برنامج تدبر القرآن
الخميس 23/01/2014
غسان نعمان ماهر السامرائي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الهداة.
لقاء اليوم هو الثاني في القسم الأول من 6 حلقات إن شاء الله، هدفه إعطاء فكرة أفضل لما ندعو إليه من التشجيع على تدبر كتاب الله – من الأقسام المختلفة من المعارف والمواضيع من جانب، واستخدام أدوات التدبر من جانب آخر.
(الأقسام المختلفة التي ذكرتها في اللقاء السابق وهي: البلاغة، الله تعالى، القرآن، النبي (ص)، أهل البيت (ع)، أقسام الناس، الخلافيات، الابتلاء، مفاهيم مهملة، قُل، إنَّما.)
وقد ا خترت آيات من قسمي: النبي (ص) ، وأهل البيت (ع).
((( أولاً ))) قسم النبي (ص) 1:
قال تعالى: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ . وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ . إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)) سورة الأنفال:20-24
أولاً، نلحظ الخطاب إلى المسلمين ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ))، وهو وصف "الجماعة المسلمة"؛ لذا يجب أن نقول "لبيك"!
((أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ))
(1) أحياناً الأمر يكون ((أطيعوا الله والرسول)) وأحياناً ((أطيعوا الله ورسوله))، والفرق لا بد من تعلقه باستخدام "ال التعريف" في الحالة الأولى مقابل "الضمير المتصل هـ"، فالأول يعطي الرسول (ص) استقلالية – نسبية طبعاً – بينما الثاني يجعل طاعته (ص) منبثقة بشكل كامل من طاعة الله تعالى، وذلك لأنه (ص) منسوب في الطاعة هاهنا إلى الذات المقدسة.
"فلا تولوا عنه" أي عن رسوله (ص) لأنه ينطق بما نزل عليه.
(2) ما يؤكد هذا قوله ((وأنتم تسمعون))، فهو "سماع" وهذا يشير إلى "القرآن" نصاً، وعليه فإن طاعة الرسول (ص) إنما هي فيما قرأه عليكم من آيات القرآن، أي ليس من السنة المبينة له.
إذاً، لا تديروا ظهوركم لما أنزله الله تعالى إليكم بعد أن تأكدتم من أنه من عند الله حيث قرأه عليكم رسوله (ص) الصادق عندكم أصلاً – إضافة إلى دليل الإعجاز.
((وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ))
(1) فإذا ما لم تفعلوا ذلك فإنكم تكونون كالذين ادعوا الطاعة ولكنهم لم يقوموا بها في الواقع.
(2) ينبغي الالتفات إلى الفارق بين "سمع" و "استمع"، فإن الأول أخف ومعناه ورود الصوت المسموع – من كلام وغيره – على حاسة السمع، بينما الثاني أقوى – وزن افتعل – ويعني "تفعيل الفعل" / نظير قولنا "إستلم" من "سلم"، فإن الثاني يعني الأمن أو الخلو من الضرر فجاء وزن "افتعل" ليعطيه معنى "وضعه كما هو مطلوب عند الشخص الآخر"؛
أو قولنا "إعترف" من "عرف"، فإنه اشتق من "فعل المعرفة" الصيغة الثانية "ما يعلن المعرفة" وهو "الاعتراف"؛ وهكذا.
إذاً، القضية قيد الأمر الإلهي هنا هي أول درجات الطاعة وهي "سماع التنزيل"... ولكن
(3) ربما يطرق سمعك صوت وأنت غير مهتم به – كما في الحكم الشرعي بخصوص المحرمات في الاستماع من قبيل "كلام الذين يستهزؤون بكلام الله تعالى أو برسوله(ص) مثلاً" – فلا تؤاخذ عليه في حين تؤاخذ على "الاستماع" وليس "السماع"، ما ربما يفهم معه أن الآية الكريمة تطلب فقط "السماع" حتى دون الانتباه؛ وعليه فإن المفهوم هو "الدرجة الأدنى من المطلوب وهو سماع التنزيل". وهذا ليس غريباً، لأن الخطاب مع المسلمين كلهم ونحن نعلم أنه ليس جميع المسلمين من يأبه للقرآن أصلاً في ذات الوقت الذي يدعي الإسلام ولا يرضى فعلاً بإخراجه من الملة.
(4) وهذا يقود بالضرورة إلى إمكانية على الأقل، إن لم نقل بالقطع، أن هناك في المسلمين على عهد النبي (ص) من كان يدخل في الدين ولكن دون حماس حقيقي، ربما نتيجة إسلام رب الأسرة أو شيخ العشيرة... وما جرى على الأرض بعدها، على العهد النبوي وبعده، يؤيد هذا.
((إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ))
هذه "الدواب" كلمة عامة جمع "دابة" وتعني كل ما "يدب على الأرض" من إنسان وحيوان؛ وبالتالي فإنها يمكن أن تكون واحدة من احتمالات:
(الأول) أنها تعني الحيوانات "البكم" التي "لا تتكلم"، وحتى إذا كانت "تسمع" فإن سمعها لا ينفعها وعليه فيمكن وصفها بـ "الصم"؛
(الثاني) أنها تعني الناس الذين لا يستفيدون من الأسماع والأبصار لأنهم لا يفعلونها فيما ينفع وبالتالي فكأنها غير موجودة عندهم؛
(الثالث) الاحتمالان معاً – أي يضرب المثل بالحيوانات التي هي فعلاً أو واقعاً صماء بكماء + الناس الذين هم على شاكلتهم في تعاطيهم مع الحياة.
إذاً، هو تحذير للمسلمين أن يكونوا على تلك الشاكلة فيما إذا أهملوا الانتباه إلى الذكر الحكيم.
((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ))
(1) هذه الآية تؤكد الاحتمال الثاني، لأنها تقول أن أولئك الذين لا يسمعون لم يفتقدوا حاسة السمع ولكن افتقدوا إمكانية التأهل للإيمان، بحيث "حتى لو أسمعهم الله تعالى بالقوة فإنهم سيتولون ويعرضون عما سمعوه".
وإن كان ضرب المثل في الحيوانات الصماء البكماء أيضاً مهم لتقبيح الصورة، لأن هؤلاء إنما يهبطون بأنفسهم إلى مستوى الحيوانات لأنهم أهملوا أول خطوة من خطوات تفعيل العقل وهو إلقاء السمع من أجل التعرف على ما جاء.
(2) هذه الآية ذكرتها في الأسبوع الماضي وهي التي فتحت مسألة الجبر والاختيار في قضية الإيمان والكفر، وهو سنتناوله في المستقبل القريب إن شاء الله.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ))
(1) مرة أخرى الخطاب إلى المسلمين جميعاً، ونحن منهم.
(2) هنا تغيرت النصيحة-الأمر من "الطاعة" إلى "الاستجابة إلى الدعوة لما يحيي"، أي ليس فقط "الطاعة الإجمالية للقرآن" ولكن "الطاعة المتفاعلة إيجابياً – لأن هذا هو الاستجابة –"...
فلأي شيء الاستجابة؟
(3) نلاحظ أولاً أنه استخدم "الرسول" وليس "رسوله"، وهذا يعني إعطاءه (ص) الاستقلالية – نؤكد النسبية لأن لا استقلال تاماً عن الله تعالى لأي أحد من البشر –، كما قلت أولاً "ال التعريف" تعطي استقلالية قبال "هاء ضمير الغائب" التي تربطه بالله تعالى تماماً.
(4) ما يؤكد هذا هو استخدامه "وللرسول" وليس "والرسول"، أي يقول: "إستجيبوا لله + إستجيبوا للرسول" وليس "إستجيبوا لله + الرسول".
وبالتالي، فإن الاستجابة هنا ليس فقط إلى آيات القرآن، ولكن أيضاً إلى ما يبينه الرسول (ص) مما خفي من معانيها أو ما أجمل من تفاصيلها، أي "إستجيبوا لما أنزله الله في القرآن + إستجيبوا لما يبينه الرسول من القرآن الذي نزل"...
(5) ((إذا دعاكم لما يحييكم))، الفاعل في "دعاكم" هو الرسول (ص)، فلم يقل "دعواكم"، لأن دعوة الرسول (ص) تنطلق من الله تعالى أصلاً، ولكنه هو (ص) الذي يقوم بها بينكم وبينه تعالى.
والآن، هل "الدعوة إلى ما يحيينا" مختصة بأمر دون أمر أم هي شاملة لجميع ما يدعونا إليه(ص)؟
لو كان هناك احتمال واحد أنه (ص) يمكن أن يدعونا لأمر فيه ضرر لنا، أي ما هو عكس الحياة، فإن الآية كان يجب أن تخصص لا أن تكون مطلقة هكذا... ولكن هل يشك مسلم في أن النبي (ص) يمكن أن يصدر منه أمر أو حث أو موعظة لا يصب في نفعه؟
ثم هل "يحييكم" تعني هذه الحياة أم الحياة الآخرة أم الاثنين معاً؟
طالما أن القرآن يدعو إلى كل فعل محمود فإنه (ص) يدعو إلى ما هو حياة حقيقية في هذه الدنيا.
ولكن طالما أن هذه الحياة الدنيا قصيرة جداً لا تكاد تذكر قياساً إلى الحياة الآخرة أولاً، وطالما أن أفضل ما فيها محفوف بالخطر والقلق والنقص ثانياً، فإن "يحييكم" متوجهة في الواقع إلى الحياة الآخرة، وذلك:
(أولاً) لأنها هي الحياة الحقيقية ((وإن الدار الآخرة لهي الحيوان)) – أية "حقيقة الحياة"
(ثانياً) لأن الفوز بالآخرة يأتي من الإيمان والعمل الصالح في الدنيا، وعليه فحتى ما يدعونا إليه الرسول (ص) مما يتعلق بأمور الدنيا هو في حقيقته دعوة للحياة الحقيقية في الأخرى.
إذاً، الدعوة تشمل كل ما يقربنا إلى الله تعالى ورضوانه وكل ما يبعدنا عن سخطه وعقابه، حتى لو كان فيها تعب أو ألم أو ضرر ظاهر فإنه مؤقت، وفي نفس الوقت يحمل معه الحسنات ورفع الدرجات. فهي تشمل: التمسك بالعقيدة والشريعة والمنظومة الأخلاقية، وذلك من خلال الطريق المستقيم الذي رضيه الله تعالى لنا، وهو (1) القرآن (2) ما صح من سنة النبي (ص) المبينة للقرآن (3) خلفاء النبي (ص) الراشدين المهديين (ع) الذين عندهم القرآن والسنة كما ينبغي.
والروايات ذكرت ما "يحيينا"، فذكر بعضها النتيجة وهي "الجنة" كما ذكر غيرها الطريق أو الآلية وهي "العلم" أو هي "ولاية علي ابن أبي طالب (ع)"، أو "الإيمان" نفسه بكامله لأنه الطريق. بل يمكن اعتبار هذه جميعاً هي المقصودة لأنها كلها جزء لا يتجزأ من "ما يحيينا".
ولا تنسوا أن "دعوة الرسول" هنا إنما تنطلق مما ينطق به هو، وليس من نص القرآن بالضرورة، كما أشرت إلى الفارق بين الآية الأولى وهذه الآية، وبالتالي، فعلى الرغم من أن استجابة المسلم إن كان مسلماً حقاً لرسوله (ص) مفروغ منه، ولكن ربما أن الغفلة من جانب أو أن بعض هذه الدعوة من الرسول (ص) مما هو ثقيل على النفس عموماً أو على نفوس البعض فجاءت الدعوة القرآنية.
نعم، هناك مساحة من الاختيار، في المستحبات والمكروهات، أما معرفة الله أولاً، ثم الحلال والحرام ثانياً، فلا مجال فيه للاختيار، لأنه "سيكون بالضد لما يحيينا" ما يجعلنا نخسر من الآخرة درجات.
ملاحظة هامة:
إن "الحياة الدنيا" ذاتها آفاق واسعة جداً لعل معظم الناس مشغولون بالأدنى من آفاقها، فهم في لهاث دائم من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية من خلال الجانب المادي ليس إلا، في الوقت الذي يهملون الجانب المعنوي، وهو مؤسف لأن تقوية الجانب المعنوي من شأنه تمكين الإنسان من التعامل بشكل أفضل مع معترك الحياة المادي، خصوصاً أن ما بيده منه هو أقل القليل، والمصائب والكوارث لا عصمة منها، فعندما يكون الجانب المعنوي مدرباً فإن المرء يكون أقوى في التفاعل معها. تنزل نعمة فيطغى ولا يشكر، وتنزل به نقمة فيجزع ولا يصبر، في حين لو كان قد تلقى رعاية معنوية لشكر هنا وصبر هناك – وما هذا إلا لضعف الإيمان الذي وصف بأن "نصفه شكر ونصفه صبر".
وعليه، فإن "ما يدعونا إليه الله والرسول (ص) لما يحيينا" في شقه الدنيوي يتعدى ماديات الحياة الدنيا إلى آفاقها المعنوية التي هي أوسع وأجمل.
((وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) / وهو جزء مهم جداً من الآية المباركة
فإن قررتم الذهاب في طريق عدم طاعة الله ورسوله (ص) فيما نزل من القرآن والتولي معرضين، وفي طريق عدم الاستجابة لما يدعوكم إليه رسوله (ص) لما يحييكم، فلا تنسوا أن الأمر ليس بعيداً عن هيمنة المولى عز وجل، بل هو أقرب إليه إلى درجة أنه يمكن أن يقف "حائلاً" بين الإنسان وقلبه...
و "القلب" هنا هو الآلية التي يقوم الإنسان بواسطتها باتخاذ القرار فيما جهز به أصلاً عندما "هداه النجدين" – فهو "المزيج من العقل والشعور والعاطفة".
ولكن "كيف يحول الله بين المرء وقلبه"؟
هل: يحول بينه وبين فعل الخير وأوله الاستجابة لله وللرسول؟ أم يحول بينه وبين فعل الشر وأوله الإعراض عنه؟
هذا يدخلنا مرة أخرى في بحث "الجبر والاختيار"، هذه المرة ليس في قضية الإيمان والكفر "يهدي من يشاء ويضل من يشاء"، ولكن في قضية العمل الصالح أو السيء – وهو ما لا بد نبحثه منفصلاً في مناسبات أخرى.
على أية حال، لله الحق الكامل في التدخل بين المرء وقلبه لأنه هو:
الخالق الصانع له + المهيمن عليه + المستمر في مدده دون انقطاع؛
فكيف للأم أو الأب مثلاً الحق في التدخل في حياة أولادهم بما يتعلق بالقلب من حب وبغض ورغبات لمجرد أنهم: كانوا آلية خروجهم إلى الحياة + المسؤولين عن إدارة معيشتهم + الاستمرار في إعطائهم من وقتهم وجهدهم وحياتهم؛ وكلها جزئية جداً مقارنة مع تلك الربانية؟
ولكن لنذهب إلى إحدى الأدوات الهامة في تدبر القرآن، وهي ما ذكرتها قبل قليل – وهم أهل البيت (ع) – الذين دعانا الله ورسوله (ص) إليهم من ضمن ما يحيينا (وكما سنثبت ذلك في موارد كثيرة متنوعة في كتاب الله)، فماذا يقولون عن ((يحول بين المرء وقلبه))؟
قال الإمام الباقر (ع) في تفسيرها: ((بين المرء ومعصيته أن يقوده إلى النار، ويحول بين الكافر وطاعته أن يستكمل بها الايمان؛ واعلموا أن الأعمال بخواتيمها)).
أي ربما يتعلق بقوله ((فسنيسره لليسرى)) و ((فسنيسره للعسرى)) – أي بحث الجبر والاختيار.
أما الإمام الصادق (ع) فقال: ((يحول بينه وبين أن يعلم أن الباطل حق)) – وهذا يعني أنه تعالى يقطع عليه عذره فلا يستطيع القول أنه لم يستجب لأن الأمور اشتبهت عليه فرأى الباطل حقاً.
ومثله، وبشكل أشمل، عنه (ع) أيضاً قال: ((لا يستيقن القلب أن الحق باطل أبداً، ولا يستيقن أن الباطل حق أبداً))؛ وهذا يحيط بالجهتين، فلا يستطيع المبطل أن يتعكز على أن الأمور اشتبهت فرأى الحق باطلاً والباطل حقاً، لأن الله تعالى مطلع على دقائق ما أخفاه في نفسه ((ويعلم السر وأخفى)).
ولكن يجب ملاحظة:
أن حديث الباقر (ع) يتكلم عن "المرء المؤمن والكافر" في حين أن حديثي الصادق (ع) يتكلم عن "الباطل والحق" وعليه فهما ألصق بالآية الكريمة التي تتوجه بخطابها إلى المسلمين "الذين آمنوا" وليس الكفار... فلا يعود هناك تعلق لبحث "الجبر والاختيار" في هذه الحالة.
أخيراً في هذا الجانب:
كون الله تعالى ((يحول بين المرء وقلبه)) تجعله سبحانه متفرداً في هذه العلاقة مع الإنسان، لأن جميع الآخرين من غيره تعالى مهما بلغت سطوتهم وقدرتهم فإنها تبقى محدودة في الخارج، فلا يمكن أن تجعل من يحبهم يكرههم وبالعكس، أو تجعل البخيل كريماً وبالعكس، وهكذا. فحري بالإنسان الالتفات إلى هذه الحقيقة التي من شأنها جعله ينطلق في آفاق العلاقة مع الله إلى مديات عالية.
((وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ))
النتيجة النهائية التي يجب أن لا تغفلوا عنها: حتى لو أهملتهم طاعة الله ورسوله (ص) في هذه الدنيا، وحتى لو لم تستجيبوا لما يحييكم، لأن عندكم الحرية في الاختيار وعندكم المجال في أن تهملوا وتتولوا معرضين، فلا تغفلوا عن أن هذا مؤقت، وأنكم ستجدون أنفسكم في يوم يحشركم جميعاً إلى الله، وعندها فلا تضيعوا فرصة الحياة الحقيقية إذا أهملتهم الاستجابة إلى الله ورسوله (ص).
كما رأيتم، فإن الأدوات التي استخدمناها في عملية التدبر البسيطة هذه هي:
1- الالتفات إلى أشكال التعبير "الرسول" و "رسوله"؛ "وللرسول" بدلاً من "والرسول"
2- التدقيق في مغزى استخدام الفعل "سمع"
3- النظر في احتمالات إلفات نظر المخاطبين إلى حالة "الدواب الصم البكم"
4- عدم الغفلة عن عمومية "الدعوة لما يحييكم" لتشمل الدين كله، كما تشمل الدارين، وبل تشمل أبعد من الجانب المادي في الدار الأولى
5- التدقيق في قضية دخول الله تعالى بين الإنسان وقلبه وعلاقتها بالآيات قبلها.
((( تفضلوا بالأسئلة )))
السؤال الأساس كان: التفريق بين محمد (ص) النبي ومحمد (ص) الرسول (وتم توضيح أن طاعته (ص) كنبي مثلها كطاعته (ص) كرسول لأن الخطاب القرآني بـ "يا أيها النبي" مثل ((يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ...)) ((يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى)) ((يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال)) أمر من الله للنبي (ص) فهو في معرض الطاعة أيضاً) . إستطراداً طرحت مسألة "خطأ" النبي (ص) كما في قوله ((يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك)) وأمثالها، وكان الوعد بتناول هذا الموضوع بالذات في تدبر هذه الآيات.
كما تضمنت تعقيبات الحضور إشارة إلى منزلة رسول الله (ص) بالنسبة إلى الأنبياء (ع)، فتم إلفات النظر إلى أنه (ص) هو المتقدم حسب القرآن الكريم، ليس فقط لأنه المختار لنزول القرآن عليه فحسب، ولكن أيضاً لأن القرآن قدمه على أولي العزم من الرسل (ع) فكسر التسلسل الزمني في البعثات في حالته فقط مع أنه راعاه مع الآخرين فقال ((وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم، ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً)) فقدمه على من هم الأعلى بين المرسلين.
((( ثانياً ))) قسم أهل البيت (ع) 1:
· إشارة إلى آيات أهل البيت (ع) في القرآن الكريم.
قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ . وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً . أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا)) النساء:51-55 |
|
ملاحظة أولية: موضع التدبر هو الآية ((أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)) ولكن كونها متعلقة بما قبلها إذ تسرد تعامل إحدى الفئات المقصودة بالآية – وهم الحاسدون – حتى تصل إلى آية "أم يحسدون" فإني سأشير إليها سريعاً.
فأولاً، الآيات ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ . وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً . أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا))،
قالوا: أن "اليهود" الذين أوتوا نصيباً من الكتاب – وهذا يعرض بهم لأنهم أوتوا الكتاب الذي نزل على موسى (ع)، ولكنهم حرفوا وبدلوا وأهملوا، فلا يعتبر أن عندهم إلا نصيب من الكتاب.
هؤلاء بدلاً من أن يؤمنوا بالله تجدهم يؤمنون باثنين: "الجبت" و "الطاغوت"؛
قيل في معنى "الجبت" خِساس الناس / كل ما عُبد من دون الله / الساحر / الكاهن / الصنم / الضعيف في عقله ورأيه / من أولاد الريبة.
وأما "الطاغوت" المشتق من "طغى"، أي زاد عن الحد ((إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية))؛ وعليه فهو "الطاغية" كما نقول إلى اليوم / ولكن أيضاً قالوا أنه – مثل الجبت - جنس من كان يُعبد من دون الله ، سواء كان صنماً أو شيطاناً أو إنساناً.
وقد روي عن ابن عباس أن: الطاغُوت كَعْبُ بن الأَشرف ، والجِبْتُ حُيَيُّ بن أَخْطَبَ .
فاليهود يقولون "للذين كفروا" أن "كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب" هم أهدى من "الذين آمنوا سبيلاً" = "أهدى من المسلمين" لأن لفظة "الذين آمنوا" هي وصف القرآن للجماعة المسلمة.
((أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا)): لعنهم الله، أي طردهم من رحمته.
الآية بعدها ((أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا))، لو كان عندهم شيء من الملك، وهو الحكم أو المال أو التصرف في المجتمع عموماً، فإنهم كانوا سيبخلون بأقل القليل، أي كان الناس لا يحصلون منهم على ما يوسع عليهم في حرياتهم أو العدل منهم أو شؤونهم المختلفة.
ثانياً، الآية موضع التدبر هو الآية ((أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا))
(1) الآية لا تصرح باسم "الحاسدين" ولا "المحسودين"، فإن كلمة "واو الجماعة في "يحسدون" هو فاعل الحسد، وكلمة "الناس" هم المفعول به المحسودون. وكلمة "الناس" كلمة يمكن أن تعني شخصاً واحداً أو مجموعة من الأشخاص أو الناس جميعاً؛ وبما أنه لا يمكن أن تعني الأخير لأن الحاسدين من ضمن الناس جميعاً، يبقى معنى الشخص الواحد أو المجموعة.
(2) سبب الحسد هو ((ما آتاهم الله من فضله))، وهذا "الفضل" لا تصرح به الآية في أولها أيضاً.
وعليه، عندنا ثلاثة مجاهيل: (أ) الحاسدون (ب) المحسودون (ت) سبب الحسد أو الفضل من الله
(3) ولكن، رفض موقفهم الحاسد هذا الذي جاء في النصف الآخر من الآية يفصح عن المحسودين وعن الفضل...
فإنه يقول: لماذا تحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وأنت تعلمون أن الله تعالى آتى "آل إبراهيم"... ماذا آتاهم؟ الكتاب + الحكمة + الملك العظيم...
يقول البعض أن "المحسودين" هو النبي (ص) حصراً، والبعض الآخر أنهم المسلمون عموماً.
فهل تجدونه مناسباً أن الله يريد إقامة الحجة فيأتي بفعل قام به لمجموعة من البشر لا تقابل هؤلاء؟
- لو كان الناس المحسودون هو النبي (ص) حصراً فإن المناسب أن يقول لهم "فقد آتينا إبراهيم" وليس "آل إبراهيم"..
- ولو كان الناس المحسودون هم المسلمون، أو صحابة النبي (ص) وقت الآيات، فإن المناسب أن يقول لهم "فقد آتينا أتباع إبراهيم"...
- ثم كيف يكون المحسودون هم صحابة النبي (ص) أو أتباعه والحجة في الآية هي إيتاء "الكتاب + الحكمة + الملك العظيم"؟ إذا كان ممكناً قبول إيتائهم "الكتاب" على أساس أن القرآن أنزل إلينا جميعاً، فهل أن أتباع النبي (ص) كلهم آتاهم الله "الحكمة"؟ أو "الملك العظيم"؟
- وعوداً على أن المحسودين هو النبي (ص) حصراً، لماذا تتحاشى الآية ذكره صراحة فتقول مثلاً "أم تحسدون النبي على ما آتاه الله من فضله"؟ ما الذي يمنع ذلك وهو طبعاً مذكور في القرآن الكريم من أوله إلى آخره؟
(4) إذاً، الصحيح هو المناسب في المقام، والمناسب في المقام هو من يقابل "آل إبراهيم" في الإسلام وهم "آل محمد" عليهم السلام، وذلك بملاحظة:
(أولاً) عدم مناسبة التفسيرات البديلة أعلاه
(ثانياً) أنهم (ع) من آل إبراهيم (ع) لأنهم مشمولون بما في الآيتين 33 و 34 من سورة آل عمران ((إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين . ذرية بعضها من بعض))
(ثالثاً) لا يمكن أن يكونوا "جميع آل إبراهيم أي من ولديه إسماعيل وإسحق" لأنه:
(أ) إذا كان الحاسدون هم اليهود فكيف يحسدون آل إسحق (ع)؟
(ب) إذا كانوا غير اليهود فهؤلاء لا شأن لهم بآل إسحق (ع) إذ لا منافسة بينهم وبينهم.
(رابعاً) كما لا يمكن أن يكونوا "المسلمين" لأنه "ليس جميع المسلمين من آل إبراهيم (ع)".
(5) أما "سبب الحسد" أي المجهول الثالث، فإنه يتجلى في النظر في ما آتاه الله لآل إبراهيم (ع) وهو: الكتاب + الحكمة + الملك العظيم.. وفيه:
(أ) ما قلته من أنه ليس جميع المسلمين أوتوا الحكمة والملك العظيم
(ب) أن الآية جمعت "الكتاب والحكمة" ثم فرقت "الملك العظيم" بفعل "آتينا" ثان، ولعل في هذا إشارة إلى قضية واقعية هي أن "الكتاب والحكمة" تأتي من عند الله تعالى مستقلاً استقلالاً كاملاً، فلا دخل لأحد فيها، في حين أن "الملك العظيم" يؤتيه الله تعالى كفرض وتأهيل ولكن هناك دخل للناس في قبوله أو لا، لأنه لا يفرض عليهم إلا بإعلانهم القبول، أو قل "البيعة". وهذا ما عمله النبي (ص) من أخذ البيعة يوم الحديبية، لأن ب بيعة الأنصار في العقبة تضمنت حمايته في المدينة، لذا كان عندما يريد القتال في بدر وأحد فإنه (ص) كان يطلب منهم إعلان رغبتهم في ذلك لأن الله تعالى قال له ((فقاتل في سبيل الله لا تُكلَّف إلا نفسك، وحرّض المؤمنين)).
(ت) وفعلاً، لم يستطع الحسد منع آل محمد (ص) مما آتاهم الله من "الكتاب والحكمة"، ولكنه استطاع منعهم من "الملك العظيم". هذا، إلا إذا كان "الملك العظيم" يشمل النبوة والولاية كما فسره البعض، وعندها فهي أيضاً تتعلق بالتفاعل مع الناس في الهداية والوعظ والتوجيه، أي أن هناك عامل قبول الناس ورفضهم أيضاً.
جمع الآيات مع بعضها:
لو أردنا إطلاق الآية في ما يمكن من معناها، في زمانها وبعد زمانها، وذلك بملاحظة ما قدمته من معاني "الجبت والطاغوت"، أيضاً من حصول "الحسد على آل محمد(ص)" قطعاً، أفلا يمكن القول أن الآية تشير أيضاً إلى كل من عنده شيء من الكتاب، سواء من الأديان السابقة أم الإسلام، لأن من عنده شيء من القرآن بمعنى يقبل بعضه ويرفض البعض الآخر أيضاً تنطبق عليه هذه الصفة ((أوتوا نصيباً من الكتاب))، من يؤمن بالأنداد من دون الله، من البشر بالخصوص لأن الأصنام لم يعد لها وجود في عالم الذين أسلموا، ويعلنون أن هذه الأنداد أهدى سبيلاً من سبيل الإسلام الذي هو سبيل "الذين آمنوا"؟
ألم يقل الله تعالى ((إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله))؟
فما هو هذا غير أنهم أطاعوهم فيما أحلوا لهم من حرام وحرموا من حلال كما بين لنا الأئمة (ع)؟
فمثل هؤلاء لا يستغرب منهم أن يحسدوا آل محمد (ص) ((على ما آتاهم الله من فضله))، لا سيما وهم يرونهم قد ورثوا – (1) الكتاب (2) الحكمة (3) الملك العظيم في الدنيا والآخرة.
ولو راجعنا الروايات الحديثية لوجدنا هذا.
ففي تفسير البرهان عن الباقر (ع) قال: ((نحن الناس))
وفي الكافي عنه (ع): ((نحن الناس المحسودون))
والروايات كثيرة التي تقول هذا.
حتى أهل السنة – كما في تفسير الدر المنثور للسيوطي – أخرجوا الروايات التي تقول أن المحسودين هم آل محمد (ص). فقد أخرج بعضهم رواية الباقر (ع) الفائتة. وبعضهم أخرج روايات عن ابن عباس (رض) قوله: ((نحن الناس دون الناس)).
بل أخرج ابن حجر الهيتمي في "الصواعق المحرقة على أهل البدع والزندقة" أي الشيعة (!) حديث الباقر (ع) في الآية السادسة من فضائل أهل البيت (ع) وهي هذا الآية.
كما رووا تفسير ابن عباس أنها نزلت في رسول الله (ص) وعلي (ع).
أما عن فقرات الحسد، فقد رويت الروايات فيها.
منها عن أبي جعفر (ع) قوله: ((فنحن المحسودون على ما آتانا الله من الإمامة دون خلقه أجمعين، فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً، فجعلنا منهم الرسل والأنبياء والأئمة، فكيف يُقِرُّون به في آل إبراهيم وينكرونه في آل محمد؟))
أي: بغض النظر عن كوننا جزءاً من آل إبراهيم (ع) وبالتالي يجري علينا ما يجري على المصطفين من آل إبراهيم (ع)، فإن الآية تثبت لنا هذه المنازل.
وأخرج أهل السنة روايات، منها نقاشاً بين ابن عباس ومعاوية الذي قال له: "يا بني هاشم، إنكم تريدون أن تستحقُّوا الخلافةَ كما استحقيتم النبوة ولا يجتمعان لأحد، وتزعمون أنَّ لكم ملكاً"، فقال ابن عباس: "أما قولك أنَّا نستحق الخلافة بالنبوة، فأن لم نستحقها بالنبوة فبِمَ نستحقها؟! وأما قولك: أنَّ النبوة والخلافة لا يجتمعان لأحد، فأين قول الله ((فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)) فالكتاب: النبوة، والحكمة: السُّنة، والملك: الخلافة، نحن آل إبراهيم، أَمْرُ الله فينا وفيهم واحدٌ، والسُّنةُ لنا ولهم جارية".
"الكتاب" جاء من "النبوة"، و"الحكمة" من "السنة"، فما هو "الملك العظيم" غير الخلافة؟
الخلاصة في هذه الآية:
إني لا أجد "حسد اليهود للنبي (ص)" كما قيل في بعض التفسير أكثر انطباقاً على الآية الكريمة من "حسد بعض المسلمين لآل النبي (ص)"، لأن اليهودي لا شأن له بما عند النبي (ص) فهو لم يدخل ملته، ولكن المسلم الذي انطوت نفسه على مشكلة مع النبي (ص) أو آله (ع) لا يستغرب منه "حسدهم (ع)" لأن المنافسة في نفس الجماعة أشد كما لا يخفى، فكيف إذا كانت المنافسة تتضمن "الملك الحكم" وهو الذي يقتل عليه الإبن أباه والأب ابنه؟
وهنا أتذكر التفاتة رائعة للشهيد السيد محمد باقر الصدر رحمه الله تعالى، ما خلاصته: أن علياً (ع) كان يشكل مشكلة لأقرانه من الصحابة، ليس الصحابة المنافقين والذين في قلوبهم مرض، ولكن الصحابة المخلصين الذين كانوا يريدون خدمة الإسلام، فإنهم مهما فعلوا في أي حقل من حقول خدمة الدين فإن علياً (ع) كان يبزهم بمراحل، وهذا يخلق شيئاً من الضيق في نفوسهم كأمر طبيعي بين البشر...
فإذا كان هذا من المخلصين، فما بالك بغيرهم.
وقد أشارت الروايات إلى ما أذهب إليه.
من ذلك ما أخرجه الكليني في الكافي عن الباقر (ع) سؤال بريد العجلي عن قوله تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) والذي سأتناوله في المستقبل إن شاء الله، والذي نعتقد – نحن شيعة أهل البيت (ع) – أنه في ولاة الأمر من آل محمد (ص) وبالتالي فالرابط بينها وبين الآية موضع التدبر اليوم يحسم الأمر...
كان جواب الباقر (ع): ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. يقولون لأئمة الضلالة والدعاة إلى النار: هؤلاء أهدى من آل محمد سبيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، يعني الإمامة والخلافة، فَإِذَا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا . نحن الناس الذين عنى الله . والنقير النقطة التي في وسط النواة...)) ثم أتم بآية الحسد وقوله الذي ذكرته قبل قليل.
أخيرا، الآية بعدها ((فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا))
إنقسم الناس إلى قسمين:
القسم الأول "آمن بالدين وبالكتاب دستور الدين وبالسفير بين الله وخلقه بهذا الكتاب وبالمؤدين عنه من آله الأطهار المقابلين من هذه الأمة لآل إبراهيم (ع) المذكورين في الآية"؛
القسم الثاني "صد عنه" كلياً أو جزئياً؛
أو قل: البعض إستجاب للرسول (ص) عندما دعاه لما يحييه في ولاية أهل الكتاب والحكمة والملك العظيم، والبعض الآخر ردها.
كما رأيتم، فإن الأدوات التي استخدمناها في عملية التدبر هذه هي:
6- جو الآيات وسياقها
7- معاني الكلمات قليلة الاستعمال "جبت" "طاغوت"
8- تفكيك آية "الحسد" لمعرفة فاعل الحسد وهدف الحسد وأسباب الحسد
9- فهم المصطلحات القرآنية بواقعيتها، "آل إبراهيم" بالذات
10- التدقيق في أي تكرار أو تفريق، ((آتينا ... الكتاب والحكمة)) ((وآتيناهم ملكاً عظيماً))
11- النظر في الروايات الحديثية للتأكد من نتائج التدبر في الآيات وحدها أولاً
12- النظر في الروايات الحديثية عند الفريقين عندما وجدنا الأمر يتعلق بالخلافيات.
((( تفضلوا بالأسئلة )))
السؤال الأساس كان: تعريف آل إبراهيم، فكان الجواب الإتيان بما يقوله البعض من تعريف مغاير وهو أن "آل إبراهيم هم أمة إبراهيم" أي بشكل مشابه لما قاله بعض المفسرين مما ذكرته في المحاضرة من أن المحسودين هم النبي (ص) والمسلمون جميعاً من الصحابة وقت نزول الآيات موضوع التدبر، والجواب عليه بأن القرآن يقول ((إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)) فهل يعقل أن "الاصطفاء" شمل جميع أتباع إبراهيم (ع)؟ وهو ما سيكون أكثر لامعقولية إذا ما قلنا أن أتباع إبراهيم (ع) هم اليهود والمسيحيون والمسلمون والأحناف فيما بين البعثات؛ أضف إلى ذلك أننا لا نعرف شيئاً اسمه "أمة عمران" لكي يكون معنى "آل عمران" أنهم أتباعه وأمته، فآل عمران إن هم إلا بيت من المؤمنين المخلصين اصطفاهم الله تعالى على العالمين. أيضاً، لماذا لم تقل الآية الكريمة "آل نوح" لأن نوحاً (ع) كان له أتباع قطعاً؟ إذاً، الاصطفاء محدد في المذكورين لأن الله تعالى هو الذي يصطفى.
كما تم إلفات النظر إلى أن الأتباع يحصلون على "الرضوان" فحسب لأنه لا يأتي إلا بعد العمل على أرض الواقع، أما "الاصطفاء" فهذا يحصل قبل العمل والابتلاء، أي يحصل من الله تعالى قبل خلق المصطفى من البشر، لذلك فرق بين هؤلاء وهؤلاء وقال ((وسلام على عباده الذين اصطفى)).
ثم ألفت النظر إلى أن هذه الأسرة الكريمة أسرة غير عادية، فهذه قريش تتجنب مجاورة البيت الحرام فيأتي قصي جد النبي (ص) فيبني بيتاً عند البيت فتنزل قريش خلفه، وهاشم هو الذي يؤسس الوضع الاقتصادي المتطور لمكة بتأسيسه رحلتي الشتاء والصيف، وعبد المطلب هو الذي يوحي الله تعالى إليه بالرؤيا أن يحفر زمزم، بل ويسمى حفيده "محمداً" فيسأل عن هذا الاسم الغريب فيوضح أنه "يجمع الصفات المحمودة"، بل كيف له معرفة أن العذاب سينزل على جيش إبرهة في مكة بحيث يأمر أهل مكة بالخروج منها إلى الضواحي حتى لا يصيبهم العذاب؟ هؤلاء أفراد على اتصال بالسماء، وهذا لا يحصل إلا بعد اصطفاء من الله تعالى.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على نبينا محمد وآله الأطهار.