برنامج تدبر القرآن
المركز الإسلامي في سري، الخميس 17/04/2014
غسان نعمان ماهر السامرائي
المهدي المنتظر من خلال إطلالة قرآنية
القسم 3 من 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الهداة.
هذا الأسبوع نكمل ما بدأناه في الأسبوعين الماضيين من تناول قضية المهدي المنتظر من خلال تدبر بعض الآيات القرآنية المتعلقة بفكرته وحركته كما تتعلق بتشخيصه والإشكالات المثارة حوله (ع).
في القسم الأول قلنا:
1-عقيدة المخلص الموعود المنتظر موجودة عند الأمم المختلفة
2-العقيدة عند المسلمين هي وجود رجل من ذرية النبي(ص) من ولد فاطمة(ع) يظهر في آخر الزمان من أجل أن ‹‹يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً».
3-وأن أهل السنة يعتقدون أن المهدي المنتظر سيولد ويظهر في آخر الزمان.
4-وأن الشيعة يشخصون هذا القائدة المنتظر أنه محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع). وبالتالي فقد ولد في زمان قديم؛ تحديداً في 15 شعبان سنة 255 هجرية، وعليه فإن عمره الشريف يقترب من إثني عشر قرناً؛ وبملاحظة تاريخ وفاة أبيه (ع) سنة 260هـ فإن المهدي(ع) صار إماماً وهو في الخامسة من عمره؛ وأنه منذ ذلك التاريخ وإلى حد الآن هو غائب عن الأنظار.
عقيدة ولدت إشكالات
التشخيص الشيعي للمهدي المنتظر (ع) ولد إشكالات أثارها المسلمون الذين لا يؤمنون بهذا التشخيص، ذكرت أنها أربعة إشكالات، تناولنا في الأسبوع الأول الإشكال الرابع المتعلق بالحكمة من إناطة مهمة تحقيق دولة العدل الإلهي في العالم بشخص ولد منذ قرون وليس لمن يولد في زمان التحقيق، وخلصت إلى أن الوعد القرآني بـ "ظهور الإسلام على الدين كله" لا يمكن تحقيقه إلا تحت قيادة تتمتع بمواصفات استثنائية في النفس والعقل والعلاقة بالله تعالى وهو ما نجده في الإمام الثاني عشر (ع) وليس في غيره ممن يولد في زمان إقامة دولة العدل هذه.
وتناولنا في الأسبوع التالي/الماضي إشكالي مكان الغيبة، والإمامة المبكرة جداً؛ ليتبقى الإشكال الثالث: طول العمر غير المألوف مع الخلاصة في لقاء اليوم.
(الإشكال الثالث) هل من المعقول أن يعيش طيلة هذه المدة؟
وهذا هو الإشكال الأكثر صعوبة من غيره، فإن الولادة في القرن الثالث الهجري ولدت مشكلة طول العمر غير المألوف.
الجواب عنها كالآتي:
(أولاً) العمر ليس محدداً بالأساس إذ ليس هناك ما يثبت علمياً أن البشر لا يمكن أن يعيشوا قروناً من الزمان (الأبحاث العلمية اليوم تؤيد ذلك، أن معدل عمر الإنسان يكون 120 ويزيد، أتذكر عالماً روسياً ذكر 400 سنة، وبعضهم من علماء اليوم يذهب إلى 1000 سنة حتى)، وهم يستطيعون قول ذلك خصوصاً وأن الدليل قائم على أن عمر الإنسان يطول، ربما تضاعف معدل العمر في القرنين الماضيين، وذلك بملاحظة أمرين:
1 – أن "الموت" سر من أسرار الله تعالى، فإن اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت لا تفصل بين الجسد في حالة معينة والجسد في حالة أخرى تختلف ولو قليلاً، بل الجسد هو الجسد، حتى مع المرض الشديد، لهذا نجد الذين يسقطون في الغيبوبة يمكن أن تطول معهم سنين، وذلك لأن المعول هو على "الروح"، والتي هي من نفخة الله تعالى وهذا سر الله حصراً؛ وعليه فنهاية الحياة هي بخروج الروح بعد استيفاء المدة التي كتبها الله للإنسان؛
2 – أن الإمام (ع) يعلمه الله تعالى أفضل ما يمكن من رعاية الجسد، من خلال الطعام والشراب وظروف المعيشة كلها؛ إضافة إلى البعد النفسي؛ وهذا يحقق ما يقول عنه العلماء المار ذكرهم أعلاه.
(ثانياً) يؤمن المسلمون بأن أفراداً معينيين عاشوا أعماراً طويلة بعضها يصل إلى الآلاف من السنين، وبعضها ممتد إلى الآن، وهذا على اختلاف في السعة والضيق والالتفات أو عدم الالتفات:
1-أهمها طول عمر نوح(ع) الذي بقي يدعو قومه قبل الطوفان 950 سنة ثم استمر بعده (حتى 2400 سنة على بعض الروايات).
2-المسيح(ع) رفع وما يزال حياً وسيبقى حياً حتى نزوله إلى الأرض في آخر الزمان، أي عمره اليوم أكثر من 2000 سنة (الأسبوع الماضي ذكرت كيف نثبت من القرآن أنه (ع) لا يزال حياً، ليس فقط من قوله تعالى ((بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ)) النساء: 158، ولكن أيضاً من ((وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)) النساء:159 الأمر الذي لم يتحقق لحد الآن لأن أهل الكتاب تشمل اليهود أيضاً وهم لم يؤمنوا بالمسيح (ع) لحد الآن).
3-والكثيرون منهم يؤمنون بأن "الخضر" هو العبد الصالح في قصة موسى(ع)، وعليه فعمره اليوم أكثر من 5000 سنة (بل روي أنه ابن عم جد إبراهيم (ع)، بل وحتى ابن آدم مباشرة، فيكون عمره أطول بكثير)؛ ولمن يشنع على الشيعة إيمانهم بطول عمر المنتظر (ع)، نورد له قول الإمام النووي – إمام الحديث عند أهل السنة – الذي قال في شرحه لصحيح مسلم ما نصه: "جُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ مَوْجُودٌ بَيْن أَظْهُرِنَا، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْد الصُّوفِيَّةِ، وَأَهْل الصَّلَاح وَالْمَعْرِفَة، وَحِكَايَاتهمْ فِي رُؤْيَته وَالِاجْتِمَاع بِهِ وَالْأَخْذ عَنْهُ وَسُؤَاله وَجَوَابه وَوُجُوده فِي الْمَوَاضِع الشَّرِيفَة وَمَوَاطِن الْخَيْر أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، وَأَشْهَر مِنْ أَنْ يُسْتَرَ. قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح: هُوَ حَيٌّ عِنْد جَمَاهِير الْعُلَمَاء وَالصَّالِحِينَ. وَالْعَامَّة مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ".
4-بعضهم يقول أن إدريس (ع) لا يزال حياً اعتماداً على قوله تعالى ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا . وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا)) مريم:56-57، إضافة إلى بعض المرويات، وإن نسب بعضها إلى الإسرائيليات، لكن العلماء ما بين من يقول أن "الرفع" هو رفع المنزلة ومن يقول أنه الرفع عند الله مثل عيسى (ع) أي لا يزال حياً.
5-وأن آدم (ع) عاش قروناً متطاولة.
6-وأن بعض الصحابة، مثلاً سلمان الفارسي (رض) عاش مئات السنين.
7-ولكنهم لا يجدون مشكلة في هذا لأنهم تربوا ونشأوا عليه فلا يوجد حاجز نفسي يصدهم عن الإيمان به، ولكنهم يجدون صعوبة في تقبل طول عمر محمد بن الحسن(ع) لأنهم لم ينشأوا على ذلك، بدليل أن أهالي سامراء لا يجدون مشكلة في قضية الإمام الثاني عشر (ع) هذا لأنهم نشأوا عليه، نفس الشيء لمن نشأ على وجود الخضر حياً كما في بغداد وغيرها.
8-ومع الأسف أن البعض على الرغم من التزامه بالروايات التي تقول بمثل هذه الأعمار – وبعضها عجيبة تشابه الأساطير – فإنه عندما يأتي إلى المهدي (ع) ليس فقط يرفضها ولكن يبدأ بالتهويل والتسخيف، مع أن طول العمر هنا مثله هناك.
((( خلاصة ما تقدم:
- (أولاً) ليس هناك دليل فسيولوجي يمنع طول العمر عن المألوف / كما أن الموت هو السر وهو بيد الله تعالى / والله تعالى يعلم الإمام (ع) المنهاج الأقوم في المعيشة لإدامة الحياة
- (ثانياً) المسلمون جميعاً يؤمنون بأن بعض الأفراد عاشوا حتى آلاف السنين )))
(ثالثاً) ما الحكمة من ذكر طول عمر نوح (ع)؟
((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)) العنكبوت:14
قال المفسرون ما محصله أن الكلام موجه إلى:
(أولاً) النبي (ص) لما ضاق صدره من إصرار الكفار على الكفر فإن الله تعالى يقول له أن نوحاً (ع) بقي يدعو قومه ما يقرب من ألف سنة وبقي صابراً ولم يضجر، فأنت أولى بالصبر لأنه لم يمض على دعوتك سوى بضع سنوات كما أن عدد أمتك أكبر؛
(ثانياً) الكفار، أن لا تغتروا بعدم نزول العذاب عليكم فإنه آتيكم
هنا نقطتان من دقائق القرآن:
1-قال "سنة" في ((ألف سنة)) ثم قال "عام" في ((خمسين عاماً))، بينما كان يمكن أن يستخدم واحداً منهما في العددين؟
ذهب بعضهم إلى أن تكرير اللفظ ضعيف بلاغياً إلا إذا كان لغرض مطلوب؛
وذهب آخرون إلى أن "السنة" تطلق عادة على سنوات التعب والقحط في حين أن "العام" على الرخاء – مثلما جرى مع يوسف (ع) من السنوات العجاف التي أعقبها ((عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون))، فكأن نوحاً (ع) بقي "ما يقرب من ألف سنة" من التعب الشديد نتيجة عناد قومه ثم جاء بعدها زمن الراحة بعد الطوفان فقال ((إلا خمسين عاماً)).
2-قال ((ألف سنة إلا خمسين عاماً)) ولم يقل "تسعمائة وخمسين عاماً"، فإن القرآن استخدم المئات ((ولبثوا في كهفهم ثلاثمائةٍ سنينَ وازدادوا تسعاً))، لأنه – كما ذكروا – يؤكد المدة 950 تماماً، فإنه لو قال الثاني فلربما يظن أنه على التقريب، ولكن عند الاستثناء فإنه يدل على التحقيق لأن هناك تفصيلاً للأمر.
**هذه النقطة الثانية محل الاهتمام في موضوعنا – نقطة استخدام لفظة "ألف" في الوقت الذي كان يمكن الاستغناء عنها لأن المدة كانت أقل من ألف، وعنها أقول:
- كلامهم عن التقريب والتحقيق ممكن ولكنه ليس قوياً، لأن الله تعالى لو شاء التأكيد على التحقيق لاستخدم طريقة قصة أهل الكهف دون الحاجة إلى الذهاب إلى عدد أكبر – وهو "ألف" – ثم إرجاعه إلى العدد الحقيقي باستثناء "خمسين"؛
- يمكن القول أن ذكر لفظة "ألف" تناسب أكثر ما ذكروه من تفسيرهم أن المقصود الأول هو رسول الله (ص) كي يصبر على عناد قومه بأن ينظر إلى المدة الطويلة جداً لدعوة نوح (ع) وهي "ألف سنة" إلا قليلاً، أي يضع نصب عينيه هذه المدة الطويلة جداً؛
- ولكن هذا ضعيف هو الآخر، لأمور:
(الأول) أن مدة الدعوة المحمدية نسبتها إلى "الألف" هي نفسها تقريباً نسبتها إلى "تسعمائة وخمسين"، أي قصيرة جداً، فلا يحتاج القرآن إلى الذهاب إلى ما هو "أعلى" + الاستثناء
(الثاني) أن رسول الله (ص) لم يضجر من عناد الكفار وكأنه ضاق ذرعاً بالأمر ولم يعد يستطيع المواصلة، ولكنه شكى ربه من محدودية إمكانياته التي بين يديه ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين)) وظروفه الصعبة معهم ((إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أو قريب ملكته أمري))، وأيضاً استخدامهم الوسائل القذرة في محاربته في اتهامه بالكذب والجنون والسحر والشعر فكان ذلك يؤذيه ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ)) الحجر:97، أو حتى تكذيبه بحيث أن ربه يسليه بأن التكذيب له سبحانه ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ)) الأنعام:33
(الثالث) أن الكفار من قوم نوح (ع) لم يكونوا هم أنفسهم طيلة هذه المدة الطويلة، فإنهم كانوا أجيالاً كثيرة، ونوح (ع) هو الوحيد الذي عاش تلك المدة الطويلة، وعليه فكان ينتظر من نوح (ع) الصبر مع كل جيل بنفس الدرجة، أي يستأنف الصبر مع كل جيل – على شدة هذا دون شك في ذلك ولا تقليل من طول صبره (ع)
(الرابع) أننا نجد أن نوحاً (ع) وصل إلى القناعة بامتناع هؤلاء عن الإيمان فدعا عليهم ((وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)) نوح:26-27 أي الأجيال القادمة ستكون من الفجار الكفار، في حين أننا لا نجد في القرآن ولا في النصوص الحديثية أو التاريخية ما يقول أن النبي (ص) وصل إلى هذه المرحلة، بل روي أنه هو في حال الجراحات التي تعرض إليها في أحد، والمسلمون منهزمون، وقد نودي أنه مات، كان يقول ((اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون)) و ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
**وعليه، فإن ما أجده قوياً هو أن لفظة "ألف" مقصودة للأمرين:
(1)مدة الدعوة (2) العمر ذاته
وأن "قصد العمر في الألف" يعطي قضيتين:
(الأولى) إمكانية العمر المديد لأي إنسان يشاء الله له ذلك
(الثانية) أن انتظار ظهور الحق على الباطل يمكن أن يستمر في حياة شخص واحد، وإلا لأمات الله نوحاً (ع) ثم بعث نبياً آخر فآخر وهكذا حتى يؤمنوا أو لا يؤمنوا ويحصل الطوفان
وإلا: ما الذي يعنينا في مدة بقاء دعوة نوح(ع) 950 أو 600 أو غيرها؟ ما الفائدة التي نجنيها نحن من ذلك؟
((( خلاصة ما تقدم:
أنه بغض النظر عما قاله البعض في الحكمة من ذكر مدة الدعوة الطويلة لنوح(ع) في زمان النزول، فإن الآية تقول: (1) أن عمر الإنسان – أي إنسان – يمكن أن تمتد لألف وأكثر (2) أن مدة الدعوة إلى الحق يمكن أن تستمر في عمر إنسان واحد مهما طالت)))
الخلاصة مما يستفاد من النبوة المبكرة ليحيى (ع) والعمر المديد لنوح (ع)
لماذا يذكر القرآن هذا؟ عندنا المعطيات التالية:
1-ما قصه القرآن هو بعض الرسل والأنبياء (ع) فحسب ((وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)) النساء:164، وعليه فمن الممكن أن أنبياء آخرين عاشوا زماناً طويلاً
2-أن ذكر نوح (ع) مقصود لذاته في جميع تفاصيله، أي في الطوفان وغيره فلا نستطيع استثناء أي تفصيل ومنه طول العمر
3-لا بد أن يكون هناك فائدة من كل كلمة قرآنية
4-لا بد أن تبقى هذه الفائدة قابلة للعطاء بعد زمان النزول، حسب الظروف الموازية
5-كلما كان الأمر أهم كلما كان النظر التدبري للاستفادة من آيات الكتاب مطلوباً أكثر.
وعليه، فلا بد أن:
- يكون هناك تأسيس لقبول حالة العهد الإلهي لإنسان ما يؤدي مهمة استثنائية وهو في عمر الصبا
- يكون هناك تأسيس لقبول حالة العمر المديد غير المألوف لإنسان ما يؤدي مهمة استثنائية طالما تطلبت الدعوة هذا.
فإذا كانت (أ) النبوة المحمدية هي الخاتمة، و (ب) القرآن هو الكتاب الخاتم المهيمن على ما سبقه، فلا بد أن يكون هذا التأسيس المشار إليه أعلاه – العهد في الصبا والعمر المديد جداً – للاستفادة منه في مرحلة ما بعد زمان التنزيل، أي بعد العهد النبوي. وهذا ما نجده مجتمعاً في شخصية محمد بن الحسن (ع) الذي نعتقد بإمامته وولايته على الناس.
عوداً على بدء: نقطة الخلاف الأهم في موضوع المهدي(ع)
المسلمون السنة يؤمنون بأن المهدي المنتظر هو رجل يولد في زمان ظهوره ثم يظهر بعد ذلك، أي بالطريقة المعتادة المتوقعة، في حين أن الشيعة يؤمنون بأنه وُلِدَ للإمام الحادي عشر الحسن العسكري(ع) وعليه يكون هو الإمام الثاني عشر، تمام عدة الأئمة أو الخلفاء أو الأمراء الذين صرحت بهم الأحاديث النبوية في كتب الفريقين.
وهذه النقطة بالذات، الإثنا عشر إماماً، هي التي لا حل لها إلا بالقول بإمامة أئمة أهل البيت الإثني عشر(ع) من جهة، والقول بإمامة محمد بن الحسن العسكري(ع) من جهة أخرى. فإنه لم تستطع مدرسة أهل السنة، ولم يستطع عالم أو باحث أو محدث منها، تسمية إثني عشر رجلاً يمكن تطبيق أحاديث النبي(ص) عليهم إلى درجة أن البعض تخبط فيها بشكل يدعو للرثاء حقاً.
بعيداً عن هؤلاء المتخبطين، فإنه طالما اتفق الجميع على أن هناك رجلاً يسمى الحسن بن علي العسكري(ع) وأنه كان من البارزين في العلم والفضل، وأنه هو الحادي عشر في تلك السلسلة المباركة التي بدأت بعلي بن أبي طالب(ع)، وطالما أن هناك من المسلمين طائفة تقول بإمامة هؤلاء الأحد عشر جميعاً، فلا يبقى إلا الثاني عشر لإتمام السلسلة المباركة، وهذا لا يوجد له حل إلا إمامة المهدي محمد بن الحسن(ع) – سواء كان صغيراً، طويل العمر إلى درجة غير مألوفة، غائباً عن الأنظار، أو أي شيء آخر، فإن حديث النبي(ص) يبقى نصاً لا يمكن التلاعب فيه، فآمنا به والحمد لله رب العالمين.
الحجج القرآنية في كلمة واحدة
إذا جمعنا:
ضرورة العصمة والتسديد الإلهي التام لتحقيق الوعد الحتمي لظهور الإسلام على الدين كله
+ وجوب طاعة أولي الأمر، عموماً وتحديداً من الرسول (ص) واجب الطاعة
+ وجوب التصديق برسول الله (ص) فيما أخبرنا به من الأئمة عدداً وتشخيصاً
+ إمكانية حصول ما نعده من غير المألوف في الثاني عشر من الأئمة المشخصين
+ عدم وجود أي تشخيص آخر يعارض هذا التشخيص
عندها تصبح العقيدة الإمامية الإثنا عشرية هي الوحيدة التي تقدم الأطروحة المتوافقة مع القرآن بخصوص المهدي المنتظر (ع).
العقائد والعامل النفسي
المهدي المنتظر عند أهالي سامراء – العراق
أهالي سامراء في العراق نجد فيهم الاعتقاد بمهدوية الإمام محمد بن الحسن العسكري(ع)، مع أنهم فقهياً شافعيو المذهب وأصولاً على مذهب الأشعري كما هو حال أهل السنة، وفي هذا أكبر دليل على قوة العامل النفسي في العقائد، فإنهم لم يهتموا بالمناقشة العقلية التي لأهل السنة ضد عقيدة المهدي بن الحسن العسكري(ع) عند الشيعة بل ذهبوا مع ما دلتهم عليه قلوبهم في الارتباط الروحي مع أهل البيت(ع)، ولا سيما الإمام العاشر علي الهادي(ع) الذي له عندهم مكانة لا تعلو عليها سوى مكانة النبي(ص). فهذه قبة المهدي يصلون تحتها، وهذا سرداب بيت الإمام(ع) يقومون برعايته وخدمة زائريه. ولهم في الإمام المنتظر(ع) ذكر في شعرهم ومؤلفاتهم وأفكارهم.
ويبدو أن هذه المسألة تجد طريقها إلى من توجه بالإخلاص والرغبة فيما عند الله وحده لا شريك له، فقد كانت أمي رحمها الله – السنية على مذهب أبي حنيفة – شديدة الاعتقاد بالإمام المهدي، "صاحب الزمان"، تذهب من بغداد إلى سامراء لزيارة جده وأبيه(ع)، وتنزل إلى السرداب لتدعو من هناك (منذ زمان سادن السرداب المرحوم السيد مصطفى النقيب والد المرحوم اللواء حسن النقيب زوج ابنة عمي الكبرى، وما بعده).
· نقطة إلفات إلى حال المسلمين اليوم وآيات سورة المائدة 54-57:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))
وقد ورد أن الآية الأولى تتعلق بالنهضة المهدوية على اعتبار:
- الارتداد الفكري والسلوكي للمسلمين؛
- أيضاً بلحاظ صفة هؤلاء الذين استبدل الله بهم المرتدين ((يحبهم ويحبونه)) وهي صفة عالية جداً إتفق على أنها أطلقت على علي (ع) فتأمل عظمتها
- وأنهم ((أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)) أي العكس تماماً من حالة "المنبطحين" اليوم وقبل اليوم
- وأنهم ((لا يخافون لومة لائم))
- وأن هذا ((فضل الله يؤتيه من يشاء)).
أما الآية الأخيرة فهي ترسم صورة المنهي عنه في العلاقة مع الآخرين ذوي المواقف المعادية، والتي هي على العكس تماماً من الحلف الوهابي-الصهيوني الذي لم يتبق له سوى أن يخرجوا على التلفزيون ليوقعوا الاتفاق عليه لأنه يتحرك على أرض الواقع دون أدنى شك.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على نبينا محمد وآله الأطهار.