلطة – جزءاً من "المُلك"، سواء في "مُلْك الله تعالى" أو "مُلْك الناس":
((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) الملك:1
وهذا يصفه بأنه "الملك الحقيقي" لأنه أصيل لم يأتي من خارج ولا يستطيع أحد أن ينزعه عنه سبحانه:
((فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ...)) طه:114
((فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)) المؤمنون:116
((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ)) فاطر:13
هذا "المُلْك الإلهي" الذي منه يأتي "الملك البشري":
((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) آل عمران:26
فالملك يؤتيه لأشخاص ليسوا من المصطفين الأخيار:
((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ)) البقرة:258
((وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ ...)) يوسف:43
((إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)) النمل:23
أو الملك المنسوب للجماعة:
((وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ... يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا)) غافر:28-29
ولكن الذي يهمنا هو "الملك الذي يؤتيه المصطفين" لربطه مع النبوة والكتاب:
((وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ... إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ ... وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ... وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)) ص:17-20
((وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ...)) البقرة:102
هذا الملك الذي طلبه سليمان (ع) فاستجيب له: ((قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ... فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ ... وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ . وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ . هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)) ص:30-39
((أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ ...)) البقرة:246-248
فلو كان كل نبي (ع) يحكم مجتمعه كتحصيل حاصل لما طلبوا منه (ع) شخصاً آخر يأتي كملك عليهم، وقام فعلاً بالطلب واستجاب الله طبعاً.
ثم يقول ((فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ...)) البقرة:251
ولكنه عندما يأتي إلى يوسف (ع) فإن التعبير يصبح جزءاً من المُلك، فيقول يوسف (ع): ((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ...)) يوسف:101، وذلك لأنه كان وزيراً أعطاه الملك مسؤوليات محدودة، فهو إذاً ((من الملك)).
ثم هناك ما نربطه بالأمة الإسلامية:
((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً . أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا)) النساء:51-55
قلنا أن "آية الحسد" واضحة في أن "المحسودين هم آل محمد (ص)" لأنهم الذين يوازون آل إبراهيم (ع) في أمته، وما يهمنا هنا هو الآتي:
1-أن "الملك" يتضمن "الملك المادي" لقوله ((لا يؤتون الناس نقيراً))
2-أنه إيتاء من الله تعالى ((ما آتاهم الله من فضله))
3-أنه مربوط بـ"الكتاب" و"الحكمة" ((الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً)) ما يفرق بين "الكتاب" وهو كتاب العقيدة والشريعة و"الحكمة" وهي وضع الأمور في نصابها عن "الملك العظيم" وهو الملك المادي أو السلطة أو الاثنين معاً، لأنها كلها كانت قد تحققت في آل إبراهيم (ع) في الخط الإسحاقي بما نص عليه القرآن من ملك داود وسليمان (ع) وأقل منه في حالة يوسف (ع) قبلهما
4-أنه يجعل "الإيمان" بجميع ما عند المحسودين وحدة واحدة ((فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه))، وعليه فإن "الملك" الذي يؤتاه من أوتي "الكتاب والحكمة" جزء من موارد الاصطفاء لأنه يتعلق بتطبيق ما في "الكتاب والحكمة"
5-أنه يهدد بالعذاب الأخروى فقط، وبالتالي لا يجبر الناس على قبول هذه الوحدة الواحدة من "الكتاب+الحكمة+الملك"، أي الحرية تبقى للناس بقبوله أو رفضه.
ولكن هل يبقى جانب "السلطة" بشكل ما؟
إذاً: "الحكم" هنا هو في نفس السياق – أي ما تتضمنه المعاني السابقة من كونه "القضاء" من جانب، وكونه "إصابة النظر في حقيقة الامر وإتقان الرأي في العمل به" كما قال الطباطبائي من جانب آخر .
وأنه لو كان المقصود بـ"الحكم" السلطة لكان عبر عنه بـ"المُلْك".
ولكن يبقى السؤال: كيف يمكن تحقيق "عدم اتباع الأهواء" على أرض الواقع في المجتمع؟ إن التزام بعض الأفراد بهذا لا يشكل ضمانة لالتزام الآخرين به، وإذا ترك الأمر فهذا يعني ضياع الهدف من كل القضية...
وعليه، لا بد من "الأمر بالتنفيذ + ترك حرية الاختيار للناس"، فإن أطاعوا ربحوا وإن عصوا خسروا...
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على نبينا محمد وآله الهداة.